النظام القائم في اليمن من أكثر الأنظمة العربية تمثيلاً للمجتمع وتعبيراً عنه، ومن أكثر الأنظمة مشاركة شعبية، سواء من خلال الأطر الديمقراطية أو الأطر الاجتماعية أو الأطر الثقافية والجهوية، وهو ما أطال عهد الرئيس علي عبد الله صالح وكتب له النجاح والإنجاز. ذلك أن عهد علي عبدالله صالح كان هو العهد الأكثر إشراكاً للناس في إدارة التنمية والشؤون العامة ، لكن هذه المشاركة لم تأت من رحم النظريات ولا من جيب النموذج الديمقراطي الغربي ، بل ظلت شرعية النظام تؤسس لنفسها من خلال الإنجازات التنموية ، والإنجازات الوطنية الكبرى كالوحدة والديمقراطية الاجتماعية. يقول الأستاذ عبدالله البردوني: علي عبدالله صالح أول رئيس جمهورية من طبقة الشعب “ على اعتبار أن السلال كان جزءاً من السلطة الملكية، والإرياني والحمدي من طبقة القضاة. ولعلّ هذا يعبر عن عهد علي عبد الله صالح الذي انحاز إلى إتاحة الفرصة أمام الجميع لإدارة التنمية والشؤون العامة وفتح باب التعليم العام والنوعي للجميع دون انتقاء أو تحفظ. ومثلما نمت في عهده طبقة وسطى جديدة تمثل الطبقة الشعبية التي تعلمت وحصلت على فرصها التعليمية والاقتصادية، نمت أيضاً طبقة اجتماعية جديدة طبقة المشايخ التي كان نفوذها يقتصر في عهد الإمامة وفي عهد الثورة الأول على النفوذ الاجتماعي، القبلي والعسكري، أما في عهد الرئيس علي عبد الله صالح فقد أصبحت طبقة المشائخ تمتلك السلطة والمال والسلاح. وهذا الامتلاك لم يكن طبيعياً لأنه سرق أدوار النخب الاقتصادية والسياسية المدنية، واحتكر من خلال النفوذ الاجتماعي فرص الآخرين وأدوارهم، وصار تدخل هذه الطبقة ليس فقط معطلاً للحياة الاقتصادية والسياسية ومعكراً لصفوها، بل أصبح يشكل عائقاً كبيراً أمام انسياب القرار السياسي والاقتصادي والمدني وأمام توزيع الموارد، وأمام بناء الدولة اليمنية الحديثة وتأسيس مرجعية النظام والقانون، بل ليصبح هؤلاء فوق النظام والقانون باسم الأرض والسماء على حد سواء. كان تعويل الرئيس علي عبد الله صالح يستند على إذابة هذه الفئة الاجتماعية في العملية الديمقراطية والاقتصادية والسياسية، لكي تنخرط في المجتمع المدني وتتخلص من حمولاتها القبلية والتقليدية ، لكن ما حدث هو أن القبيلة جرّت إليها المجتمع المدني بعد أن احتكرت السلطة والثروة والسلاح وتغولت حتى أصبحنا أمام فئة تتمتع بقوة ثلاثية الأبعاد تشبه «البف باف» قاتل الحشرات الفتاك. وعلى مستوى الصراع الإيديولوجي والسياسي والفكري والثقافي أنتج الصراع الشطري مشايخ من نوع آخر هم مشائخ الدين أو قوى إسلامية متطرفة تبدأ بفكر الإخوان المسلمين وتتقمص التعصب الوهابي، وينتهي جزء منها إلى نموذج القاعدة وطالبان منحت هذه الفئة نفوذاً من صنع النظام لأداء دور محوري في محاربة اليسار القادم من عدن. هذه الفئة الإسلامية التي تدرجت من التأصيل إلى التطرف الأصولي تمتعت أيضاً بالسلطة والمال والسلاح، وزادت على ذلك تمتعها بتفويض سماوي خولها التحدث الرسمي باسم السماء، لتضرب القوى التقدمية والمشروع الحداثي وبالذات في مستواه الاشتراكي والقومي، وخصوصاً محاربة اليسار القادم من عدن ، والذي اختزلته مقولة الرئيس الشهيرة «ما لماركس إلا محمد» حتى جاءت الديمقراطية، كان رهان الرئيس هو استيعاب التيارات الإسلامية بمستوياتها المعتدلة والمتطرفة في العملية الديمقراطية لتشكل معادلاً ديمقراطياً للاشتراكي من جهة ولغرض صهرها في العمل السياسي المدني والسلمي والديمقراطي من جهة وترويضها لتتخلى عن تطرفها وعنفها. ولا وقت لسرد الصيرورات التي حتمت التخفف من عبء الحركات الإسلامية التي هي جزء أساسي من مكونات النظام ،وهي صيرورات دولية وعالمية قبل أن تكون محلية ، لكنها أفضت إلى التخفف من هذا العبء جزئياً وإلى حين ، لتنقل تلك القوى من الحكم إلى المعارضة أو لتكون حكومة ظل ليس بالمعنى الديمقراطي، وإنما بمعنى التداخل مع النظام القائم حد استحالة الفصل بينهما. وبالنتيجة أصبحنا أمام قوتين تمتعتا بالسلطة والمال والسلاح وسرقتا المشروع المدني من قوى اليسار، وشكلتا الأفق المدني على شاكلتهما وأنتجت مشهداً مشوهاً يحاول تقويض النظام الذي أنتجهما لضرورات وصيرورات قد لا تكون في أولويات الشعب بقدر ما هي في أولويات السلطة. واليوم نحن أمام تكالب ثلاثي متطرف يجمع بين: تطرف تنظيمي إسلامي عقائدي يحمل مظهر العشيرة والقبيلة، والدين، ويحاول سرقة أحلام الشعب وأحلام الشباب المدنية ويركب موجتها بعد أن عجز عن الانقلاب على النظام الذي أنتجه. يتصدر مشهده مجموعة من مشايخ القبيلة الصغار أو الشباب، ومشايخ الدين وتجار المخدرات وذوي المشاريع والأحلام التي تبدأ بالمشيخة وتنتهي بالخلافة الإسلامية على طريقة طالبان،ومعهم بقية الجوقة التي كان الأخ الأستاذ أحمد الشرعبي دقيقاً في وصفها ب «كائنات ومخلوقات خرافية صنعها النظام» ، فهي والختام من عندي طحالب وزوائد سرطانية نبتت على هامش النظام بل في عمقه. وأصبح النظام أمام عجزه عن كبح هذه الكائنات التي تغولت وأصبحت بصدد ابتلاع النظام الذي أنتجها وابتلاع حلم الشباب الذي لا يشبه كوابيسها. [email protected]