كنت مع صديقتي ، و ثلاث من الصديقات في سيارة صديقتي تقودها هي ، عائدات من عزاء بكينا فيه و لم نشبع! كانت هي تقود سيارتها بأنف محمر. انا اتنهد بحسرة واتوجع من لهيب في عظم ضلوعي. صديقاتنا الثلاث في الخلف يطلبن الرحمة للمرحوم و يقرأن له الفاتحة. صديقتنا التي ذهبنا لتعزيتها فقدت فلذة كبدها. ابنها في اول عشريناته ، بهي الطلعة و منير الشباب مات في غربته حيث كان يدرس و هو في فراشه نائم. كان يشتكي من مرض و كان ذلك السبب الذي سببه اللهلمجيء الأجل. تناقشنا كم هو صعب " الفقد". قالت الاغلبية ان فقد الابن او الابنة هو الأصعب، لأن الأم تفتقد شيء منها او لنقل بعض من روحها لا يعود اليها طوال عمرها المتبقي. اختلفنا في من القريب الأصعب للنفس فقدانه. قالت صديقتنا الجالسة في الخلف:- " الا و الزوج والله ان هو عمر الزوجة كله يروح من بين يديها. الزوج فقدان شريك و معين في الحياة." اضافت صديقتي التي تقود :- " بلا معين بلا مراد ، ليس مثل فقد الابن او الابنة مثيل. فاجعة فقد اي منهم و لا يمكن تتعافى الأم بعدها. لكن بعد الزوج تمر بها الحياة و الزمن احسن دواء." قرأن عليه الفاتحة و دعونا الله ان يزكي امه عقلها و يقوي قلبها. فقد كانت في زاوية الغرفة تتلقى العزاء دون ان تعي من يعزيها ، و من يسلم عليها ، من يحتضنها ، من يبكي على كتفها. بل بدت عينيها الزائغات كأنما لا تبصر . تحدثنا ان الموت مدري ماله صار مجاور لنا نحن اليمنيين. ليس فقط يموت اليمنيين في القصف ، و لا حتى المقاتلين في الحدود يموتون فحسب. بل يموت الكبار في السن خوف بعد القصف فيقضون في جلطة او سكتة قلبية من شدة الخوف. و يموت البالغين الراشدين من المعاناة المادية مما ينتج عنها امراض الضغط المرتفع ، و امرا ض القلب مما يؤدي الى الموت ايضا. و يموت الشباب من حالتهم النفسية ، التي تنتج عنها عزلة و احباط و حزن و الحزن ممرض اذا عظم. فيموت شبابنا و هم احياء ُيرزقون. اما الاطفال فيموتون جوعا و فقر دما و ضياعا و تشردا و اهمالا. لكن مال حتى شبابنا الدارسين في جامعات الخارج يتساقطون مثل ورق الشجر و هم لا سمعوا قصف، و لا عانوا من الحاجة بسبب احتجاز رواتب الشعب اليمني . مالهم يموتون في حوادث سقوط من الأعلى ، او موت خلال النوم. شباب هؤلاء ، ما ارحم الشاب يموت في هكذا ظروف، وطنه ُيقصف، قلبه معلق باليمن ، فوق ارض غريبة لا بجانبه ام و لا اب و لا يدنو منه وقت احتضاره اخوة. لكن! حب اليمن يجلب حتى للبعيد حزن جم و الحزن يقتل. الحزن يقتل و انا اشهد . وصلنا في تلك اللحظة ميدان السبعين الذي طالما شهد و عاصر. فوجئنا بالحجار التي تفصل بين اتجاهي الميدان قد صارت مصفوفة بعناية بعد ان تم طلائها باللونين الاحمر و الابيض و قد كن بلا لون و لا ملامح، واحدة يمين و الاخرى شمال. تحول ميدان السبعين الى اللون الأخضر بسبب كثرة اللافتات الكبيرة المحتفلة بمولد نبينا محمد. حتى سور حديقة السبعين لم ارى السور من تلاصق اللافتات الخضراء. قبب خضراء ، سور قرآنية كأنما دخلت اليمن في الاسلام للتو. احنا –على فكرة – اسلمنا منذ أمد بعيد. حتى السماء يا ربي التي كنا نرسمها صغارا في المدارس باللون السماوي ، كادت تخضر من تداخل خيوط الهلاهيل الخضراء المثلثة الشكل على عرض الميدان. ما علاقة هذه المثلثات الخضراء و ما علاقة اللون اصلا بمولد سيد الخلق؟ انا لا اريد ان افهم. رأينا حراثة و جمع من الرجال يزيلون آثار حطام المنصة التي استهدفها القصف السعوديالاجرامي ،المتعنت ، قبل فترة. علقت صديقتي التي تقود سيارتها :- " على فكرة هذا استفزاز! الناس بلا رواتب ، تموت وتحيا لتوفير المأكل و المشرب ، الايجار و العلاج وفنايل للبرد و البترول. اساسيات المعيشة و حكومة الوفاق تحتفل! هذه اللافتات يقارب سعر الواحدة منها المائة دولار. بخلاف ايجار عرضها في الميدان. كان الاجدر بحكومة الوفاق ، ان توفق بين حالة الناس و بين هذا الاحتفال. كان يكفي اجازة و اعلان في التلفزيون و اناشيد في حب رسول الله. " اضفت انا :- " فعلا، لا اعتراض على الاحتفال ، فكل أمة تحتفل بمولد نبيها . لكن لم يكن مناسبا و الناس ميتة جوعا و بردا و الحكومة تنفق على لافتات و هلاهيل خضراء. ليس الحب بالاحتفال. لماذا لم تراع الحكومة مشاعر الجوعى ، المشردين ، النازحين بردا و جوعا؟ " قالت صديقتنا الجالسة في الخلف بحدة:- " بعدين يدفعوا رواتب الناس و يحتفلوا حينئذ حتى ساعات الصباح الاولى! مثل اسرة تحتفل بعيد ميلاد ابنها فتشتري الكيكة ، الشموع ، البالونات و هم لا يملكون خبزا يتعشون به عقب انصراف الضيوف!" قالت صديقتي التي تقود السيارة:- " و هذه الشناشير ،مدري هلاهيل ،مدري خرق ! مدري ايش اسمهم. كمان بفلوس. لا تستهينن بها. ُتأكل أسر مختبئة بجوعها داخل بيوتها." غضبت صديقتي الجالسة في الخلف فطلبت من صديقتي ان تبطيء سرعة القيادة ، فتحت النافذة و اخذت تلتقط صور للافتات - و السماء التي سبحانك يا ربي اخضرت- لكي تعرضها و تعلق عليها في صفحتها في الفيس بوك. في تلك الاثناء مرت سيارة بجانبنا بداخلها شباب بشعر داعشي يهتفون مليء السماء " الموت لأمريكا ، اللعنة على اليهود الله اكبر الله اكبر." هجمت علينا رغبة مفاجئة في الضحك حد القهقهة. ضحكنا حتى سالت الدموع. قلت انا ، و انا امسح عن عيني دمع ضحكها. هم يضحك يا عيني و هم يبكي . قالت صديقتي :- " إنا منهم صدق؟ وينهم الامريكان؟ هوذاكتفاوضوا معهم في الرياض. و ليش اللعنة على اليهود ، ما فعلوا بنا؟ يهود اليمن اكثر اليهود مسكنة. كان المفروض اذا ضروري يصرخوا أن يلعنوا الصهاينة. اما اليهود فمدينين بديانة سماوية، ما اخترعوهاش من روسهم! " هل جربت حالة الضحك اللاإرادي التي تباغتنا احيانا فنضحك لأسباب سخيفة و احيانا بلا سبب. و لا نستطيع التحدث من شدة الضحك. حذرت صديقتي ان تحرص في قيادتها لأن الضحك كان قد غلبنا بحيث كادت تلقي بجبينها فوق مقود السيارة. تتمتم " قلك الموت لأمريكا ههههه. الموت لأمريكا و هات ما قتل لبعضنا البعض!" في تلك اللحظة المنيلة بنيلة اقتربت منا السيارة التي تحوي الشباب بالشعر الداعشي الغجري المجنون ، صاح احدهم بصديقتي التي كما يبدو لمحوها تصور ، صاحفيها : -" جنبيييييييييييييييين ، ما بتصوري؟! " ازدردنا ريقنا كلنا خوفا. اجابته صديقتي السائقة :- " احنا وسط الميدان ، كيف نجنب؟ عنجنب عند الحديقة ."زمجر بغضب :- "جنبااااي." صديقاتي في الخلف انبطحن ، رمت صديقتي موبايلها من النافذة بلا وعي منها من شدة الخوف. هو كان يوم منيل من اوله على فكرة. لا و أيش؟ هذا كله ونحن نغالب الضحك. معركة مخيفة ، من ينتصر؟ الضحك ام الخوف؟ توقفوا و اخذوا موبايلها من الارض و لحقوا بنا الى اللفة المؤدية للحديقة. نزلنا و قالت صديقتي سائقة السيارة :- " انتم بأي حق توقفونا؟ اين صفتكم الرسمية؟" قالها و هو يرفع ابهامه حركة هلال فوق حاجبه :- " الدددج." اجابته و هي تبارز الضحك بسيف مسنون :- " ايش يعني معناها الكلمة؟ " قال لصديقتي :- "ذيهجوالشهاه. مالش رجمتي به؟ هيا روينا ما صورتي؟" فتحت و عرضت عليه لافتات الاحتفال بمولد النبي. شرحت له انها اخذتها للذكرى ، قال :- " للذكرى؟ الدددج!" سألته عن معنى الكلمة و هي تمسح عن فمها قنبلة ضحك كادت تنفجر. سألها :- " وماهو الذي بيضحوكن؟" اجبت انا :- "عيب ياخي مالك؟ ليش قد حتى الضحك منعتوه؟" قالت صديقتي سائقة السيارة :- " بعدا هن النساء يضحكين من نكت سخيفة حين هن اصلا تافهات و بقر." ارتاح الرجل وانفرجت اساريره. التفت لصديقه مضيفا:- "ماهن صدق يضحكوين من نكات سخيفة حن هن بقر. مالك ذياك اليوم دخلت و المرة حقي بتضحك على فيديو رجال خطي و تزحلق بقرشة موزي. مش مضحك بالمرة و المرة قد عتموت من الضحك. هن هكذا المكالفبايخات" اندمجا في الحديث حتى لميلحظا اننا عدنا الى السيارة و تحركنا و ابتعدنا و هم واقفين هناك تحت السماء الخضراء يتندرون من سخف النساء اللواتي يضحكن من نكت لا ُتضحك. أيدتهم و وافقتهم بحزن ، فقد كنا نضحك داخل السيارة من مأساة حلت باليمن ، و هذا ليس مضحك البتة ؟!!! لمتابعة قناة التغيير نت على تيلجيرام https://telegram.me/altagheernet