سنة الله تعالى في الحياة قائمة على التغير والتبدل في الإنسان والحيوان والنبات ، بل حتى الأرض التي نعيش فوقها ونمشي عليها يطرأ عليها التبدل والتغير ما بين خصب وجدب ومد وجزر وهذه آية من آياته تعالى في خلقه وصنعه(سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (. هذا الإنسان يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً ثم ينشئه الله خلقاً آخر وينتقل من طور إلى طور يكون طفلاً ثم شاباً فكهلاً فشيخاً كبيراً لا تستقر حياته على وضع معين في الخلقة والنشأة ؛ لأن دوام الحال من المحال كما قيل ، لا حزن يدوم ولا شقاء ، ولا فرح ولا سعادة ، فالإنسان في أطواره المختلفة يُتداوله الصحة والمرض ، والفقر والغنى ، والقوة والضعف ، والنصر والهزيمة ، والنجاح والإخفاق ، وهكذا دواليك هذه السنة تعمل عملها في الأفراد والمجتمعات ، كما أنها تعمل في الدول والحكومات ، وما سميت الدول بهذا الاسم إلا لأنها لا تستقر ولا تثبت لشخص واحد أو لجماعة أو لحزب أو فئة لابد من التحول والتغيير ولقد أحسن أبو البقاء الرندي الذي شاهد انهيار الدول الإسلامية في الأندلس بعد العز والرفعة والمجد فقال في مرثيته الشهيرة : لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان وهذه الدار لا تبقي على أحدٍ ولا يدوم على حال لها شان فالذين يريدون إقناع الناس بالثبات والديمومة لحاكم بعينه أولحزب دون غيره هؤلاء لم يفقهوا سنة الله تعالى فهم مخدوعون خادعون ، ضالون مضلون ، يريدون تغيير سنة الله ومصادمتها فهم في ذلك كما قيل : كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهي قرنه الوعل الحركة والتغيير سنة ثابتة لا تتوقف ، كل شيء متحرك غير ثابت الكل يسير ويجري وفق ما قدره الله القدير فهذه الشمس تسير بسرعة كبيرة ، لو توقفت لفسدت الحياة ولملها الناس على الرغم من أهميتها لهم ، وكذا الماء حين يكون راكداً فإنه يفسد ويأسن وقد بين الله تعالى حركة الأجرام وسيرها الدائب فقال سبحانه ): لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (. ورحم الله الإمام الشافعي الذي قال مؤكداً لهذه السنة والحقيقة : إني رأيت وقوف الماء يفسده إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب والشمس لو وقفت في الفلك دائمة لملها الناس من عجم ومن عرب فالثبات والجمود دليل الموت وتوقف حركة الحياة وفيما يتعلق بجانب إدارة الدول وسياسة الشعوب تعمل هذه السنة عملها وتفعل فعلها في قوة الدول وازدهارها أو ضعفها وسقوطها وزوالها . ولهذا فقد علم الأوربيون حقيقة هذه السنة من خلال البحث والتجارب وبعد حروب وصراع طويل ، توافقوا فيما بينهم على أن يمنحوا من يحكمهم أربع أو خمس سنوات ، قابلة للتجديد ومنح الثقة لمرة واحدة فقط ؛ لأنهم وجدوا أن قدرات الإنسان وكفاءته وإبداعاته في إدارة الدولة تتضح من خلال هذه الفترة ، فإذا ظهرت كفاءته منح فترة أخيرة لإنجاز ما بدأ فيه وإكمال خططه وبرامجه التي يخدم بها شعبه ، فإذا انتهت فترته انصرف بهدوء وجاء من يخلفه ، فلا تمديد عندهم ولا توريث وقد كانوا في ماضيهم تحكمهم ملوكهم وقساوستهم بالقهر والإذلال ويعاملون كالقطيع ، ولكنهم ثاروا وأسسوا لأنفسهم طرقاً للحكم ارتضوا بها واصطلحوا عليها فأراحوا أنفسهم في هذا الجانب وأغلقوا ملفات ماضيهم الأسود المفجع ، وتفرغوا للعمل والبناء والإبداع في مختلف مجالات الحياة . هذه السنة كان أولى من يأخذ بها ويطبقها هم المسلمون الذين بين الله لهم في كتابه هذه السنة وكشف لهم طبيعة الحياة وحقيقتها في قوله الكريم: )إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ (. المراد بالأيام أزمنة الظفر والفوز ، يداولها الله بين البشر ، فيديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء ، تكون الدولة لهؤلاء مرة وهؤلاء مرة ، ومداولة الأيام سنة من سنن الله في الاجتماع البشري . والمداولة في الواقع تكون مبنية على أعمال الناس فلا تكون الدولة لفريق دون آخر جزافاً وإنما تكون لمن عرف أسبابها وأخذ بها . وليست هذه السنة مختصة بالمسلمين بل كل من أخذ بها استفاد منها ولهذا قال سبحانه :) وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ( ولم يقل : بين مؤمنين وكفار والناس البشر كلهم ؛ لأن هذا من السنن الكونية التي يشترك فيها الناس جميعاً ، والمسلمون أحق بذلك من غيرهم إن هم فقهوا مراد الله وعملوا بمقتضى كتابه وسنة رسوله . هذه الآية نزلة بعد معركة أحد لتبين قوانين النصر والهزيمة كما أشارت إلى النصر الذي تحقق للمؤمنين في بدر ، والانكسار الذي حصل لهم في أحد وسببه ثم ذكر سنة التداول والحكمة من ذلك وقد أخبر الله تعالى في تمام هذه الآية والتي بعدها بالحكم العظيمة من علو الباطل وانتصاره وظهوره ، وإن كان ظهوراً مؤقتاً ومن تلك الحكم : تمييز المؤمنين من المنافقين )وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ( فإن إدالة الباطل على الحق تظهر المنافقين المندسين في الصف من جحورهم لفرحهم بهذه الإدَالة التي كانوا يسعون إليها ، فينكشف أمرهم ، ويتميز بذلك المؤمنون الصادقون من أهل النفاق . اتخاذ شهداء من المؤمنين كما قال سبحانه ): وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) فالشهادة كرامة لا ينالها إلا من اختاره الله واصطفاه لها . ومن الحكم تمحيص المؤمنين قال تعالى )وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا)أي يبتليهم ويختبرهم ليكفر عنهم من ذنوبهم ، ويرفع لهم في درجاتهم جزاء صبرهم ويقينهم وثباتهم . ومن الحكم التي ذكرها الله محق الكافرين(وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (أي : يستأصلهم بالهلاك فإنهم إذا ظهروا وكانت الدولة والجولة لهم ، بغوا وبطروا ، فيكون ذلك سبباً لهلاكهم ومحقهم وفنائهم ، وذلك أن شجرة الباطل لا قرار لها ولا جذور ، فكلما علت كان ذلك إيذاناً بسقوطها وتهاويها مهما طال الزمن في حساب البشر ، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً . ثم أعقب ذلك بحقيقة كبرى ، وهي أن الجنة لا تنال إلا بالجهد والجهاد والصبر والكفاح قال تعالى : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ . فلابد من بذل النفوس والأموال في سبيل الله وإعلاء كلمته بالسيف والسنان ، أو بالحجة والبيان ، حسب ما تقتضيه ظروف الزمان والمكان . إن الجنة سلعة الله غالية وثمنها غال ، وهي محفوفة بالمكاره ، فعلى المؤمن أن يبذل وسعه وطاقته في سبيل مرضات الله ودخول الجنة والصبر على الحق في كل الأحوال ، فلا تنال الجنة إلا على جسر من التعب . إن التداول والتغيير هو هم الناس ومطلبهم والتغيير يبدأ من الرغبة ، فقد ربط الله التغيير بطلب الإنسان ورغبته وترجمة تلك الرغبة بسلوك وعمل كما قال الله تعالى : فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى . التغيير إذاً يبدأ من داخل النفس لا من خارجها سواء بالارتقاء ، أو بالانتكاس والهبوط قال الله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ فإذا وجدت الأسباب فالنتائج تتبعها . وقد يدور سؤال في أذهان البعض لماذا التغيير ؟ وما هي دوافعه ؟ وقد حاول بعض الباحثين الإجابة عن ذلك ومن خلال استقرائه وجد أن التغيير قد يكون بسبب مشكلات يعيشها الفرد أو المجتمع فيبدأ في البحث عن حل لها للخروج منها وهذا يقتضي منه تبديلاً وتغييراً وبحثاً وتنقيباً عن حلول . وقد يكون سبب التغيير هو القضاء على الملل والروتين فيحب الإنسان أن يغير ، هذه طبيعة في البشر قد يعيش الإنسان في أرقى القصور وبكل ما فيه من رفاهية ونعيم ولكنه يسأم ويبحث عن التغيير فنراه يخرج إلى الحدائق والصحاري وغيرها بحثاً عن متعة وتغيير ، وقد يصيبه من ذلك الوعثاء والنصب هكذا هي الحياة الدنيا ولا يوجد النعيم المقيم الذي لا يسأم الإنسان منه إلا في الجنة ولذا قال الله عن أهل الجنة : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً . ولقد مل الناس والشباب بالذات في العالم العربي من الانتخابات المتكررة وما يحدث فيها من معارك وما يهدر فيها من أموال وما يصبحها من تزييف وتزوير ثم يرون الأشخاص هم الأشخاص والبرامج هي البرامج والسياسات هي السياسات والواقع يزداد سوء يوماً بعد يوم فملوا هذا العبث وخرجوا عن المألوف وتجاوزوا الأطر وخرجوا من القمقم وأخذوا بزمام المبادرة . هذه حقيقة لابد من الاعتراف بها والتعامل معها لقد أصبحت واقعاً جديداً يصعب تجاوزه أو القفز عليه . وقد يكون دافع التغيير هو أن الفرد أو المجتمع يريد أن يرفع من قدراته وكفاءته واكتساب مهارات جديدة تستفاد من خلال التجارب والمعاناة والبذل . وقد يكون دافع التغيير عند الشباب بالذات هو مواكبة التقدم والتطور وهذا دافع قوي فالناس سابقاً كانوا يستخدمون وسائل نقل بدائية من الخيل والحمير والبغال والجمال ثم ما زالوا يبحثون عن التطور والتقدم حتى استطاعوا أن يطيروا في الهواء ويمشوا على الماء ثم ما جدت من وسائل العلم والاتصال والمعلومات كل هذا فرض على الشعوب تغيرات وتحولات ضخمة بعض هذه التغيرات لا تعجب بعض القادة والزعماء الذين يريدون من شعوبهم أن تبقى ذليلة خاضعة جاهلة .. وهذا عصر يبدو أن أهله قد تحرروا من ذلك . أيها المؤمنون : إنه لابد من إحداث تغيير حقيقي نبدأ به في أنفسنا ، نغير السلبيات التي تسيطر علينا إلى إيجابيات فالذي يمتهن الكذب عليه أن يترك ويتحلى بالصدق ، والذي تعوّد على الفوضى والعشوائية في حياته عليه أن ينظم أموره ويجعل من النظام شعاره ، ومن يأخذ الرشوة عليه أن يمتنع عنها ، ومن يشهد الزور لابد من أن يتركه ويهجره ، ومن يسيء إلى جيرانه عليه أن يترك أذيتهم ويعمل من أجل الإحسان إليهم ومن يقطع رحمه ويعق والديه عليه أن يغير تعامله معهم فمن القطيعة والعقوق إلى البر والإحسان والصلة وفعل المعروف . وهكذا علينا أن نبدأ ثورة تغيير وتصحيح داخل نفوسنا وليكن الهدف من ذلك هو تحقيق العبودية لله والعمل بطاعته وطاعة رسوله وابتغاء مرضاته ، إذا قام كل فرد بما يجب عليه في مجاهدة نفسه وإصلاح أمره نكون قد هيئنا أنفسنا لرحمة الله وليغير الله أحوالنا السيئة إلى أحوال طيبة يعم فيها الأمن والإخاء والأخوة والوفاء ويرفرف الخير والعدل على ربوع بلادنا ، ومفتاح ذلك كله بأيدينا إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ . اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينا ما علمت الحياة خيراً لنا وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا . اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضى ونسألك القصد في الفقر والغنى ، ونسألك نعيماً لا ينفد ونسألك قرة عين لا تنقطع ، ونسألك الرضا بعد القضاء ، ونسألك برد العيش بعد الموت ، ونسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة .