لم يدر في تفكير مبخوت بن منصور ان تطرده مقاعد جامعة حضرموت..وهو الحضرمي بن الحضرمي..والذي كان يملؤه اليقين انّ الأفضليه في القبول بجامعة حضرموت للحضارمه…لاسيما انه حضرمي الأصل والمنشاء والولادة والتاريخ وتؤكد ذلك شجرة العائلة التي تتوسط منزلهم الطيني في قريته … وإن كان الواقع مناهضاً لظنونه..إذ تمتلئ كليات جامعة حضرموت بطلبه من غير أبناء الحضارمة. مبخوت بن منصور حصل على الثانويه العامه بمجموع قارب ال85 %..لكن جامعة حضرموت صدته ورفضت قبوله بحجة انّ المتقدمين في كلية الهندسه فوق الاعداد المطلوبه..و ان الطريق الوحيد لقبوله في الجامعه هو عن طريق النفقة الخاصة ام الموازي ..يعني (( يدفع بالدولار الامريكي ام بالريال اليمني )) ولما كان حُلمهُ ان يصبح مهندسا..فقد وقف بجوار وتحت وأمام الأبواب المتاحه التي يمكن ان تجد له مقعداً في الجامعه ..وتدفع عنه مصاريف الدراسه التي يعجز عن دفعها والده الفقير عضو نادي (( خليك في البيت )).. * إنتهت معاناة مبخوت في القبول بالنجاح ..فوجد كرسياً في الجامعه بدعم من المحافظه التي اعلنت تحملها نفقات تعليمه ..وفرح مبخوت بذلك فرحاً هائلاً..حتى انه دعى اصدقائيه في ذلك اليوم إلى الإحتفال في احد مقاهي المكلا وقدم لهم الباخمري مع الشاي الاحمر رغم انه كان يتمني ان يقدم لهم مع الباخمري شاياً باللبن (( شاهي حليب )) لكن عين مبخوت الطويله واحلامه الكبيره وقفت عند جيبه الخالي من المال ..كخلو فكر بعض الوزراء من إستراتيجيات ناجعه لحل المشاكل المتفاقمه في هذه البلاد من خمسين عاماً مثل الصحه والكهرباء والتعليم والبطاله.. *الحلو كما يقول البعض مايكمل .. فقبل نهاية العام الدراسي وبعد ان ابدى مبخوت تفوقاً اثار إعجاب زملائيه و(( الدكاتره )) في الكليه ..فوجئ بالجامعه تطالبه بالدفع او الفصل.. كان جواب مبخوت الطالب المكسور والمفصول..لماذا تطلبون مني الدفع ..اطلبوا من الجهه التي خاطبتكم في الدفع..أن تدفع ..انا حضرمي فقير لكنني طالب مجتهد ..وهذه الجامعه تحمل إسمي إسم حضرموت والمتبرعين لي برسوم الدراسه حضارمه مثلي..إذاً من حقي ان اتعلم فيها… كانت هذه آخر كلمات مبخوت الحضرمي في جامعة حضرموت المُفرض انها للحضارمة اولاً ..!! نظر مبخوت إلى قاعة المحاضرات في الكليه فوجد داخلها عددا كبيراً من الطلبه القادمين من خارج حضرموت يجلسون في مقعده ويتعلمون في جامعه حضرميه بينما القت به حضرميته إلى الشارع … كما رمت بوالده قبلاً ..ليكون متقاعداً قسرياً.. خرج مبخوت من الجامعه وفي جوفه امل ميت وفي قلبه اضغاث احلام بعد ان كانت أحلاماً. * المكلا ..المدينه القديمه التي لم تتحدث ولم تتطور..بقيت قريه كبيره..كانها ليست عاصمه لمنطقه بتروليه ..لكنها في الحقيقة اكبر من قريته الصغيره …اصبحت مأوى لمبخوت يدور في شوارعها المليئة باكوام القمايم والغارقة في مياة الصرف الصحي و يحتلها الليل وحيداً بسواده دون ان يجد منافسه من الكهرباء ….فينشر ظلامه..في كل حاراتها وشوارعها.. *فكر مبخوت في العوده إلى القريه لكن ماذا سيقول لوالده ..وما ذا سيقول لاهل قريته بعد ان كان قد بشرهم بنباء قبوله في الجامعه…كان يدرك انهم سيلقون عليه باللوم كعادة الأباء الحضارمه الذين يسمعون في ابنائيهم ولا يستمعون إليهم .. ولن يمر في تفكيروالده او اهل قريته ان الذين تعهدوا بالدفع في خطابٍ رسمي لم يدفعوا الرسوم للجامعة فكان الضحية مبخوت وامثاله الحضارمه كما ان الاعداد القادمه للدراسه في الجامعه من خارج حضرموت جعلت منه الضحيه بكثرتها فأخذت منه المقاعد المحدوده في الكليات العلميه . *في غمرة احزانه ..وهمومه التي فاقت في ثقلها جبال المكلا ..نظر إلى البحر عندما اقبل الصباح وظن للنظرة الاولى ان مياه بحر العرب إنما هي دموعه التي ذرفها حزناً على ضيق مقاعد الجامعة منه..وقد تكون دموع الحضارمه .. من الحال الذي وصلت إليه بلادهم من تخلف وفقر..بعد ان تيمننت في العام67م. في تلك اللحظات رآى قارباً صغيراً يقترب من الشاطي وخرج منه رجلان إلتقيا بآخر على الشاطيئ وتبادلا ..شيئاً لم يتمكن مبخوت من إكتشافه…ولم يدفعه فضوله ان يسآل ماذا يفعل اولئك الرجال في الصباح على ساحل البحر..لكنه لم يكن يعلم ان الرجال الثلاثه سيكونون نقطة التحول في حياته .. تقدم إليه احد الرجال ودار بينه ومبخوت الحوار التالي : الرجل الغريب : السلام عليكم مبخوت : اهلاً… الرجل الغريب : رد السلام هو وعليكم السلام وليس اهلاً..قالها الرجل ضاحكاً مبخوت وهو يبكي بكاء شديداً : يا..اخي ماذا تريد مني .. الرجل الغريب : واضح انك لم تأكل من البارحه …تعال معي لنفظر سويه.. تردد مبخوت في البدايه من قبول دعوة رجل غريب ..إلا ان الحاح الرجل وابتسامته العريضه وعدم وجود بديل لديه جعله يقبل العرض المغري بالنسبة له (( فطور مجاني )) فرصه قالها بينه وبين نفسه. ذهب مبخوت مع الرجل .. فقدم له فطورا غيرمألوفاً..إذ تضمن الفطور الزبده والبيض والعسل والكبده والبراوطه وشاهي اللبن (( شاهي بالحليب )).. عرف الرجل الغريب من مبخوت قصته فبادره الرجل انا عندي لك عمل فلا.تشُغِل بالك. مبخوت ببراءة اهل الريف وافق..وقال : كم المشاهره (( الراتب )). الرجل الغريب : على كل عمليه الف ريال يمني حوالي (( 5 دولار )) امريكي. لم يسأل مبخوت عن طبيعة العمل بقدر ماكان يحسب كم سيكون دخله الشهري…. للاسف كان العمل توزيع مخدرات على تجار التجزئه ..بعد فترة عرف مبخوت طبيعة عمله إلا انه لم يتمكن من الانسحاب .. بل تحول مع الزمن الى تاجر جمله ومهرب بارع ..ونجح في جمع ثروه هائله …فقرر مغادرة البلاد وهناك قام بتغيير إسمه إلى صفوان قنديل…واستمر في تجارته الممنوعه فتره قبل ان يتوقف عنها ..وكان يقوم بدعم المدارس والمعاهد ومساعدة الطلبة الفقراء على إكمال دراستهم الجامعيه والدراسات العليا…مما منحه وجاهه إجتماعيه وفي ليله من الليالي كان مبخوت يتنزه على شاطيئ البحر ..وصادف ان كانت هناك حمله على تجار المخدرات ..تبادل خلالها المهربون إطلاق النار مع القوات الحكوميه فكان مبخوت احد الاهداف رغم توبته .فامسكت به الشرطه وتجمع حوله اكثر من شرطي حكومي فالقوا به في الارض ثم بدئو يطعنونه بحراب بنادقهم حتى فارق الحياة.. كانت المفاجاه ..وهم يقرئون مذكراته حينما قاموا بتفتيش منزله ان يكتشفون ان اسمه الحقيقي .والندم على الضرر الكبير الذي سببه في مجتمعه الحضرمي ومجتمعه الجديد عندما بداء العمل في توزيع وتهريب المخدرات ..رغم انه في كل سطر كتبه كان يعلل ذلك إلى مقاعد الجامعه الحضرميه التي طردته ..حتى انه طرح إقتراحاً للجامعه بإلغاء التعليم الموازي وتعليم النفقة الخاصه متزامناً مع تحديد نسبة قبول للطلبه من خارج حضرموت لاتتجاوز العشره في المائه كحد اعلى من مجموع الطلبه الحضارمه المقبولين في جميع الكليات وان يقوم المجلس المحلي بإستقطاع ميزانيه لدعم الجامعه من دخل المحافظه سواء من البترول او الضرائب او الكهرباء ..او غير ذلك بدلاً من تحويل كل واردات المحافظه إلى صنعاء وترك حضرموت والحضارمه في احضان االفقر والفاقه والتخلف بالعلم كتب مبخوت في مذكراته نرتقي…وبدون العلم سيضيع الشبان ويموتون غرباء..كما مات صفوان او مبخوت …