قلت لصديق: ((لم يعد عندي أدنى شك أن قادتنا العرب شعراء!))، فرد علي صاحبي باستغراب: ((لماذا؟!)) فقلت له: إن الجواب طويل ولكني سأجيبك. قلت أنهم شعراء، ليس لأن لديهم رقة إحساس الشاعر فهم على العكس يتلذذون برؤية مشاهد القتل والدمار التي نراها يومياً على شاشات التلفاز، بل إن بعضهم لا يتناول (المنسف) و(الكبسة) إلا وهو يتفرج على مشاهد قتل (الغزاوية) ولسان حاله يقول (الله واليهود ريحونا منهم، عقبال الباقيين). ولم أقل أنهم شعراء لأن لهم خيال الشاعر الخصب الذي يفتح له آفاقاً واسعة ليرى ما لا يراه الآخرون فخيال زعمائنا لا يتجاوز (الميكي ماوس) الأمريكي الذي يحتمون به، ويضمنون بقاءهم على كراسيهم بقوته، بل إن زعماءنا الأفاضل يرون في أعمال بسيطة تفرضها علينا أبسط مراتب الشرف والكرامة ضرباً من الخيال! ففتح المعابر ضرب من الخيال، وقطع العلاقات مع إسرائيل أو تجميدها ضرب آخر من الخيال، أما الحديث- مجرد الحديث- عن الحرب فهو ضرب من الخبال- بالباء لا بالياء. ولا يخفى عليكم أنهم لا يريدون أن تكون نفوسهم كبيرة حتى لا تتعب أجسامهم تأثراً بقول المتنبي حين قال: وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسامُ ولم أقل أنهم شعراء لأنهم ملكوا زمام البيان، ونحتوا في صخرة البلاغة، بل إن أكثرهم (أعيا من باقل)، وجل ما نتوقعه من أحدهم عند قراءة بيان ما أن ينطق (بسم الله الرحمن الرحيم) دون خطأ. ولم أقل أنهم شعراء لأن لهم القدرة على اختصار الكلام واختزاله، وشرح ما يمكن شرحه في سطور عدة ببيت شعر واحد، بل على العكس، فإن معظمهم يتكلم لساعات وساعات دون أن تخرج من كلامه بجملة مفيدة واحدة، بينما نرى بيت شعر واحد فيه خمسة أوصاف وينسب البيت إلى يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، ويقول فيه: وأمطرت لؤلؤاً من نرجس وسقت ... ورداً وعضت على العنّاب بالبرد ولم أقل أنهم شعراء لأنهم قادرون على تشخيص أمراض المجتمع، وبيان علاجه، كما فعل أمير الشعراء أحمد شوقي في جعله الأخلاق عماد المجتمع في الأمم حيث قال: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا ولم أقل أنهم شعراء لأنهم امتلكوا حكمة أبي تمام والمتنبي، فمن يقرأ شعرهما الآن يظن أنهما ماتا في عصرنا هذا، فها هو المتنبي يقول كأنه يعني ما يسمى بدول (الاعتدال): من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلامً وكأن أبا تمام يصف رجال المقاومة الفلسطينية إذ يقول: فتًى مات بين الضرب والطعن ميتةً ... تقوم مقام النصر إن فاته النصر وما مات حتى مات مضرب سيفه ... من الطعن واعتلت عليه القنا السمر وقد كان فوت الموت سهلاً فرده ... عليه الحفاظ المر والخلق الوعر ونفسٌ تعاف العار حتى كأنه ... هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر فأثبت في مستنقع الموت رجله ... وقال لها من تحت أخمصك الحشر غدا غدوةً والحمد نسج رداثه ... فلم ينصرف إلا وأكفانه الأجر تردى ثياب الموت حمراً فما أتى ... لها الليل إلا وهي من سندسٍ خضر ولا أريد أن أزعج أخواني المصريين بإيراد قصيدة المتنبي في أهل مصر، لكن القارئ للقصيدة بعين وعينه الأخرى على وضعها الحالي لا يملك إلا أن يقول (سبحان الله) ولن أورد إلا بيتاً يقول فيه المتنبي: جود الرجال من الأيدي وجودهم ... من اللسان فلا كانوا ولا الجود ولم أقل- والعياذ بالله- أنهم شعراء لأنهم يملكون وطنية محمود درويش وسميح القاسم وعبد الرحيم محمود، ولا يملكون شاعرية أحمد رامي، ولا عبقرية نزار قباني، ولا شعبية بيرم التونسي، ولا إبداع أحمد شوقي، لكنهم شعراء رغم كل ذلك، تتساءلون لماذا أصفهم بالشعراء؟ ألم يقل الله تعالى في كتابه الحكيم: (والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون . وأنهم يقولون ما لا يفعلون)!!