"إلى الخلف سر".. هكذا حالنا، فكثيرا من القيم التي تبدو لنا صحيحة بل وأخلاقية إنما تسير بنا وكأنها ترفع شعار "إلى الخلف در".. فقط لأننا اعتدنا على بعض الأفكار والممارسات التي تحولت إلى تقاليد تفوق في رسوخها القيم الدينية ذاتها. ورغم عدم توافقها مع مفاهيم العدالة والأخلاق لكننا نصر على عدم الخروج عن المألوف والمتعارف بل ومجاراة المجتمع على حساب الحق والحقيقة. لم علينا أن نسير تحت مظلة الفكرة السائدة؟ ولم لا ننقلب عليها حينما تكون ضد إنسانيتنا؟ منذ وقت ليس بالبعيد حدثتني صديقة عن دهشتها من عجز إعلامنا العربي عن التغيير رغم رسالته الهادفة فمسلسل "قضية رأي عام" مثلا الذي تناول موضوع الاغتصاب ومفاهيم الشرف في مجتمعاتنا العربية رغم جرأة موضوعه وأهمية القضية وإثارته للرأي العام لكنه لم يغير المواقف الفعلية على أرض الواقع !صديقتي توجهت إلى والدتها بالسؤال عما إذا كانت ستقاضي الفاعل إذا ما حدثت مثل هذه الجريمة لأحد أفراد أسرتها فأجابت "بلا" حتى لو كانت أحداث المسلسل قد أقنعتها بضرورة ال "بنعم"! أيمكن أن تكون مجتمعاتنا سلبية ليس فقط بصدد مشاركتها في صناعة الحضارة بل نصر على التخلف عنها بأشواط ودون اكتراث. نتفنن بتغليف القيم الموروثة بذاك الكم من القدسية حتى أصبحت راسخة في حاضرنا كما في ماضينا كالمومياء المحنطة في أهرامات مصر! في الحقيقة أن مفهوم الشرف يثير القرف في عالمنا العربي ففي حين هو الصدق والأمانة والنزاهة في كل حضارات العالم تنتشر في عالمنا جرائم كالسرقة والرشوة وخيانة الأمانة والتجسس والخوض في أعراض الناس وهي في مفاهيمنا أصبحت مجرد أخطاء وجرائم وكأن لا علاقة لها بالشرف. من هو الذي يوصم بأنه غير شريف مدى الحياة لأنه كذب أو سرق أو خان الأمانة؟ أصبحت ثقافتنا ثقافة مصطلحات نصنفها لنقوم من خلالها بصناعة ثقافة خاصة لمجتمعاتنا.. فأوجدنا مصطلح (شرف البنت) ولا يوجد (شرف الولد)!! وعندما نقول امرأة شريفة فنحن لا نعني أنها لا تكذب ولا تغش ولا تسرق وربما يستطيع أي شاب أن يتزوج من كاذبة وسارقة بلا تردد لكنه يتردد كثيرا إذا ما كانت تعرف رجلا قبله حتى لو كانت لديها كل الفضائل الأخرى! في ثقافتنا الكثير من التناقضات الأخلاقية والمصطلحات التي تثير القرف لأنها شذت عن معناها الحقيقي وبعدت كل البعد عن العدالة الأخلاقية.. واحدة من ازدواجيتنا الأخلاقية أنا أعتدنا على القول عن بنات الهوى(بنات الليل).. فماذا عن هؤلاء الذين يشترون الجنس والهوى بالمال؟ لماذا توجد (المومس) ولا صفة أو مصطلح مقابل للرجل؟ أليس الشرف ضد كل ما هو لا أخلاقي ولا إنساني؟ اعتدنا أن ندعو للمرأة بالستر "الله يستر عليها" وحين ندعو للرجل نرفع مستواه عن شبهة الفضيحة لنقول "الله يهديه " فهو الضال ليس إلا..! اعتدنا دعوة المرأة للاكتفاء بالرجل أيا كان فاخترعنا مصطلح جائر قائلين "ظل رجل ولا ظل حيطة"؟ في المقابل ليس للمرأة ظل .. ظل نخلة مثلا أو ظل شجرة على الأقل! لماذا نحرم المرأة بهذه البساطة من أن يكون لها شرف أو ظل!؟ اعتاد الآباء على بيع بناتهم بالمهر الغالي تحت ستار عقد الزواج ، ينتهكون الشرف الحقيقي والأخلاق الحقه حين لا يتبعون الدين الذي يقول (إن أفضل الرجال أتقاهم) لا أغناهم؟ المهر هدية للمرأة وحق لها فتحول الحق إلى تجارة؟ لكنهم حتما شرفاء! اعتدنا أن نقول "الحاجة لغير الله مذلة" حتى تسللت هذه المقولة إلى عقولنا بمفهومنا الثقافي الخاص الذي جعل الاعتراف بالحاجة إلى الغير تكريس للمذلة والهوان يتبعه الاعتراف بالجميل تلقائيا وهو ما بتنا لا نحبذه؟ أصبحنا نسعى بلا وعي إلى نكران الجميل أو رفض الشكر والامتنان بل ونحاول أن نعد العشرة قبل أن نقوم بإسداء خدمة أو حاجة لشخص آخر خوفا من أن نقابل بذات الجحود والنكران؟ أو لسنا بحاجة لبعضنا البعض لنتشارك الحياة حلوة ومره؟ ليست حاجتنا لغير الله دائما مذلة لان حاجة الإنسان لأخيه الإنسان هي جزء من حاجته لله، وشكر الإنسان لأخيه الإنسان ليس مذله بل دليل عافية وثقة بالنفس. أوليس المجتمع الإنساني في تعريفه هو التقاء حاجات؟ أليس "الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " علاقتنا بالله تحددها علاقتنا بالآخرين، فان قبلنا حاجتنا من أخينا الإنسان قبلناها من الله وان شكرناه عليها شكرنا الله. هناك طرفة ذات مدلول فلسفي جميل أعجبتني جدا تقول بأن رجلا أشرف على الغرق فابتهل إلى الله متوسلا "أرجوك يا رب أن تنقذني" وجاءه صوت من السماء : لا تقلق يا بني سأنقذك. فمر على الفور قارب نجاه والقي له بحبل لكن الغريق رفض أن يتعلق بالحبل مصرا أن الله سينقذه! مات صاحبنا غرقا وانتقل إلى الله تعالى يوم الحساب فخاطب الرب معاتبا: يا رب وعدتني أن تنقذني ولم تفي بوعدك. يا بني: أرسلت قارب نجاه ورفضت أن تمد يدك، هل تريدني أن أنزل بنفسي إليك !؟ نعم .. اعتدنا على استخدام الواسطة التي حلت محل طلب المساعدة، فمن نمون عليه فقط نأمره ونطلب منه! إلى أي مدى يا ترى نمارس على المستوى الاجتماعي العدالة والأخلاق والحكمة التي نتشدق بها ونتحلى بصفات الشرف الحقيقي؟ هل تقترحون نسبة 50% مثلا؟ أم أن حالنا يبدو أكثر بؤسا وتخلفا من هذه النسبة التعيسة؟