القاضي عبد الرحمن بن يحي بن محمد بن عبد الله الارياني "رحمه الله"، ولد في "حصن إريان" في غرة جمادي الآخرة سنة 1328 هجرية.. وقد عُرف عنه بأنه عالم أديب، وشاعر، وكاتب مسترسل، وزعيم سياسي محنك، لطيف المعشر، حلو الحديث، جم التواضع.. تولى القضاء في مدينة "النادرة" من لواء إب في أول أمره، ثم أسهم مع الأحرار المناوئين والمعارضين لحكم الإمام يحيى بن محمد حميد الدين والحاكمين من أولاده في أعمالهم، وأنشأ قصيدته المشهورة التي ندد فيها بمظالم الإمام يحيى وتسليطه أولاده على رقاب الشعب، والتي قال في مطلعها: إنما الظلم في المعاد ظلام ... وهو للملك معول هدام ومنها يخاطب الإمام يحيى: أنصف الناس من بنيك وإلا ... أنصفتهم من بعدك الأيام إن عشر السبعين عنك تولت ... ودنا مصرع وحان حمام فكان الأمر كما توقع، ثم وجه الخطاب إلى الحسن بن الإمام يحيى حاكم لواء إب: حسن ابن الإمام لا أحسن ... الله إليه ولا عداه السقام وقد كانت هذه القصيدة التي طارت شهرتها في اليمن آنذاك سبب اعتقاله مع من أعتقل من الأحرار في إبوتعز وذمار وصنعاء سنة 1363هجرية، ثم سيقوا جميعا إلى تعز، ومنها أرسلوا إلى سجون حجة، وكان أحدهم، وقد بقي هنالك معتقلا بضعة أشهر ثم أفرج عنه لكنه استمر في مزاولة نشاطه الوطني للإطاحة بحكم الإمام يحيى وبعض أولاده حتى قُتل الإمام يوم الثلاثاء 7 ربيع الآخر سنة 1367 هجرية "1948م" وخلفه في الحكم الإمام عبد الله بن أحمد الوزير على رأس حكومة دستورية. وكان الارياني آنذاك في مدينة إب، فقام بأعمال اللواء وأدارها بحزم ونشاط، وأستمر إلى أن سقطت العاصمة صنعاء في أيدي القبائل الموالية للإمام أحمد الذي استغل فرصة مقتل أبيه لينتقم ممن سلبوه الحكم. وأعتقل الارياني هو ومن شاركه من الأحرار في إدارة الأعمال في لواء إب فسيقوا في السلاسل إلى تعز، ومنها أرسلوا إلى سجون حجة مرة أخرى والقيود في أقدامهم والسلاسل في أعناقهم. وقد لبث في السجن بضع سنين ثم أفرج عنه، وعينه الإمام أحمد عضوا في الهيئة الشرعية في تعز، ولم تنقطع صلته بالأحرار، ولكن بحذر وتكتم. وكان لا يفتأ ينصح الإمام أحمد في كثير من الأمور، وله مواقف حميدة مشهورة معه في تحذيره من الإصغاء إلى كلام الوشاة، والمتزلفين الذين يسعون ليضروا بالناس لأغراض دنيئة.. وكانت نصائحه تنفع عند الإمام أحيانا. ولما تمرد بعض الجيش على الإمام أحمد في تعز في شعبان سنة 1374 هجرية "1955م" استغل الفرصة العقيد أحمد يحي الثلايا وتزعم تلك الحركة، وطالب الإمام أحمد بتنازله لأخيه عبد الله بن الإمام يحيى وجمع العلماء ومنهم الارياني لمساعدته للتخلص من حكم الإمام أحمد، ولكن حركته فشلت بعد أيام قلائل وخرج الإمام أحمد من قصره ، وأخذ يقتل المشتركين في تلك الحركة حتى الذين لم يكن لهم أي عمل معروف، وأمر باحضار الارياني، وكان قد أعتقل إلى الميدان الذي يتم فيه قتل الأحرار، فلما مثل بين يدي الإمام والجلاد ينتظر أمر الإمام لقتله بدا للإمام أحمد أن يُبقي عليه، فأمر بإعادته إلى معتقله، فبقى فيه أياما ثم أفرج عنه، وعاد إلى عمله في الهيئة الشرعية. وكان الإمام أحمد يستشيره في قضايا عربية ودولية، كما كلفه بحضور اجتماعات الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وكان يترأس بعثة الحج حتى قامت الثورة سنة 1382 هجرية "1962م" التي ألغت النظام الملكي وأخذت بالنظام الجمهوري، فعين وزيرا للعدل ثم عضوا في مجلس قيادة الثورة ثم عضوا في مجلس الرئاسة. وحينما ساءت الأحوال الإدارية في اليمن بسبب تدخل المصريين المباشر في شئون البلاد ذهب إلى مصر ومعه عدد كبير من الشخصيات اليمنية منهم الأستاذ أحمد محمد نعمان محتجين على سوء تصرف المصريين في اليمن، فأمر الرئيس جمال عبد الناصر باعتقال أكثرهم في السجن الحربي وبقي الارياني طليقا ولكنه لا يستطيع مبارحة مصر حتى أصيب العرب بالنكسة في حربهم مع إسرائيل في حزيران 1967م فعقد مؤتمر قمة عربي في الخرطوم اتفق فيه جمال عبد الناصر مع الملك فيصل على أن يسحب القوات المصرية من اليمن، وتم رحيلها بالفعل، فواجهت الجمهورية العربية اليمنية مصيرها بنفسها، ولاقت تحديا شديدا للقضاء عليها من الجانب الملكي وأعوانهم ولكن الله أعانها وثبتها. وكانت رئاسة الدولة قد أفضت إلى الارياني في شعبان سنة 1387 هجرية الموافق 5 نوفمبر 1967م بعد أن التقت عنده رغبات زعماء اليمن ولمائها ورؤساء القبائل والعشائر والتفت حوله القلوب المختلفة ليكون رئيسا لها حتى ينتشل البلاد من الهاوية التي تردت إليها. واستطاع بسياسته الحكيمة أن يمسك بدفة السفينة وسط أمواج مضطربة وعواصف عاتية حتى حقق لليمن السلام والأمن والاستقرار. وقد انتهى حكمه باستقالته يوم الخميس 21 جمادي الأول سنة 1394 هجرية الموافق 13 حزيران سنة 1974م بضغط داخلي تؤازره قوة خارجية بحجة كثرة تغيير الحكومات والركون في حكم البلاد على من لا دراية له بأحوال اليمن ومعرفة طباع أهلها إلى جانب ما كان يحدث أحيانا من الإهمال وضياع الحزم في أجهزة الدولة. ولما استقال رحل إلى دمشق ولحق به أهله، ثم سمح له الرئيس علي عبد الله صالح بالعودة إلى بلاده فعاد مكرما مبجلا. له شعر كثير، فمنه قوله في وصف مظالم الإمام يحيى حميد الدين: ما له همة سوى جمعه الأم ... وال من غير وجهها المانوس قد تقضت حياته غير مأس ... وف عليها فما بها من نفيس وسيفنى الباقون لعمري هباء ... في سبيل الخداع والتدليس إن نفسا شبت وشاخت على ... الشح وظلم الورى لشر النفوس ومن شعره أيضا القصيدة التالية وقد وزعت منشورا: هذا العدو غدا على الأبواب يرنو بعين الفاتح الغلاب والمستبد له إلى أموالكم توقان مهجور إلى الأحباب قد صار في دور الذهول وشعبنا أضحى يقاسي منه دور عذاب وبنوه فيكم كلهم قد مثلوا رمز الفساد وخيبة الأحساب قد أنفقوا أموالكم فيما اشتهوا من وصل غانية وحسو شراب وأولئك الكتاب والوزراء غدا في مالكم لهم صيال ذئاب وأراكموا في نومة لا تنتهي أبدا بغير تصادم وخراب فالقوا إلى الشعب المعذب نظرة فلعلها تهديكموا لصواب والقوا زمام الشعب في كف الذي سيقيه شر عدوه الوثاب وكان الكاتب والصحافي فتحي القطاع- رئيس المركز اليمني الكندي- استرجع بعض مفردات ذكرياته، وكتب تحت عنوان: (مع الرئيس القاضي عبد الرحمن الارياني): سافرت مع الرئيس اليمني الأسبق القاضي عبد الرحمن الارياني أنا وزوجتي وابنتي رشا وحماي العزيز يحيى الكوكباني الرفيق والصديق الحميم والسكرتير الخاص للقاضي على نفس الطائرة من صنعاء إلى دمشق في منتصف شهر فبراير / شباط 1993، ولأننا كنا في شهر رمضان فقد دعانا لتناول طعام الإفطار في منزله بحي أبو رمانه الدمشقي العريق. ونحن على المائدة مر أمامي شريط طويل من الذكريات.. تذكرت هوايتي الغريبة عندما كنت في السابعة أو الثامنة من العمر وهي الجري لمسافات طويلة وراء موكبه الرسمي حال سماعي الصوت المميز الذي كان يصدر عنه و يسمع عن بعد، وتذكرت خطبه القصيرة التي كانت تستغرق من الخمس إلى العشر دقائق.. تذكرت عام 1970 وأنا في الصف الرابع الابتدائي عندما عدت إلى البيت مبكرا، وعندما سألتني أمي عن سبب العودة؟ أجبتها بأن الارياني مات! ولم أفكر إن كذبتي ستكون مفضوحة فموت رئيس البلاد ستعلم به اليمن من أقصاها إلى أقصاها بسرعة.. دقائق وعادت والدتي وفتحت باب الغرفة بقوة وبصوت عال صرخت بكلمة واحدة: يا جبان، وكانت تلك هي المرة الوحيدة التي وبختني فيها. ورحل القاضي فعلا، ولكن بعد 28 عاما (1998).. تذكرت كلمته المأثورة التي كانت تردد طوال فترة حكمه: "الحزبية تبدأ بالتأثر وتنتهي بالعمالة"! كنت أود الحديث معه عن أمور كثيرة أهمها رأيه بإبراهيم الحمدي الذي أطاح به في انقلاب ابيض عام 1974، وهل كان انقلابا أم صفقة؟ وهل فعلا كان يزوره كلما زار سوريا، وكيف استقبل خبر مقتله، ومن يعتقد بأنه ورائه.. ولماذا؟ وأخيرا كيف يرى مقولته تلك وقد توحدت اليمن وسمح بالتعددية السياسية والحزبية على نطاق واسع، فلم أجرؤ كي لا أحرج والد زوجتي الذي اصطحبني معه إلى مائدة القاضي لكون الظرف غير مناسب لمثل هذه المواضيع ولأن صحة القاضي كانت متعبة. رحمك الله يا أرياني وأسكنك فسيح جنانه، فلم ولن ننسى انك توليت الحكم في فترة صعبة للغاية، وان أول جامعة يمنية بنيت في عهدك (1970)، كما بنيت العديد من المدارس والمستشفيات، كما تم في عهدك أهم إنجاز وهو المصالحة الوطنية بين الجمهوريين والملكيين لتنتهي الحرب الأهلية الدامية.