في مكان ما في اتحاد الادباء العراقيين، كان احدهم يحرص على ان يلتقط الصور مع السيكارة التي كانت تقف بين اصبعين بكفه يستبدلهما بالاخر، يلتقط الصور من زوايا مختلفة وبأوضاع شتى ترسم حالة التأمل على قسمات اللقطات التي يبدو الدخان كثيفا متصاعدا كأنه يعلن عن حالة من غموض تكتنف النافث له، فيما كان هو يتلذذ بتلك اللقطات التي تفوح منها روائح عديدة، لم أشأ ان استرعي انتباهه بقدر ما استرعى انتباهي وجعلني احدق في ملامح اللقطات التي يقوم على مهمتها مصور صحفي، وبقدر ما كانت التساؤلات تنسكب مدرارة فتصدر صوتا غريبا في رأسي مترعا بالاستغراب والدهشة، اذ ان التقاط صورة مع سيكارة لا يوحي بشيء من التميز من اي نوع!!، واذ كنت مستغرقا في استغراق الاديب ذاك بنفث الدخان والاهتمام بالسيكارة التي تصاغرت ثم استبدلها باخرى وشعلها، تناهى الى خاطري قول لنزار قباني (دخن تدخينك يغريني)!!، لكن الامر هنا مختلف بالتأكيد فالشخص هذا يريد ان يضع احدى هذه الصور على غلاف مطبوع له، هذا ما علمته منه وتوغلت بفضولي كله لاعرف الميزة او المتعة، فقال: هي صورة مشتركة لي مع هذه (المخلوقة) العجيبة اردت ان اكسر الروتين ولا اضع صورة شخصية او اجلس ويدي على خدي، او بيدي القلم على اساس انني اكتب، المهم هي صورة ليست انفرادية!!، وهذه الانفرادية ربما ينتقدني البعض عليها لكنني اغبطها، فهي توحي بالتأمل وربما تدعو الناظر او القاريء الى ان يتأمل ملامحي وهي تتشرب بدخان السكارة، ثم ذكر لي قولا للشاعر اللبناني بول شؤول قال انه يعجبه حين يتحدث عن السيكارة، قال (يحس أحيانا، أن سيجارة لا تريد أن تنتهي، أن تبقي مولعة أكبر مدة ممكنة بين أصابعه أو شفتيه أو حتى في المنفضة، وفي مثل هذه الحالات يتركها على هواها، يمجٌها بهدوء ويرخيها في المنفضة هكذا لتعيش بصمت انطفاءها البطيء)، لم اعلق بشيء غير ان المصور قال: للناس فيما يعشقون مذاهب!!. وليس صاحبنا هذه فقط المفتون بالتقاط الصور مع السيكارة بل هنالك غيره العيديدون ممن اصبحنا نعتاد مشاهدة صورهم مع السيكارة على الاغلفة الاخيرة للكتب او في الاعمدة الصحفية التي يكتبونها . واذ كان الناقد والشاعر علي الفواز قريبا مني لحظتها فقد طلبت منه ان يعلق على الموضوع فقال: (المثقف او الذي يشتغل في منطقة الابداع هو كائن خارج السياق وفق قياسات العقل الثقافي العراقي او العربي، واعتقد ان الصورة تمظهر لهذا التمرد على السياق او الخروج عليه، وبتقديري ان الصورة تمثل نصا لا شعوريا للكاتب الذي يحاول ان لايكون سياقيا لا في الواقع ولا في الكتابة، السيكارة تعني رمزيا التلذذ وتعني محاولة الشرود وتعني ما تعني من رمزيات شعرية، لذا يجد القاص او الشاعر او الروائي ان ضبطه في لحظة شرود او ضبطه متورطا في هذا الخروج او التمرد في هذه اللحظة اللذوية هو شكل من اشكال تأكيد خروجه على السياق، فأذا كانت السيكارة كمفهوم صحي مثلا تعني الكثير من العلل والتوصيات التي تسوقها دائما منظمة الصحة العالمية لكن بالمقابل التوصيف الرمزي هو تماما تعني اللذة وتعني ان الانسان يمارس هذه اللذة داخل فضاءات مفتوحة، وهي رسالة لا واعية الى وهمه، وبالمناسبة .. مفهوم القاريء النموذجي او المقصود بالرسالة هو وهمي، كائن افتراضي، فأعتقد نص الصورة يشبه النص الاخر الذي يكتبه، دائما النص مرسل الى كائن وهمي يعني كائن من الممكن ان يلتذ بهذا المنظر القلق للشاعر او القاص) . واضاف وهو يختتم كلامه: (هناك عبارة حميلة تقول: ان كل الكائنات تبدو في الليل اشباحا، اعتقد ان المبدعين في لحظة التورط تلك هم كائنات واحدة) . الفكرة ليست جديدة .. وهناك الكثيرون ممن صوروا انفسهم والسيكارة بين شفاههم او بين اصابع ايديهم المرتفعة الى مشارف الفم للتحليق في لحظة استرخاء او تأمل فيما الدخان ينفث ليبدو هائما في الفضاء، ادباء عرب واجانب كبار ورسامون كذلك (احتفلوا) بوجود السيكارة واطلقوا العنان لتخيلاتهم كأنهم يتباهون بهذا التميز، وهو ما يذكرني ببعض المجانين الذين تمثل السيكارة لديهم عالما لا متناهيا من المتعة، وهو ما أكده لي الكاتب خضير ميري الذي قال: (لكل شريحة اجتماعية او لكل طبقة من الناس عادات ويمكن ظاهرة التدخين او السيجارة والكحول والافيون على سبيل المثال ظاهرة عريقة ولا اعرف ما هي الاسباب على وجه التحديد من انها اصبحت الشخصيات الثقافية لها علاقة بهذا الموضوع، والحالة الثانية كما اعتقد ان اي مجال يهتم بالفكر ويهتم بالقراءة والتأمل يمارس هذه العادات السيئة المهمة، وانا واحد من الناس الذين نادرا ما استطيع الكلام والكتابة او التفكير او احيانا الجلوس بشكل اعتيادي ان لم تكن السيكارة معي مع انه يثبت وهما ولا يؤكد حقيقة، فليست هناك علاقة مباشرة بين ان تدخن وتكتب جيدا ولا اعتقد انها ضرورية ولكن يبدو انها عادة كما اعتقد هي نتاج الشخصية المتوترة، التوتر هو الذي يدفع الشخص الى الادمان، والادمان انواع ليس فقط السكائر، فهناك الكثير من ادباء العالم مدمنون على المشي او على الجلوس في المقاهي بدون ان يكون هناك اي داعي، او في الحانات، ويحبذ بعض الكتاب الكتابة في مثل هذه الاجواء، واعتقد ايضا من الجانب السايكلوجي – النفسي عندما كنت نزيلا في مصحة الامراض النفسية والعقلية اكتشفت ان السيكارة تشكل قضية كبيرة للمجنون او المريض العقلي، طيب .. اذا كان المريض العقلي فاقدا للحواس وللتعامل مع العالم فلماذا يصر فقط على التدخين والسيكارة، فبين المجنون والسيكارة حالة غريبة جدا بحيث انك من الممكن ان تمنع المجنون من الاكل دون ان يتذكره ولكن مجرد ان يراك حتى يطالبك بسيكارة، فيبدو ان هذه الحالة، كما بحثتها في وقتها، ان ثمة نزعة عدمية ربما) . واضاف: (السيكارة ايضا تعطي نوعا من (الكاريزما) ان صح التعبير، او تضيف الى الشخصية المفكرة بعدا اخر، المبدع دائما يحب ان يظهر انه منهمك ومشغول وانه يدخن كثيرا او غيرها، وانا اعتقد انها بشكل او بآخر نتاج تلقين او توريث مخطوء من كبار الكتاب مثل همنغواي والبير كامو وسارتر، وهؤلاء يمكن هم الذين اعطوا قيمة لهذا الموضوع فأصبح تقليدا اعمى من قبل غالبية الكتاب، وكما تعرف اننا نحن العرب نقلد بطبيعتنا دائما) . وكان عليّ ان انتبه لكل من يهتم بالسيكارة من الادباء والفنانين وان ابحث عن تلك الصور فوجدت الناقد التشكيلي قاسم العزاوي في حالة انسجام مع سيكارة يدخنها، فقلت له: هل لي ان اصورك مع السيكارة ؟، فأبتسم أول الامر كأنه يعتقد انني امزح، ولكن حين وجدني جادا قال: لم افعلها من قبل ولن افعلها، على الرغم من انني ادخن الا انني لم التقط يوما صورة مع سيكارة ولا احبذ ذلك ابدا، وربما استنكره الصورة لانها ربما تكون دعوة للتدخين، كما انني لا استغرب ما يفعله الادباء وغيرهم لان تصرفانهم من غير المألوف، نحن نعرف ان نسبة كبيرة من المجتمع تدخن، ولكن المشاهير يبحثون عن اللا مألوف وربما يعتقدون ان هذه السيكارة تميزهم عن سواهم، وانا ضد فكرة التدخين اصلا بصورة وتظهر امام الناس، وان كنت ارغب في الرسم فلن ارسم سيكارة او غليون ولو طلب مني احد ان ارسم لوحة لفائق حسن لرسمته بلا غليون طبعا . وحين طلبت رأيه في هذه الظاهرة قال العزاوي: البعض يعتقد ان السيكارة مرتبطة بالابداع وان الشخص سواء كان اديبا او رساما لا يستطيع الكتابة او الرسم بدون السيكارة، واعتقد .. لا علاقة بين الاثنين، ولا بالابداع ابدا، اما الذي يلتقط صورا مع السيكارة وينشرها فهو قد يربطها بكاريزما معينة على اساس انها جزء من الابداع، ولكن الذي اعتقده ان البعض ربما يريد ان يشير الى انه يحرق نفسه من اجل الابداع مثلما تحترق السيكارة، وانه مفكر وأنه كبير وأنه قلق دائما وان السيكارة تعمل على تهدئته، اعتقد هكذا، وهناك اشياء اخرى يعتقد انها تساعد على الابداع ولكن لا يستطيع ان يلتقط صورة معها وينشرها لضرورات اجتماعية . واضاف: فائق حسن كان الغليون (البايب) لا يكاد يفارقه ولا يمكن ان تتصور فائق حسن بدون البايب، حتى صار من ضمن شخصيته لان منذ البداية كان يدخنه فلم يستطع لاحقا ان يتجرد منه، ةلا اعتقد انه كان يقصد منه اشارة الى شيء معين او انه محرك الابداع لديه اكثير من (كاريزما) معينة، وانا اعتقد ان العبقرية والابداع اذا ارتبطا بالسيكارة والصورة معها .. فأنا لست عبقريا ولا مبدعا . وتواصلا مع الاسئلة التي اطرحها، كتبت سؤالي على ورقة للكاتب والقاص فؤاد العبودي فكتب قائلا: لا اجد ثمة ما يربط بين السيكارة بالابداع، فهي عادة، وعادة سيئة حين تتلبس الشخص فلا يستطيع معها الابتعاد، لكنها في النتيجة اصبحت جزء من تكوييني الشخصي، وبدأت اشعر بالفراغ عندما اريد الكتابة ولا ادخن، اذ سرعان ما اتذكر السيكارة فأشعلها حالا،بيد اني اعرف انها لا تشكل حافزا على ما ابدعه لكنها (مجرد هاجس) ترتب من كوني ادمنتها، وانا استغرب حين اجد صورا لبعض الادباء او الشخصيات الثقافية منشورة في الصحف والمجلات وعلى اغلفة الكتب مقرونة بالسيكارة، وربما هم يفعلون هذا لحاجة في نفوسهم ولكنها بالتأكيد لا تشير الى كون الكاتب او المثقف قد ابدع فيما كتب بفعل السيكارة، اعتقد انهم فقط يرييدون الافصاح عن ان ما كتبوه هو بفعل التأمل والاسترخاء ليس الا . يمكنني ان اتخيل كيف الكاتب يحرص على ان تكون بالقرب منه علبة السكائر وعلبة الكبريت (الشخاطة او الولاعة)، وقبل ان يخط حرفا واحدا تراه يستل سيكارة من العلبة ويدسها في فمه ويشعلها وبعد ان ينفث دخانها تراه يرسم الحروف الاولى، ومع لحظات التأمل تكون السيكارة وكأنها مانحة الانثيالات، ولكن هذه اللقطة يستحسنها الاديب ويعدها طقسا مهما، واذ لابد ان اسأل اشخاصا غير مدخنين ولا علاقة لهم بالسيكارة تدخينا وصورا فقد تحدث لي الشاعر نصير فليح عن افكاره بهذه المسألة فقال: هذه تعتمد على ظاهرة تسمى (البرستيج) على اساس الهيئة العامة للاديب وان السيكارة توحي بشيء من التأمل على اساس والتفكر والخيال، وانا اراها مسألة مفتعلة لكن بعض الاشخاص ربما يرى بها جانبا جماليا ليس الا على اساس ان الصورة مع السيكارة تعطي طابعا من التأمل والتبحر والاستغراق وهي ليست ضرورية بالتأكيد فمن الممكن ان يعمل الانسان كل هذه الاشياء بدون ان تكون في فمه سيكارة . واضاف: هناك حقيقة .. وهي ان معظم العاملين في الحقل الادبي عندهم نرجسية عالية فبالتالي نظرتهم الى انفسهم في معظم الحالات هي اكبر مما هي في الواقع، فيصورون حجمهم اكبر بكثير، وبالتالي حب الظهور يمثل بالنسية لهم شيئا مهما، وان لا اتحدث عن البير كامو او حنا مينا وسواهما لاننا من الممكن ان ندخل في تفاصيلهم النفسية ونعرف ماذا يدور في دواخلهم ولكن هؤلاء كتاب كبار وفي رأيي ان الكاتب المهم اذا اراد ان يعرض بعض الاشياء فذنبه يغتفر بحكم انه كاتب كبير فعلا، ولكن ان كان هامشيا او ثانويا او غير مهم ويحاول ان يلبس ثوبا اكبر من حجمه فعندئذ سيكون المظهر مضحكا . كما تحدث لي الشاعر الدكتور جاسم بديوي قائلا: تعد الثقافة بشكل عام نوع من النقد للقيم الثقافية السائدة واحيانا نجد لاسيما في حقبة الخمسينيات من القرن الماضي تفشي او انتشار ظاهرة الوجودية الثقافية او ظاهرة الصعلكة بالنسبة للمشهد الثقافي العراقي وظاهرة (الهيبز) وهذه الظواهر الاجتماعية لوحظ ان الادباء والمثقفين والفنانين مثل اطالة الشعر كنوع من التحدي السائد او نوع من الخروج والتمرد على القيم الثقافية، ومن ضمنها السيجارة أنا ارى صورة الشاعر ادونيس في مجلة دبي الثقافية، وهي تمثل ربما نوعا من الاسترخاء، هذا كان المضمون يشع وينبثق من الداخل الى الخارج، وعادة ما نعرف ان الثقافة والابداع هو توهج داخلي، ويطفو على السطح على شكل نور او بهاء او توهج علىملامح وشمائل المثقف، فأظن السيكارة نوعا من السكينة، ولا اظن الامر يستحق ان يأخذ حيزا من النقد الثقافي او المعرفي، هي ظاهرة شكلية وربما نحن العراقيون دائما ما نحكم على الشكل . واضاف: البعض يعتبرها جزء من الطقوس حيث كان بعض المبدعين والمثقفين يمارس طقوسا معينة للكتابة، ويبدو ان السيكارة عندما يستخدمها الاديب في صوره هي نوع من المظاهرة من انني اريد ان اثبت كينونتي حتى في الصورة، فيها نوع من الحركة من الدعاية، او ربما تقويض او تهديم للكياسة التي في الصورة اي انها نوع من الحركة .