كنت أتصفح مجلة العربي حين وقعت عيناي على نص من مسرحية مأساة الحلَّاج لصلاح عبدالصبور وكنت حينها في الرابعة عشر من العمر تقريبا في بداية القرن الحالي وقبل احتلال العراق، ولا أعلم لماذا لاتزال كلمات الحلّاج هاجسا لي ، أشعر أنه يولد منّا كل يوم حلّاج يحمل مأساة من مولده . بغض النظر عن شطحات الفكر الذي تخلل شخصية الحلّاج والنهاية التي كانت عليها والجلد التاريخي الذي تعرض له، لكن ما استوقفني كثيرا ماكتبه صلاح عبدالصبور في رائعته ( مأساة الحلّاج ) والتي جسدت روح وقفت في وجهة الظلم والكبت وإرادة هبت لكي تنزع عن الناس الغشاوة لكي تبصّر وتثور على واقعها ، تدعو الظالم أن يرعوي عن ظلمه وجبروته ، وترسم ملامح الحكم الرشيد مع التحفظ على ماحملته في طياتها من حالات الشبهة والتي أذرها لأرباب الفكر كي يقتنصوها ، وكما يقال أنا مسؤول عن ما أكتب وأنت مسؤول عن ماتفهم ، غير أن كلمات الحلّاج حملت إضاءات منها مايزال عالقا في ذاكرتي المهترئة منها هذا النص المقتضب الحلّاج : الحلم جنين الواقع أما التيجان .. فأنا لا أعرف صاحب تاج إلا الله والناس سواسية عندي من بينهم يختارون رءوسا ليسوسوا الأمر فالوالي العادل قبس من نور الله ينور بعضا من أرضه أما الوالي الظالم فستار يحجب نور الله عن الناس كي يفرخ تحت عباءته الشر هذا قولي .. ياولدي يسطر لنا الحلّاج نموذجا فريدا وشخصية ملهمة عبقرية تكاد تعانق الفلسفة السقراطية ، فقد أتخذ أسلوب الخطاب البليغ الذي يسري إلى النفوس بعذوبة ، حتى حينما زج به في السجن استطاع أن يلهم صاحبيه في السجن بكلماته وعبره وعظاته التي تعبق بالحكمة . (مشهد من السجن) الحلّاج : لا أبكي حزنا ياولدي بل حيرة من عجزي يقطر دمعي من حيرة رأيي وظلال ظنوني يأتي شجوي ينساب أنيني هل عاقبني ربي في روحي ويقيني ؟ … أم هو يدعوني كي أختار لنفسي ؟ هبني أختار لنفسي ، ماذا أختار ؟ هل أرفع صوتي ؟ أم أرفع سيفي ؟ ماذا أختار ؟ .. ماذا أختار ؟ .. وهنا يبرز لنا الحلّاج الحيرة التي يعانيها أمام تناقضات الوضع المعاش وعن كيفية مجابهتها فهل يرفع صوته أم سيفه لكي يواجه ظلم السلطان ، وبين عمق الإشكالات الدائرة في مجتمعه فهو يخاف أن لا يساء فهم قضيته ومبدأه في الثورة والتمرد على الواقع . ولو عرجنا على أحد فصول المسرحية وبالتحديد في المشهد الأول فإنه يتضح جانب يلامس الواقع الذي نعيشه وهم أولئك المتملِّقون بيننا باسم الدين يزعمون أنهم حملة لرسالته وهم لم يحملوا ذلك الأمر بين ظهرانيهم إلا لكي يقربهم إلى قلوب الناس زلفى ومنها إلى كراسي السلطة ، لا إلى الله كما يدَّعون ! وجلهم إلا من رحم ربي على فريقين إما ضالون أو مضلون مع بالغ الأسى . من المشهد الأول (مشهد الشيخ المصلوب ) المجموعة : صفونا ..صفا ..صفا الأجهر صوتا ،والأطول وضعوه في الصف الأول ذو الصوت الخافت والمتواني وضعوه في الصف الثاني أعطوا كلا منّا دينارا من ذهبٍ قاني براقا لم تلمسه كفٌ من قبل قالوا : صيحوا .. زنديقٌ كافر صحنا زنديقٌ كافر قالوا: صيحوا فليقتل إنّا نحمل دمه في رقبتنا فليقتل إنّا نحمل دمه في رقبتنا قالوا : أمضوا فمضينا إن المعضلة السياسية التي تمر بها البلدان العربية كلها رغم اختلافاتها البسيطة إلا أنها تتفق في جوهر الصراع الدائم على السلطة فالديمقراطية ماهي إلا لعبة الكراسي التي كنّا نلعبها صغارا وكان يخسرها أشرفنا ويكسبها أكثرنا لؤّماً ! "عاينت الفقر يعربد في الطرق ويهدم روح الإنسان فسألت النفس ماذا أصنع ؟ هل أدعوا جمع الفقراء أن يلقوا سيف النقمة في أفئدة الظلمة ؟ ما أتعس أن نلقى بعض الشر ببعض الشر ونداوي أثما بجريمة ماذا أصنع ؟ لا أملك إلا أن أتحدث ولتنقل كلماتي الريح السواحة فلعل فؤاد ظمآنا من أفئدة وجوه الأمة يستعذب هذه الكلمات فيخوض بها في الطرقات يرعاها أن ولي الأمر ويوفق بين القدرة والفكرة ويزاوج بين الحكمة والفعل " الفقر هو أوجع منغصات العيش التي تتعرض لها الشعوب والتي تشكل غالبا أحد الإرهاصات السياسية التي تنتهج لكي تشغل بال الأمة عن مايدور في دهاليز الحكم ودور السلطان ، ناهيك عن الإرهاصات الأخرى التي تستخدم جنبا إلى جنب في إرساء الحكم وتثبيت السياسات وتحقيق المصالح الشخصية والإقليمية . "إن الكلمات إذا رفعت سيفا فهي السيف" نعم أيها الحلّاج لانملك إلا أن نكتب! ، فلعل الكلمات ستمضي أبعد ممانتصور من يدري فغدا محفوفٌ بالغيبيات وغدا أقرب يوما يفصلنا عنّا!.