نظم الشعراء فيها القصائد وتغنى بها المطربون,رسمها الفنانون بعد أن أتقن بناتها صنعتها فأسميت "صنعاء" إنها حاضرة اليمن الأولى منذ أكثر من 2000 سنة وعرفت قبلاً بآزال, ومدينة سام نسبة إلى مؤسسها الأول سام ابن نوح عليهما السلام. عبق التاريخ وعراقة المكان وأصالة الإنسان تجمعت هنا لتجعل التاريخ حاضراً في أحياء المدينة وفي أسواقها وأزقتها, حياً تسايره في كل زاوية تحاوره وتسمع صدى صوته في أرجاء الحوانيت الزاخرة بالصناعات التقليدية, تقرأه لوحات فنية مليئة بالأفكار والجمال في معمار فريد مترف بالألوان. طالب أجنبي: لديك منظر جميل هنا, عُشق هذا المكان وسهل جداً وخاصة عندما يكون الطقس جميل فترى الحدائق الخضراء والبيوت القديمة. حمود منصر: أهو المكان فقط؟ أم المكان والإنسان مبعث عشق الأجانب للسكن في هذه الدور السامقة البنيان؟ وهل لهذا العشق روحٌ ومعنى؟ مادام البعض من أهل صنعاء ينزحون تباعاً للسكن في الأحياء الجديدة. لندا (طالبة أميركية): سافرت كثيراً وتنقلت بين دول الشرق الأوسط يمكنني القول بأن اليمن هي المفضلة لدي، ولذلك أعيش هنا. جان لامبيرت (موسيقار وباحث أوتار): كنت أبحث عن مجتمع مثل اليمن صراحةً، وجيب اليمن بالصدفة بالأول ولكن كأنه اليمن كنت عم أدور عليه من زمان يعني. حمود منصر: تبدو الحكاية عميقة بعمق تاريخ صنعاء من عهد غمدان أشهر القصور التي روي عنها الكثير من الأساطير, وكان يتربع قلب المدينة قبل نحو2000 سنة. ماركو (خبير في ترميم المخطوطات): صنعاء من المدن المشهورة.. والمشهور جداً وخصوصاًَ جمال الطبيعة والمعمار, لذلك أنا شعرت أنني أضفت بعض الشيء إلى أصالة المدينة لأكون أقرب إلى حقيقتها. حمود منصر: باب اليمن لا شك أنه في كتب التاريخ مجرد إحدى 7 بوابات كانت تشكّل مداخل صنعاء العتيقة, لكنه اليوم بمثابة بوابة يلج العابر منها إلى أزمنة بعيدة ترفل بصخب الحياة, وتاريخ لم يتوقف نبضه في مدينة مشرعة أبوابها لكل حالم يدنو من أسوارها. أوستن (طالب أميركي): أول ما وصلت اكتشفت أنني أحب اليمن, يعني أكثر من أي مكان ثاني أنا عشت فيه في الشرق الأوسط. حمود منصر: جان لامبيرت حلم في الصغر بعالم لم يكن بحسبانه أن يجده ذات يوم, وحين قدم إلى اليمن قبل ربع قرن تحول إلى عاشق مغرم, أثارته مفاتن صنعاء فحلّ بها, اندمج مع أهليها فتحول حلمه إلى واقع تجسّد بسحر المكان وبساطة الإنسان. جان لامبيرت (موسيقار وباحث أوتار): أنا اكتشفت هنا في اليمن فعلاً شيء إنساني كنت محتاج له - شفت كيف - وهذا الجميل يعني إنه ربما أنتم ترون اليمن يعني كيمنيين أن اليمن بلد متخلف أو ما بيلحقش التقنيات الحديثة والمستوى الاقتصادي العالمي إلى آخره.. بس أنا بالعكس أرى أن اليمن متحضر أكثر من فرنسا إلى حد ما.. حمود منصر: يعتبر لامبيرت مجيئه إلى صنعاء صدفة حيث عمل مترجماً في السفارة الفرنسية, لكنه دخل في علاقة غرامية مع اليمن وعشقاً مستمراً لصنعاء تاريخاً حياً وموروثاً متجدد. جان لامبيرت (موسيقار وباحث أوتار): أنا وزوجتي يعني نحب الثقافة اليمنية نحب التراث ونحب كل هذه الأشياء, بس فعلاً لما الواحد يعيش في بيت قديم اللي فيها هذا الغوس لتلييس الجدران.. حمود منصر: بدلاً عن الإسمنت.. جان لامبيرت (موسيقار وباحث أوتار): بدلاً عن الإسمنت أو الرنج الزيتي أو الكيماوي تحس بنعومية وتحس بحميمية يعني شيء مختلف تماماً, يعني وهذه يعني نوعية في الحياة اليومية لليمنيين يعني نوعية ممتازة للجودة في أسلوب للحياة. حمود منصر: تنقل الأنثروبولجي لامبيرت بين دور صنعاء مستمعاً بهندستها ومضامينها الاجتماعية والفنية والثقافية, فاستلهمها للاندماج مع الإنسان حيث وجد روحاً مفعمة بالتسامح والانفتاح على الآخر. جان لامبيرت (موسيقار وباحث أوتار): أنت تشوف الباب هنا يعني عقد صغير بوسط العقد الكبير, وتتجه إلى هنا كمان تشوف عقد صغير بوسط عقد كبير تشوف على تصميم جميل يعني يخلي الواحد يحسّ.. حمود منصر: في بُعد.. جان لامبيرت (موسيقار وباحث أوتار): بالزبط يعني في بُعد وفي عمق وفوق كأنه في أفق طبيعية داخل البيت, والبيت ظلمي يعني طبعاً الحجرة ما فيه شبابيك، هذه القمرية الكبيرة. حمود منصر: داخلية كبيرة.. جان لامبيرت (موسيقار وباحث أوتار): يعني غريبة ونادرة, يبدو هذا كان يُعمل كثيراً في الأربعينات والخمسينات مثل ما يوجد في دار الحجر مثلاً تلاقي في المفرج في قمريات كبيرة كدا، وفعلاً هذا البيت مميز لأنه تلاقيه مزيج من الحداثة ومن التراث بس مزيج جميل فيها روح فنية.. حمود منصر: تعمق في دراسة وفهم الموروث الثقافي والفني لصنعاء ومنظومة العلاقات الاجتماعية وتكيف معها, تأثر بالغناء الصنعائي حتى أجاده, طرُب له وأطرب به غيره, غنى أعرق الأغاني التراثية وأجاد عزف أقدم الألحان. [مقطع من أغنية لجان لامبيرت] حمود منصر: بروح العاشق بروح العاشق والباحث والعالم عاد لامبيرت إلى الجذور وأمعن البحث في الماضي الغنائي والموسيقي الصنعائي. جان لامبيرت (موسيقار وباحث أوتار): لما توفى الأستاذ علي الأنسي يعني اكتشفت في وسائل الإعلام هذا الفنان الكبير واستمعت إلى ألحانه وإلى صوته, ويعني حسيّت شيء خاص يعني ومنه من هذا الفنان إلى فنانين آخرين مسلسل اكتشافات للأصوات الجميلة والألحان الشجية. توجد علاقة تكاملية بين الشعر والموسيقى في الغناء الصنعائي حمود منصر: واكتشف فنانين ومطربين لم يسبق لهم الظهور على الجمهور, وكتب عن وشائج العلاقة التكاملية بين الشعر والموسيقى في الغناء الصنعائي. جان لامبيرت (موسيقار وباحث أوتار): هنا في اليمن وخاصة في صنعاء فيه فلسفة للتكامل في الموسيقى والشعر واللغة وكأنها فعلاً كل واحدة تكمل الثانية، والذي عجبني في الجمالية في الفلسفة الجمالية للموسيقى اليمنية أنها تحترم هذا التكامل, يعني الموسيقى ليست لوحدها مثلما نعرفها في الغرب مثلاً مثل ما يقولون الفن للفن.. حمود منصر: تكتمل وشائج الانسجام بين الشعر الحميني واللحن التراثي الصنعائي في نظر لامبيرت من خلال العزف على أوتار آلة العود اليمنية القديمة التي تُعرف بالطوربين, وفي ذروة الشعور والنشوة والاستمتاع بهذا الغناء يداهم الموسيقار لامبيرت شعور بالحسرة لما أصاب المرأة اليمنية من ظلمة الحجاب وعزلته المبالغ فيها لاسيما النساء الريفيات. جان لامبيرت (موسيقار وباحث أوتار): في صنعاء النساء كانت دائماً محجبات في المدينة في الأرياف أكثر, يعني مثلاً أنا أعيش في الأرياف مع عائلات يمنية بشكل طبيعي كثير وحتى رقصت مع نساء يعني في حفلات عامة يعني حفلات أعراس وأشياء كدا, بينما الآن حتى في الريف ما عاد توجد هذه الأشياء, وطبعاً هنا اليمن خسر الكثير من التقاليد والعادات النسائية واللبس والجمال والمجوهرات, وكل قرية كان عندها طريقة مختلفة للبس النسائي مثلاً, هذه الأشياء للأسف راحت في 20 سنة كدا يعني. حمود منصر: ظاهرة خطف الأجانب التي امتدت لسنوات في اليمن لم تثني لامبيرت وعشرات الغربيين وغيره عن عشق صنعاء والسكن في دورها القديمة. جان لامبيرت (موسيقار وباحث أوتار): حبيتها كثير وما زلت معجب لما أتمشى في شوارع صنعاء دائماً يعني أتفرج بالبيوت بالجدران, ودائماً أكتشف أشياء جديدة لا أشبع من هذا التفرج. أوستن (طالب أميركي): اليمن يعني بلد يعني جميل, والصورة التي موجودة في أميركا التي يعني الناس يتكلمون عنها في أميركا غير صحيحة, وأنا أتكلم أن اليمن يعني بلد جميلة والناس طيبين ولا توجد أي يعني أسباب للخوف. طالب: أظن أن هذا في أوروبا لم نفهم ذلك بشكل جيد, توجد مشكلة بالوسائل يعني بالتلفاز بالصحف. حمود منصر: نعم الصورة قد تبدو مغلوطة وغير صحيحة, ولا شك أن شعوراً ينتاب هؤلاء الغربيين ونظرائهم العرب والمسلمين الذين يعيشون في مجتمعات غربية ويضع على عواتقهم مسؤولية المساهمة في تصحيح الصورة, وربما أن عشقهم لصنعاء وعيشهم مع أهلها البسطاء المعتدلين يجعل من هذه المدينة العربية العريقة نقطة حوار وبديل إنساني لما يسمى بصدام الحضارات, وثمة معاني أخرى لمعرفتها تابعونا بعد الفاصل. حمود منصر: ليندا فتاة أميركية قدمت إلى اليمن للمرة الأولى قبل عامين, قضت سنة كاملة في تعلم العربية ثم غادرت, بيد أنها فضلّت العودة لنفس المكان ولنفس الغاية, لتلحق مجدداًَ بعشرات الأجانب الدارسين للعربية في معهد صنعاء، يجمع هؤلاء الطلبة بين متعة الإقامة وتعلم العربية في مدينة يزيد تاريخها عن 2000 سنة، اختارت ليندا أن تسكن مع زميلاتها من منزل قديم من خمسة طوابق في قلب المدينة العتيقة، وجودهن في هذا الدار ليس مجرد سكن بل تجربة فريدة في التعايش مع الآخر البعيد, وفي بلد غالباً ما اقترن ذكر اسمه في وسائل الإعلام الغربية لاسيما الأميركية بالهجوم على المدمرة كول أو بأسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة. ليندا (طالبة أميركية): أحد الأسباب الأساسية لوجودي هنا هو لتفهم عادات وتقاليد هذا المجتمع, حيث أن هناك بعض الأميركيين لا يعرفون شيئاً عن العادات والتقاليد اليمنية, هناك ضغوط قوية اتجاه اليمنيين وأنا كأميركية أعيش في اليمن أحاول أن أتفهم هذه التقاليد والعادات, وعند رجوعي إلى أميركا أحاول أن أوضح هذه الأمور لأهلي وأصدقائي. حمود منصر: ربما يجد معظم هؤلاء الغربيين في صنعاء عالماً لم يتخيله من قبل كما فعل لامبيرت, كل شيء من حولهم قديم وتقليدي حتى مظاهر الناس مختلفة تماماً, رجال يتمنطقون بالخناجر أي الجنبية, وآخرون مسلحون بالبندقية, نساء محجبات لا تكاد تُرى أعين بعضهن, مجتمع إسلامي محافظ لكن أهلهم منفتحون, بساطهم ودماثة أخلاقهم وعفويتهم تدهش هؤلاء الغربيين وتسرهم في آن معاً. ليندا (طالبة أميركية): أعتقد أن المجتمع اليمني يحتوي على مُثل قيمة للعائلة, قبل سنتين عشت مع عائلة يمنية لمدة شهر واحد ما أزال أتواصل معهم وأزورهم كل يوم, هناك روابط قوية ما بين العائلة اليمنية. جان لامبيرت (موسيقار وباحث أوتار): في روح اجتماعية عند اليمنيين أكثر من الفرنسيين, يعني هذا الجو مثلاً الاجتماعي وفرّ لي أشياء كانت ناقصة ناقص لها وكنت مشتاق لها بدون ما أعرف. حمود منصر: ماري أو مريم أبو شوارب جاءت إلى اليمن من مقاطعة بوردو الفرنسية عام 1978 تعمل باحثة في الأنثروبولوجيا لكنها ما لبثت أن تزوجت بعد سنوات من عناء البحث بالشيخ عسكر أبو شوارب أحد شيوخ قبائل حاشد الشهيرة, قد تبدو الحكاية لدى البعض بمثابة مغامرة مثيرة, وبالنسبة إلى مريم طبيعية لأنها أحبت اليمن، الإنسان فتزوجته والمكان فسكنته, عشقت صنعاء بدورها القديمة وأسواقها التقليدية الصاخبة, ومن قلب أحياءها المتأججة بصخب الحياة انتقلت إلى منطقة الروضة في الضاحية الشمالية للمدينة. ماري: أنا أحتاج حياة طبيعية شوي, ولقيت المدينة القديمة ساحرة مدينة اليمن القديمة ساحرة, ولكن نقيس الهواء والبستان وأنا أحتاج بستان أنزل أشتغل بيدي في البستان آكل في البستان هذا اللي خلاني أختار البقاء. المورث الحضاري والثقافي يعتبر تراثاً إنسانياً لا يخص اليمنيين وحدهم حمود منصر: وبعيداً عن الصخب وضجيج الحرفيين حققت مريم حلمها بشراء منزل طيني قديم متهالك يعود بناءه إلى نحو 400 سنة, قضت 10 سنوات في إصلاحه وترميمه بمواصفاته الأصيلة أعادت الروح إليه فأصبح جنتها في الدنيا. ماري: قبل ما أجي ألاقي بيت في الروضة لقيت بيت وكنت أفرح وكثير كان مخربة البيت أنا كنت أتصور مخربة نرمم وأقول يعني خلص فاضية البيت نشتريه, ولما نبدأ بمعاملة الشراء نلقاه وراء الخرابة هذه مشاكل كبيرة.. عسكر أبو شوارب (أحد شيوخ قبائل حاشد اليمنية): إجيت أدور على المحلات هذه كلها لو ما حصلّت البيت هذا تلقاه خرابه يعني مسدل من فوق ومن تحت ومكسرة الأخشاب، أخذته أرجع الله يرحمه لهذيك اللي إيش تبغى في هالخرابة هذا جنون قلت يا أخي نفسيتي أنا أشتريه هكذا.. حمود منصر: لم تعد مريم فقط مجرد باحثة غربية في صنعاء تتكلم العربية وتجيد اللهجة الدارجة الصنعائية, بل أصبحت تمتلك معرفة وثقافة واسعة عن الحياة الاجتماعية التقليدية اليمنية, وتُلّم بالمسميات والمصطلحات الفنية والهندسية الخاصة بالعمارة الصنعائية. ماري: حبيت لما الواحد يدخل البيت يذكر المنظر الأصلي هو الباب هذا اللي كان أصلاً ما كان هنا كان في هذا المكان يعني للحيوانات, تهوية للحيوانات التي كانوا ممكن يدخلوها في البيوت الجمال البقرة فهدول تنفس لهم يغلقوه ويجيبونهم عبر الباب هذا الأكل يأكلوا فهذه البيوت القديمة كلهم لهم الباب هذا اسمه باب الشج، وثانياً من أول البيت تشوف الطابق الأرضي اللي يقول النور الغريب أو القمرية يعني هذا كله أجزاء اللون هذا كانت مكسرة نحنا طبعاً رجعنا في البيت هنا لأنه كله كان الأسطح هكذا.. حمود منصر: تدافع مريم عن حقها في المورث الحضاري والثقافي الذي تزخر به صنعاء باعتباره تراثاً إنسانياً لا يخص اليمنيين وحدهم, ومن هذا المنطلق تعمل على حمايته وصيانته وتجديده بمواصفته وخصائصه الأصيلة. ماري: لازم الإنسان يصير ماهر الوراثة حق اليمن هنا, وعشان اليونسكو لما يدخل داخل المدينة القديمة صنعاء في تراثها العالمي يقولون أنه تراث الإنسان ولاحق اليمن ولا حق المواطن هو حق الإنسان كإنسان في العالم أشعر أنه حقنا.. حمود منصر: بهذه الروح والفهم ومن خلال تعايش مريم مع العمال الذين رمموا منزلها وبعشق لامبيرت وحبه للثقافة والتراث والغناء الصنعائي يتكشف سر جاذبية صنعاء وتفضيل الأجانب السكن في دورها. ماري: أنا أحب الكرة الأرضية لأن الروح فيها فمها أبقى في فرنسا في الخارج في أي بلاد أنا أفهم أنه أنا مربوطة في أين الجمال والروح حق التاريخ الإنساني. جان لامبيرت (موسيقار وباحث أوتار): لازم نعيش مع بعض ما عندنا شك بشكل سلمي إلى حد ما, ولكن بدون ما نخسر كل غناءنا الثقافي وثروتنا الثقافية. حمود منصر: بين أصالة المكان ومكنون المكان وعراقة الإنسان تبقى صنعاء موطن عشق وفن وجمال وامان, غير أن صراع المصالح والسعي إلى التطرف وغياب الحوار وانتقاص حقوق الإنسان يعكر صفو الحياة في كل مكان, لكنه حتماً لم يمنعنا من استكشاف قدر من سر عشق هؤلاء الغربيين لصنعاء, ومعاني اختيارهم السكن في دورها, وقديماً قيل "صنعاء حوت كل فن".