لا تحمل باقة الورد المحترمة إلى مريض يتضور جوعاً، وإياك والتفكير في إرسال بطاقة تهنئة لعريس يقف واجماً أمام أخصائي أمراض الذكورة. وما حدث في اليمن منذ 2011 حتى اللحظة، ليس ثورة على ما كنا نقول، ولا أزمة كما يقول أنصار صالح، لكنه أعراض بركان كبريتي امتصته إسفنجة مبتلة بقواقع التخلف، كما هو ركام أزمة استحالت جذاماً. إن لم يكن هذا ما حدث، فما هي التسمية الأقرب إلى الواقع..؟ حالة وبائية؟ طفح جلدي حاد؟ عدوى إصابة بداء الكَلب.. لو كان شيئاً من هذا القبيل ما بلغ الحال حد الاستعصاء.. هل نسميه جزءاً من "برمودا" يمني يمتص رحيق الآمال في سبيل صناعة الملهاة..! "برمودا" المثلث القاتل من القبيلة إلى المشترك فالنظام السابق.. ذاته "برمودا" التحالف المشبوه بين المال المسروق والسلاح السائب والسلطة المتفلتة. كان الزمن قد أنجز استحقاقه، والممارسة أنضجت ظروف الانفجار الهائل، وبات لدينا في كل بيت ومدينة مشروع ثورة وطنية للتغيير. وحين حضر المخاض غابت القابلة، واختفى المولود، ولم يبقَ غير الأنين وطلق الولادات المتعسرة! أيّاً كان التوصيف، يظل الشبه قائماً بين معضلات الأوطان وأمراض الإنسان، ومتى حدثت الإصابة بالجرب مثلاً فإن جهد الطبيب لا يتركز على شفاء المريض قدر الاجتهاد في وضع حد لانتشار البقع الفاقعة على الجسد. هل بوسع دحباشي الجنوب الدكتور أحمد علي الشعنة، إسعافنا بطريقة جديدة غير هذه، فإذا غابت الوقاية وانكسر مشرط الطبيب، فسيظل الهرش مؤشراً على أوبئة قادمة..؟ الذين يصرون على اعتبار الأمر ثورة لا يوجد بينهم ثائر نقي أو صاحب قضية عادلة، وكذلك لا أحد على محور الأزمة يسعى إلى هدف نبيل غير هاجس العودة إلى موقع يتيح فرص الثأر، ويمكّن من الإجهاز مرة أخرى على اليمن فريسة ومرتع فساد. أولئك يعتبرونها "ثورة"، ولا يخجلون من اقتسام السلطة مع النظام المستهدف بالإسقاط، وتغيب حمرة الخجل عن وجوههم عند إثارة موضوع العزل السياسي بعيد إبرام صفقة "الحصانة"! وهؤلاء يستثمرون جراحهم ويؤلفون الكتب الفارغة من أدب الشحاتة، وكأن جريمة النهدين ليست نتاج صنائعهم ومحصلة خيالهم الكارثي ضد المجتمع! وماذا عني وأنا أكتب بطاقة التهنئة للعريس إياه؟ أقول ماذا عنا ولأي شيء يصبح اللحاق ببؤر الصراع فرض عين على الأنقياء! ذاك أن حقوق المواطنة ليست تذاكر يمنحها المؤتمر أو الإصلاح، فلماذا تصبح الحياة والحرية ورغيف العيش رهن الانتماء لأحدهما في مواجهة الآخر؟ نائف حسان وآخرون من الأنقياء يريدون من الرئيس دولة ناجزة ذات عقل ومهابة ومخلب وقرار! يقولون إنه يحكم الشمال مؤقتاً، ريثما يستكمل تأثيث بيت الحكم جنوباً، ويتأولون خطاباته قريباً من "كثير عزة": "إذا جئت فانظر شطر عينيك غيرنا لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظرُ" هل قال الرئيس السابق علي ناصر محمد أو علي عنتر أو صالح مصلح، إن عبدالفتاح إسماعيل استغل سلطته في الجنوب لتأثيث عشه الانفصالي في الشمال، أم كانت الوحدة حلمهم الجماعي رغم عفن الأيديولوجيا وأوهام البدوتاريا الأممية؟ وكيف تكون الوحدة قضية وطنية، ولدينا من يضيق برئيس من مواليد مودية..؟ غير نائف ومحمد عايش وعبدالرحمن بجاش وسامي غالب ومحمد المقالح وسام الغباري وعابد المهذري ومحمد العديني، بدوافعهم النبيلة، ثمة كتيبة من أبناء النائحة المستأجرة، يتناولون الرئيس هادي بلغة مبتذلة وعبارات سوقية لم يسمعها الرئيس السابق طوال 33 عاماً..! من منكم تابع الأسطوانات المشروخة لقناتي "سهيل" و"اليمن اليوم" (المرئية والمطبوعة) خلال احتفالات عيد سبتمبر الماضي..؟ أنا تنقلت بينهما في تلك الأثناء، وذهلت، فالقناة الإصلاحية تبث مقابلة لأحد قيادات التجمع، يتحدث فيها حول عبد ربه منصور، وبوادر حكمه العائلي، وسيطرة أنجاله على القرار السياسي... إلى آخر ما في فزورة الإعلام الخادع من اتهامات ضد رئيس يقود البلاد بعدما أحكمت التسوية شد وثاقه بحبلين كل منهما يجتذبه إليه، ثم يتنصل من التبعات.. مبعث الغرابة أن وسائل الإصلاح تردد نفس الخطاب التحريضي المؤتمري، وإذا لم يعكس الأمر توافقا في الوسيلة، فإنه يؤكد تجانساً في الغاية! تتغاير الأوزان، وتختلف أحجام المستهدفين، لكني لا أرى للأنقياء مكاناً اضطرارياً يقفون فيه خارج مربع التجاذب المزدوج، غير ضحوات البحث الجاد في ما يمكن.. نحن هذا الجيش المحارب على مختلف الجبهات، والمنكسر في عرينه، لماذا نستمزج العناد، وليس في وقت أحدنا متسع للالتفات إلى صاحبه لعله سقط صريعاً –نحن- نشبه هادي، ولكل طقوسه المفضلة في الانزواء. ومع ذلك، دعونا ننتقد الرئيس إذ يتعامل مع أطراف الصراع كما لو أن عليه الالتزام لوجبة صحية لا يجوز تعديلها، ما يدعو للاعتقاد بأنه لم يفكر بانتزاع النسخة الأصلية من مفاتيح دولاب الحكم، ويفضل العمل بالنسخة المقلدة غرار قائمته في مؤتمر الحوار! لم يحاول هادي الاقتراب من ناخبيه، ولا يعرف حتى الآن أن معظمهم ليسوا مؤتمر ولا إصلاح.. والواضح أن تجربته السابقة فرضت عليه ازدراء ذلك النمط العبثي من الانفتاح الاستعراضي والصداقات الزائفة التي اكتوى سلفه بجحودها، لكنه مع هذا لم يحسن استثمار خبرته بالناس، ولم يجرب التعاطي مع متاحاته من الخيارات الشعبية المتشيعة ليمن جديد تتوسمه على يده. وبهذا القدر أو ذاك، تمكن صالح من إرباك الرجل، وعمل وما يزال يعمل على انتزاعه من رهان ضرورة وأمل في قلوب الناس، إلى ترس في دوامة المؤتمر! وبدلاً من تفرغه للقيام بمسؤولياته، صار عليه الاشتغال بحمولات حزب لم يعد قادراً على إدارة ممثليه في حكومة الوفاق، ولا الحفاظ على كتلته البرلمانية، ومن غير المعروف إن كان للمؤتمر اهتمامات أولى من هذه! ليس على وجه الأرض دناءة تفوق محاولات استخدام اسم الرئيس السابق معبراً للتقرب من قطر، والظفر بشهادة حسن سيرة من أمن الثورة؟ ووحدهم الأنقياء قالوا كلمتهم في الماضي.. قالوها بوجود سيف المعز وذهبه، ولم يكتسبوا البطولة من السباق مع حصان جريح! في بداية الأحداث، كتبت أن الثورة لحظة تاريخية عاصفة، وليست حقنة جلوكوز تتقاطر على وريد مقطوع! وإذا كان من خطأ فادح ارتكبه رأس النظام السابق، فتطوعه في خدمة المشترك، ومنعه للناس من الامتنان لإيجابيات بدرت خلال حكمه –ربما- عن غير قصد.. وكل ما قام به من فذلكات تحاذق طوال العامين الماضيين، لا يوازي صفعة المكاشفة التي وجهها الوزير شرف الدين لحكومة النطيحة والمتردية! مستشارو السوء يحيطون بالحاكم السابق، ويستنزفون جيبه.. على أن مشكلته ليست مع هادي، ولكن مع نشرة الأخبار! ولو أن نجله صار حاكماً ما تغير موقفه.. لهذا أسأل: ماذا لو اعتزل صالح الأضواء خلال المرحلة الانتقالية، وترك المشترك يقدم بدائله، وحكومة الشيخ محمد سالم باسندوة تدخل التاريخ من على هاوية صيرة.. هل كان الوضع سيختلف ولو على مستوى تقييم الخارج لدوره في إنقاذ البلاد..؟ والواقع أننا في اليمن مثال لا يقارن بتجارب الشعوب، وإن استهوى البعض خداعنا باستعراض مراحل الثورة الفرنسية من غير تقديم مقاربات تماثل بين مسار متصاعد لثورات أنجزت صورتها لقاء ما يحرزه القطيع الموجه للحفاظ على معادلات الماضي، وتكريسها في إدارة الحاضر. منذ 48 إلى 26 سبتمبر و14 أكتوبر، لم يحدث شيء له علاقة بانفصال الأزمنة وتقاطع الحقب.. ثمة سيل دم ينداح وأرواح تحصد ومقدرات هائلة تبدد في سبيل استمرار الحفاظ على نوافير التخلف وهي تعيد ضخ ما بجوفها من ماء آسن. هذا الجزء المحدود من الصورة القائمة يكشف جانباً من إعاقات جمة تعترض الرئيس الانتقالي الذي نحمله أوزار التاريخ وأثقال الماضي وعفونات اللحد الثوري.. على هذا النحو يتحدث الأنقياء وكما لو أنهم بصدد إلقاء مسؤولية تشظيهم على كاهله، بحثاً عن رئيس يقوم بما نعجز عن تجريب قدراتنا على الشروع فيه.. يا نائف؛ أليس من حقنا بلورة خيار جديد أمام رجل ربما كان أشدنا حاجة لمتاحات لا تحاكي إفرازات الصراع التقليدي بأطرافه الحبيسة خلف قضبان الثأر وثقافة القطيع.