سبعينيات القرن الماضي, قصر القعيطيين خال من القعيطيين, راية الحكم الثوري ترفرف في زوايا متفرقة منه, مراسيم إنزال العلم الجديد قبيل المغرب ثم رفعه صباح اليوم التالي عادة حرص عليها أصحاب الحكم الجديد . ساحة القصر وملحقاته الخارجية مفتوحة ومتنفس للكبار والصغار . الحكام الجدد مشغولون, الزخم الثوري يملأ الآذان . لا نعي جيدا معنى الشعارات القوية التي نرددها, ما نفهمه أن الأشرار ذهبوا إلى غير رجعة وأن زمن الحرية والفقراء (الكادحين) قد أتى . ( العملاء…ركائز الاستعمار … الرجعيون …الثورة المضادة …. المناطقيون …الإمبريالية ..الاشتراكية ..الخ ) مصطلحات المرحلة انتشرت انتشار النار في الهشيم, لا مجال إلا ترديدها . الحكام الجدد يعيشون حالة صراع مزمن مع أنفسهم, خسروا العلاقات مع المجاورين وركنوا إلى علاقات مع أحد أقوياء العالم البعيدين, واطمأنوا…..سادت ثقافة الخوف ,التيار جارف. توارى المناضلون الشرفاء, حاول البعض الوقوف في الوسط ,تقدم الصفوف رويدا رويدا أشباه المتعلمين والانتهازيون, اختفت الأقلام الصادقة وزمجر جيش المطبلين ,نزحت الجبال إلى المدن وكانت أوتادا ثم ساد فيها ما سادا……………… كنا نجري ونلعب في ساحة القصر غير مبالين أو مدركين لأهمية ما يحدث من (لعب )الكبار, ما يعنينا كسب فرحة نصر رياضي مؤقت وتجنب مرارة هزيمة عابرة ولكن ساحة القصر ليست فقط ملاعب لكرة القدم فهناك من المواضع ما تساعد على تنوع اللعب وتوسع الحركة . في عصر أحد الأيام اتخذت لنفسي مكانا غربيا حيث كانت توجد بعض الأشجار وبينما كنت في شغل مع حالي شاهدت دخول و خروج عدد من الأطفال في مبنى ملحق بالقصر في الركن الجنوبي الغربي منه كان مغلقا ,وببراءة الأطفال وفضولهم توجهت إلى هناك ودخلت مع من دخل وإذا بنا في غرفة (مستطيلة) تابعة على ما أذكر لمطبخ القصر لاتزال فيها بعض أواني المطبخ متناثرة هنا وهناك, كان بعض الصبية يأخذ من الملاعق والسكاكين ما يأخذ دون خوف أو عجلة ,وعلى الفور غادرت المكان وفي أثناء خروجي وبالقرب من الباب شاهدت سكينا مرمية على الأرض لعلها سقطت من أحدهم وبحركة سريعة التقطتها وأخفيتها عن الأنظار… كنت أشعر حينها (ولازلت) أنني فعلت شيئاً مشيناً, لهذا أسرعت الخطا إلى البيت. كانت دقات قلبي تتصاعد مع تصاعد سرعة خطواتي, وازدادت سرعتها عندما لمحت من بعيد زاوية بيتنا . كانت الهواجس تنازع ذهني الصغير ,إذ كنت أتوقع في أحسن الأحوال فصلا من التوبيخ, كنت أحدث نفسي بأن أروي بصدق ما حدث ؛ لعل في ذلك عفوا وشفاعة . لم يمهلني أخي الأكبر فرصة للدفاع عن نفسي بعد ما سمع قصة السكين (اللعينة) وطلب مني على الفور إعادة السكين إلى مكانها. عدت أدراجي إلى القصر, كنت مقتنعاً أن عودة السكين إلى مكانها نهاية لكل المشاكل التي أعانيها وأتوقعها. و في أثناء توجهي للقصر وقبل قطعي للشارع الموصل إلى بيتنا سمعت صوت أخي يدعوني للرجوع إلى البيت, لعله استدرك بعد أن سكت عنه الغضب, لفني أخي بيده اليمنى وأخبرني أن الشمس على وشك المغيب وأن الأفضل إرجاع السكين في اليوم التالي . تداولت الأسرة الأمر بعد صلاة العشاء كان هناك من هو مشفق ومن هو معاتب. كنت أسمعهم يقولون إن السكين من النوع العادي وإن قيمتها في قبضتها الفضية. ثم هدأ والدي من روعي معربا عن تفهمه بأنني لم أكن أقصد السرقة وأنه عصر اليوم التالي سيصحبني أحد إخوتي ونضع السكين في موضعها ( ويا دار ما دخلش شر ) . نحن الآن نسير في ساحة القصر خطوات أخي الهادئة تزيد ني طمأنينة وتمحو شعورا بالندم والحياء جثم على صدري لما يقارب اليوم….لحظات وينتهي الأمر.. ولكن حدث ما ليس في الحسبان وعكس الترتيبات فالباب الذي حدثت بقربه(الجريمة) تم إغلاقه ورأى أخي أن رمي السكين على مرأى من الموجودين أمر غير عملي وغير متفق عليه , لهذا استدعى هذا التطور الرجوع إلى البيت للتشاور أي العودة إلى نقطة البداية . انتشر الخبر الجديد في الأسرة ,الجميع غير راضين عن بقاء هذه السكين الغريبة في المنزل . أصحاب الحق الحقيقيون غائبون, ومع هذا كان الشعور بالرضا مخيماً على أفراد الأسرة فقد وصلت رسالة مباشرة وغير مباشرة لي وللآخرين مفادها أن أ خذ مالا نملك رذيلة مرفوضة بشدة ويجب عدم الوقوع فيها . ولكن السكين(الغريبة) لاتزال في البيت وفي مكان غير بعيد , وظلت هكذا لأيام عديدة دون حراك ,ثم قرر الوالد إخفاءها عن الأنظار حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا ……. وبعد مضي ما يقارب الشهر قرر الوالد بشدة إعادة الأمور إلى نصابها بإرجاع السكين(شبه المقيمة ) إلى مكانها , وفي غفلة من الزمن, والناس, وبحضور شقيقي تم الأمر….وهكذا عادت السكين(الغائبة) إلى مكانها وعدنا!! ولكن هل عادت السكين(العائدة) إلى القعيطيين ؟؟؟؟