صادم.. لن تصدق ماذا فعل رجال القبائل بمارب بالطائرة الأمريكية التي سقطت في مناطقهم! (شاهد الفيديو)    لقاء يجمع ولي العهد السعودي والرئيس الإماراتي في هذا المكان اليوم الجمعة    المليشيات الحوثية تبدأ بنقل "طلاب المراكز الصيفية" إلى معسكرات غير آمنة تحت مسمى "رحلات"    منظمة الشهيد جارالله عمر بصنعاء تنعي الرفيق المناضل رشاد ابوأصبع    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن في محافظة إب    بن مبارك يبحث مع المعهد الملكي البريطاني "تشاتم هاوس" التطورات المحلية والإقليمية    مليشيا الحوثي تنظم رحلات لطلاب المراكز الصيفية إلى مواقع عسكرية    مسيرة حاشدة في تعز تندد بجرائم الاحتلال في رفح ومنع دخول المساعدات إلى غزة    رئيس مجلس القيادة يناقش مع المبعوث الخاص للرئيس الروسي مستجدات الوضع اليمني مميز    أسماء من العيار الثقيل.. استقطاب اللاعبين بالدوري السعودي ترفض طلبات للأندية للتوقيع مع لاعبين لهذا السبب!    ظلام دامس يلف وادي حضرموت: خروج توربين بترومسيلة للصيانة    المطر الغزير يحول الفرحة إلى فاجعة: وفاة ثلاثة أفراد من أسرة واحدة في جنوب صنعاء    طفل يلفظ أنفاسه الأخيرة داخل قاعة الامتحانات.. لسبب غريب    بيان هام من وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات من صنعاء فماذا قالت فيه ؟    ميسي الأعلى أجرا في الدوري الأميركي الشمالي.. كم يبلغ راتبه في إنتر ميامي؟؟    تستضيفها باريس غداً بمشاركة 28 لاعباً ولاعبة من 15 دولة نجوم العالم يعلنون التحدي في أبوظبي إكستريم "4"    رئيس الاتحاد العام للكونغ فو يؤكد ... واجب الشركات والمؤسسات الوطنية ضروري لدعم الشباب والرياضة    بعد أيام فقط من غرق أربع فتيات .. وفاة طفل غرقا بأحد الآبار اليدوية في مفرق حبيش بمحافظة إب    أمطار رعدية على عدد من المحافظات اليمنية.. وتحذيرات من الصواعق    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    تهريب 73 مليون ريال سعودي عبر طيران اليمنية إلى مدينة جدة السعودية    تدشيين بازار تسويقي لمنتجات معيلات الأسر ضمن برنامج "استلحاق تعليم الفتاة"0    شاب يمني يساعد على دعم عملية السلام في السودان    الليغا ... برشلونة يقترب من حسم الوصافة    أعظم صيغ الصلاة على النبي يوم الجمعة وليلتها.. كررها 500 مرة تكن من السعداء    علي ناصر محمد يفجر مفاجأة مدوية: الحوثيون وافقوا على تسليم السلاح وقطع علاقتهم بإيران وحماية حدود السعودية! (فيديو)    الخليج يُقارع الاتحاد ويخطف نقطة ثمينة في الدوري السعودي!    خلية حوثية إرهابية في قفص الاتهام في عدن.    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    مبابي عرض تمثاله الشمعي في باريس    مأرب تحدد مهلة 72 ساعة لإغلاق محطات الغاز غير القانونية    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن في محافظة إب    اللجنة العليا للاختبارات بوزارة التربية تناقش إجراءات الاعداد والتهيئة لاختبارات شهادة الثانوية العامة    العليمي يؤكد موقف اليمن بشأن القضية الفلسطينية ويحذر من الخطر الإيراني على المنطقة مميز    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا لكرة القدم للمرة ال15 في تاريخه    تحذيرات أُممية من مخاطر الأعاصير في خليج عدن والبحر العربي خلال الأيام القادمة مميز    النقد الدولي: الذكاء الاصطناعي يضرب سوق العمل وسيؤثر على 60 % من الوظائف    رئيس مجلس القيادة يدعو القادة العرب الى التصدي لمشروع استهداف الدولة الوطنية    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    600 ألف دولار تسرق يوميا من وقود كهرباء عدن تساوي = 220 مليون سنويا(وثائق)    وعود الهلآّس بن مبارك ستلحق بصيف بن دغر البارد إن لم يقرنها بالعمل الجاد    المملكة المتحدة تعلن عن تعزيز تمويل المساعدات الغذائية لليمن    وفاة طفل غرقا في إب بعد يومين من وفاة أربع فتيات بحادثة مماثلة    سرّ السعادة الأبدية: مفتاح الجنة بانتظارك في 30 ثانية فقط!    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    وداعاً للمعاصي! خطوات سهلة وبسيطة تُقربك من الله.    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرئيس صالح.. طريق خاص للبناء الديمقراطي
نشر في نبأ نيوز يوم 16 - 07 - 2006


أولاً: تأهيل التجارب الوطنية
السلطة وتدوير الأزمة الديمقراطية
إن من أعظم ما تحقق عبر مسيرة الثورة اليمنية هو ذلك الذي انبلج في عهد الرئيس علي عبد الله صالح، من تأكيد لذاتية الإنسان اليمني، وتأصيل لحقه في المشاركة الشاملة من خلال الوسائل الديمقراطية التي أخذت في التطور والاتساع بمعطياتها الديمقراطية مع انبلاج فجر السابع عشر من يوليو 1978م، وبإشراقة العهد "الميثاقي" وقيام المؤتمر الشعبي العام، ورسوخ الفكر الشوروي.
لقد مضت مسرة الثورة اليمنية على طريق شاقة وبلا محددات مفهومة، فأنهكت القوى الوطنية بمتطلبات الدفاع عن مشروعها للثورة، وجرفتها بعيداً عن التكوين الديمقراطي الصحيح للبنى السياسية والاجتماعية للوطن اليمني. الأمر الذي جعل الصراع والخلاف يستحوذان على ميدان العمل الوطني في ظل غياب الأُطر الواسعة المتعلقة في إدارة العمل وتخلف وسائل فرز عناصره وأدواته التي لا يمكن أن يستهدي لفضلها المجتمع بغير السلوك التطبيقي للفلسفة الديمقراطية.
وفي الحقيقة أننا لا نلوم تلك القوى فيما جرّت إليه الساحة اليمنية من وضع أليم لأن ذلك كان أقصى حدود مهاراتها واستيعابها لآليات العمل السياسي، وكل التجربة التي عاشتها في كنف عقود مريرة من الظلم والفقر والمرض، والعزلة التامة عن العالم الخارجي الغني بالعظات والدروس.. ولا شك أن النظرة للأمل لا تعني تحقيقاً آلياً له، فالديمقراطية كانت حلم اليمنيين جميعاً، ولكن من أين للذين يربطون على بطونهم حجراً أن يحققوها.. ومن أين للساسة الذين يعجزون عن تخيل ملامحها أولا ًأن يبلغوها...!؟
إن خطأ الكثيرين ممن يحاولون تحليل مفردات الحدث السياسي اليمني هو أنهم يجردونها عن صلاتها بالظرف التاريخي والواقع الاجتماعي، وفلسفة الحياة اليومية اليمنية.. ويبحثوا بين طيات الحدث عن أبجديات المُثل السياسية،والنظريات الفكرية العالمية بتجاهل لكل الخصوصيات المميزة لبلد عن سواه، وكل سلطة عن الأخرى، وكل شريحة عن أختها.. وإذا ما فعلوا ذلك وجدوا أقدامهم على منزلق حاد ينتهي بهم إلى فهم مشوش، وتقديرات غير صائبة، واستنتاجات مقلوبة.. وتلك كانت سمة الأنظمة السياسية اليمنية أيضاً التي سبقت فترة موضوع بحثنا،حيث تجاهلت أهمية الانطلاق من استيعاب دقيق لواقع الأزمة الثورية اليمنية، ولم تكلف نفسها عناء التدرج المنطقي في بناء مناهج الحكم، وبلوغ الغايات الثورية الكبيرة على أساس من طبيعة الظرف اليمني، وملابسات موروثه التاريخي.
لقد حوصر الهدف الديمقراطي للثورة بين الشخصية التكوينية المركبة للمجتمع اليمني من جهة، وملامح ثقافة السلطة من جهة أخرى، بحيث لم تسعفها خبراتها المختزنة ببدائل تتواءم والوضع المعقد،فظلت تنأى بمسئولياتها الوطنية إلى بعض الممارسات المحدودة كالمؤتمرات النوعية والعامة، وبعض المساهمات العقيمة التي غالباً ما يتم تطويعها لمصلحة مراكز النفوذ السياسي والاجتماعي ونظام الحكم نفسه.
فعلى سبيل المثال، كانت الخطوات المتبعة في إصدار الدستور الدائم لعام 1970م تقترب كثيراً من الأساليب الديمقراطية في نشأة الدساتير – وإن كان البعض يرى قصوراً في أساليب استقصاء الآراء، إلاّ أن بالإمكان غض الطرف عنه إذا ما راعينا ظروف اليمن ومحدودية إمكانياتها – لكن مجلس الشورى الذي تم تشكيله بناءً على ما نص عليه ذلك الدستور، بدا واضحاً جداً عليه حجم تأثير مشائخ القبائل الذين كفلت لهم طريقة الانتخاب غير المباشر التمثيل فيه بغالبية عظمى، وإيلاء منصب رئاسة المجلس للشيخ عبد الله بن حسين الأحمر. ومنح المجلس سلطة انتخاب المجلس الجمهوري،وأن المجلس الجمهوري هو الذي يعين رئيس الوزراء، وحتماً سيفرض ذلك سيطرة عظيمة للتيار القبلي على نظام الحكم، مما حدا بالرئيس إبراهيم الحمدي إلى حلّه حال استلامه الحكم.
أما تجربة مجلس الشعب التأسيسي الذي أنشأه الرئيس الغشمي في 6 فبراير 1978م، فإن جميع أعضاءه البالغين (99) عضواً كانوا يعيّنون من قبل الرئيس نفسه، وهذه الصفة بحد ذاتها تجعل منه مؤسسة تلبي إرادة السلطة وملحقة بها، ولا تمت بأية صلة قريبة أو بعيدة للفلسفة الديمقراطية خصوصاً وأن الرئيس لم يصعد إلى سدة الحكم عن طريق الانتخابات.
إن هذا التغييب الطويل للممارسة الديمقراطية الحقة ومؤسساتها الدستورية ولّد فراغاً سياسياً شجع على استمرارية البنى الاجتماعية التقليدية ورسوخها في المجتمع بدلاً من ذوبانها في كيان الدولة. علاوة على أن الأجواء أصبحت مكيفة لتغلغل قوى سياسية أخرى ضاعفت من تعقيدات الحالة اليمنية وأفضت إلى موجة جديدة من الصراعات الداخلية والمواجهات الدامية، وقدر عظيم من المعاناة الوطنية.
وخلاصة القول فإن الدستور اليمني الدائم 1970م كان قد حصر العمل السياسي حين حرّم الحزبية بجميع أشكالها من غير أن يهيئ البديل السياسي الذي يستوعب كل تلك القوى الوطنية العاملة في الميدان، وينظم أفكارها بأطر منهجية وبرامجية محدودة تتيح لها ممارسة العمل السياسي بأسلوب محددة. وهو الأمر الذي كلّف جميع القوى الوطنية دفع ثمنه غالياً ومكابدة آثاره المؤلمة لعدة سنوات كادت أن تقذف باليمن وإقليمها الجغرافي إلى أتون نزاعات وتقلبات من غير السهل التكهن بحجم أخطارها وأبعادها المستقبلية، وطبيعة الأشكال التي ستفرزها في حلبة الصراعات الدولية بين القطبين الدوليين – المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي.
الحقيقة الوحيدة التي ظلت قائمة حتى منتصف العام 1978م، هي إن الممارسة السياسية اليمنية حافظت على نمط سلوكي عقيم داخل دوائر النخب الحاكمة، عمل على تدوير أزمة العمل الديمقراطي من عهد لآخر وضمن مفاهيم ضيقة وحذرة، في الوقت نفسه ساعدت إلى حدٍ كبير في تقويض الصفة الشرعية للسلطة، وتعميق الهوة الفاصلة بينها وبين القواعد الشعبية، وبالتالي فإن القوى الوطنية كانت تجد لنفسها المبرر الذي تغطي به مناهضتها لنفوذ السلطة المركزية.. وأحياناً، السعي للإطاحة بها وإنهاء وجودها في الحكم. وسواء كان ذلك بدعم طرف خارجي ثالث، أو باستغلال مراكز قوة سياسية أو اجتماعية،فإن الدافع للقيام بذلك كان قائماً ومبرراً، وليس من وسيلة أخرى أمامها للتعبير عن رفضها للواقع غير الصدام المباشر.
لقد اصطبغت تلك الحقبة بذلك اللون من الفهم للعمل السياسي، بل وأصبح تقليداً متوارثاً أن لا يجري تداول المفاهيم الديمقراطية إلاّ بحدود لغة الخطاب السياسي والشعارات المرحلية التي يرفعها النظام الحاكم من حين لآخر بقصد المناورة الداخلية. وكان من الطبيعي أن ينعكس ذلك على حجم الثقة المتبادلة بين الطرفين – السلطة من جهة، والقوى الوطنية الشعبية من جهة أخرى.
وطبقاً لما سبق، نجد أن مهمة الرئيس علي عبد الله صالح لم تكن سهلة بأي حال من الأحوال، فذلك الموروث التاريخي الهائل من العلاقات والمسائل المعقدة يجعل عملية التغيير والتحول إلى منهج مستحدث من العمل الوطني المبني على القيم الديمقراطية قضية شاقة وتتطلب الكثير جداً من الوقت والجهد لاستعادة الثقة بين المجتمع والدولة أولاً، ومن ثم تأطير الواقع بسياسات عملية قادرة على اجتثاث الحلقات التقليدية المتنافرة، واستبدالها بقيم حضارية عصرية يتنامى على أقطابها واقع جديد من الممارسات الوطنية الواعية، والمتكافئة مع حاجاتها المرحلية.
وبطبيعة الحال، كان مجرد قبول الرئيس علي عبد الله صالح بتحمل المسئولية الوطنية في قيادة الدولة اليمنية يفهم منه استيعاباً لحقيقة ما كان، واستنطاقاً لمنطق ما يجب أ، يكون، ولا نظن إنه بغير تلك المهارة الاستقرائية للواقع اليمني كان سيجازف بالدخول من بوابة القصر الجمهوري.. فليس سهلاً على المرء حين يكون حديث السن أن يراهن على مسيرة ثورة، أخفق في إيصالها إلى بر الأمان كل من سبقوه.. لكن على ما يبدو أن الرئيس علي عبد الله صالح جعل من إنسان الثورة كل رصيده في الرهان، لأنه كان وحده القادر على تفجيرها في زمن المستحيلات، ولا بد أن يكون الأقوى على حمايتها وتمثيل أهدافها إذا ما أمتلك إرادته الوطنية الحرة، وأرجئ إليه صنع القرار، وحق الاختيار .
إذن تلك هي كلمة العبور التي حملها الرئيس علي عبد الله صالح وهو يلج بوابة القصر الجمهوري في السابع عشر من يوليو 1978م، وهي نفسها التي يدخل بها اليوم أرحب آفاق الدولة اليمنية الحديثة بعد ربع قرن من النضال والتضحية والتحدي والبناء.

التأسيس الديمقراطي بتكوينات مصغّرة
أدرك الرئيس علي عبد الله صالح منذ تحمله المسئوليات القيادية خطورة تغييب الجماهير وإزاحتها عن المشاركة في صناعة القرار، وما يترتب من جر العمل الثوري إلى مزالق الإرتجال والاستبداد. وهذا يعني البحث عن آليات معينة لإحياء العمل السياسي المنظم، والمستند على واقع الظروف التي يعيشها المجتمع، بمشكلاته وطموحاته، فيصبح أداه الثورة في أحداث التغيير الاجتماعي بما يتفق مع أهدافها وغاياتها النبيلة في التغيير وبناء مجتمع سليم ومتطور.
وبمثل ذلك التعريف الذي صاغه الرئيس صالح لمواقع الأزمة الوطنية اليمنية في تلك المرحلة تولدت الرؤى بأهمية الأسلوب الديمقراطي كوسيلة للالتحام بجماهير الشعب والتعايش مع همومها وطموحاتها وتوجيه حركتها بما يحقق ما ترجوه من طموحات وبما يقدم البدائل والحلول العملية الوافية لأي مشكلات واقعة أو متوقعة.. والقضية برمتها في نظر الرئيس صالح تتعلق بالكيفية التي يمكن لمؤسسة الحكم بواسطتها أن تعيد الفرد إلى دوره.. التاريخي واسهاماته الحضارية ومشاركاته الفعلية بصناعة المتغيرات والتحولات الكبرى في مجرى الحياة الإنسانية.
لكن في ظل الظروف التي كانت تثقل كاهل الإنسان اليمني بمورث تاريخي مضني وواقع وطني سياسي واجتماعي ممزق ومتخم بالتناقضات لم ير الرئيس علي عبد الله صالح بُداً من التحول إلى الديمقراطية على محاور موضوعية ناضجة، فيها الكثير من الاعتبارات والحسابات الدقيقة لواقع الساحة اليمنية والظرف النفسي والثقافي والاجتماعي للفرد. وهو ما يمكن فهمه بأننا لا نتوقع أن نجد أمامنا تجربة ديمقراطية مطلقة، وتعددية حزبية مفتوحة منذ اليوم الأول من حكم الرئيس علي عبد الله صالح.
كان بناء القاعدة الديمقراطية بتكويناتها المصغرة أمراً مهماً في تهيئة مناخات الممارسة الفعلية وإنماء التجربة على أصول معرفية لا ينبغي لأي مرحلة منها القفز فوق المراحل الأخرى. ونظراً لما أحتله هذا التدريج الموضوعي من اعتبارات خاصة في فكر الرئيس علي عبد الله صالح تطورت التجربة الديمقراطية اليمنية إلى تعددية سياسية ثم تعددية حزبية، وانتصرت أخيراً في أن تصبح النموذج العربي الفريد المشار إليه بالبنان، والذي تعمل دول العالم المتقدمة على حث بقية الدول العربية بالاقتداء بالتجربة الديمقراطية اليمنية ، وبناء الدولة الحديثة.
استهل الرئيس علي عبد الله صالح عهده بعدة خطوات عملية على مسار البناء الديمقراطي للدولة اليمنية، ومنها:
أ- دعم ورعاية حركة التعاون الأهلي للتطوير باعتبارها إحدى الصور المبسطة للديمقراطية في جانبها الاجتماعي التي تتيح لكل عضو من المجتمع فرصة المشاركة في الشأن المحلي والجماعي في ظل دولة المؤسسات الدستورية على التعاون والتكافل، وقد عرفها السياسيون: "الديمقراطية التعاونية تمثل أوسع ديمقراطية ممكنة كماً وكيفاً، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمستوى الديمقراطية العام في المجتمع والوجود في الجهاز الإداري أيضاً، فإذا غابت هذه الديمقراطية أو تحدد مستواها، انعكس ذلك على الديمقراطية التعاونية..".
ب- أصدر رئيس الجمهورية إعلاناً دستورياً (الثالث) في عام 1979م قضي فيه زيادة عدد أعضاء مجلس الشعب التأسيسي من (99) عضواً إلى (159) عضواً، وتم توسيع اختصاصاته، بأن أضيفت لأعضائه مهمة مناقشة مشاريع القوانين وتعديلاتها المقترحة، وتقديم التوصيات إلى الحكومة في المسائل العامة، وكذلك مناقشة الحسابات الختامية للميزانية العامة للدولة والميزانيات المستقلة والملحقة وإقرارها بقانون( ). وقد تم إضافة هذه المهام بحسب نص المادة (1) من الإعلان الدستوري الصادر بتاريخ 8/5/1979م.
وكانت هذه المبادرة مهمة جداً، عكست رغبة القيادة اليمنية في تفعيل دور السلطة التشريعية ومضاعفة حجم المشاركة الشعبية في صناعة القرار السياسي للدولة، علاوة على أن الرئيس علي عبدالله صالح اغتنمها فرصة لفسح مجال المشاركة في تسيير أمور الدولة لبعض العناصر الوطنية السياسية التي كانت مستبعدة عن دوائر الحكم في العهود السابقة رغم طول باعها النضالي الوطني وخبراتها الكبيرة. وبذلك يكون قد أرسى منطلقات متينة للممارسة الديمقراطية من خلال وسائل يثق بقدراتها، ووعيها السياسي، وولائها الوطني.
ج- وفي السياق نفسه أصدر الرئيس القرار الجمهوري رقم(13) لسنة 1979م والذي يقضي بتشكيل مجلس استشاري مؤلف من (15) عضواً يقوم مقام مجلس القيادة السابق في فترتي الحمدي والغشمي. واختير أعضاءه من ذوي التخصصات والخبرات العالية ومنحوا درجة نائب رئيس وزراء، وعين الشيخ عبدالله الأحمر رئيساً للمجلس، وتم العمل بالقرار وبدأ في شهر مايو/ 1979م.
وتحددت اختصاصات المجلس الاستشاري في دراسة وتحليل وتقييم القضايا الداخلية والخارجية ذات العلاقة بالمصلحة الوطنية العليا، وإبداء الرأي والمشورة بشأن السياسة العامة للدولة. ويشرف رئيس الجمهورية على اجتماعات المجلس (السرية)، ويتم اتخاذ القرارات بالتصويت وفقاً لرأي الأغلبية. ويعتبر إنشاء المجلس الاستشاري خطوة أخرى على طريق توسيع المشاركة الجماهيرية في صناعة القرار السياسي للدولة وتحملهم جزء من مسئولية إدارة شئون الحكم، والإطلاع على المتغيرات والمشاكل التي تتعرض لها السلطة.
د- شهد العام 1979م المزيد من الممارسات الديمقراطية الرامية إلى تأكيد رغبة القيادة اليمنية في إرساء دعائم عملية للمشروع الديمقراطي اليمني، وإصرارها على منح الشعب اليمني فرصته التاريخية التي حُرم منها لسنوات طويلة، للإعلان عن وجوده وإثبات ذاته الوطنية ورسم خطوط حياته اليومية وفقاً لإرادته وطموحه وتطلعاته الثورية.. وعلى هذا الأساس جرت في مايو 1979م انتخابات الهيئات التعاونية على مستوى الجمهورية. وعمل الرئيس صالح على توسيعها ورصد المزيد من الدعم لها، وقد بلغت في هذه الانتخابات (197) هيئة تعاونية. ويعلل الرئيس ذلك التوسيع "لإتاحة الفرصة لأكبر عدد من أبناء الشعب المنتخبين لتمثيل المواطنين والتعبير عن إرادتهم وقيادة العمل التعاوني".
في شهر يوليو 1979م جرت انتخابات المجالس البلدية لأول مرة في تاريخ الجمهورية العربية اليمنية، وعلى مستوى أصغر الوحدات الإدارية، بوصفها" قاعدة للمشاركة الشعبية الوطنية في تحمل المسئولية مع الأجهزة التنفيذية..". وتميزت هذه الانتخابات عن غيرها بتفاعل شعبي واسع، وتنظيم، وتمخض عنها انتقاء العديد من الكوادر الوطنية المخلصة التي أثارت إعجاب رئيس الجمهورية نفسه.
ه- عزز الرئيس علي عبد الله صالح تلك الأساسات الديمقراطية بخطوة أخرى لا تقل أهمية عنها في معايير البناء الديمقراطي السليم، وهي تقليد (اللقاءات الرمضانية) التي بدأها الرئيس صالح لأول مرة في تاريخ السلطة هذا العام 1979م في شهر (رمضان1399ه) وداوم عليها إلى يومنا هذا (رمضان 1423ه).
حيث أسس الرئيس تقليداً سنوياً في هذا الشهر المبارك، يلتقي فيه بكافة قطاعات الشعب مباشرة، بعيداً عن الرسميات، يناقش معهم المواضيع والمسائل المختلفة ويتبادل الآراء مع المواطنين، ويستمع إلى همومهم ومشاكلهم من خلال حوار مفتوح وخالٍ من التحفظات.
يصف الرئيس علي عبد الله صالح لقاءاته الرمضانية "كانت لقاءات شهر رمضان المبارك بكافة قطاعات الشعب الرسمية والشعبية- والتي سادتها روح الصراحة والصدق مع النفس ومع الوطن- قد أعطتنا فرصة طيبة للوقوف على الاتجاهات والآراء والأفكار التي عبر عنها أبناء وطننا والتي يسعدنا دائماً الاستجابة لما ينفع الوطن والمواطن.." .
وفي الحقيقة، تأكد خلال العام 1979م أن الرئيس علي عبد الله صالح عازم بجد على تبني الخيارات الديمقراطية في الحكم، وأن رهانه على الالتفاف الجماهيري حول قيادته كان يفوق بكثير رهانه على القوة في تثبيت أركان حكمه، خاصة وأنه أنهى الحرب مع قوات الشطر الجنوبي بالجلوس إلى طاولة المفاوضات في الكويت، وكذلك فتح حواراً طويل الأنفاس مع الجبهة الوطنية لفض النزاعات الدائرة. وقد ترافق ذلك الحدث مع ما سبق ذكره من جهد على المسار الديمقراطي، مما يؤكد لنا حقيقة كون هذا العام هو المرحلة الأولى من مسيرة البناء الديمقراطي للدولة، والتي تم خلالها ترسيخ معانٍ ومدلولات للديمقراطية، وتهيأت الجماهير لتقبل أفكارها، وإحياء فعالياتها، وإنجاح تجاربها الأولية. ولقد تصدرت المفاهيم الديمقراطية مقدمة الخطاب السياسي للرئيس صالح في تلك الفترة، وجاء بيانه السياسي الخاص بالعيد السابع عشر لثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1979م، مملوءاً بالإصرار والعزيمة على العمل لتأسيس قواعد البناء الديمقراطي المؤسسي، وغرس قيمه وتجاربه في المجتمع اليمني.. إذ قال:
(من هذا الإيمان الكامل بأصالة شعبنا اليمني العريق جاء تأكيدنا المستمر على ضرورة الآخذ بالأسلوب الديمقراطي في الحكم وفي علاقة الشعب بقيادته منذ اليوم الأول لتحملي مسئولية قيادة هذا البلد.. إن الديمقراطية التي نؤمن بها فضلاً عن أنها تمثل المبدأ الرابع من مبادئ الثورة الستة، فهي ضرورة ماسة لإعطاء المواطنين فرصتهم الحقيقية وحقهم الطبيعي الذي حرموا منه طويلاً. لذلك كان لابد لإرساء قواعد الديمقراطية الصحيحة في بلادنا من إتاحة الفرصة أمام الشعب للممارسة العملية في التخطيط وإبداء الرأي والمشاركة الشعبية في التنفيذ وتحمل مسئولية العمل والبناء جنباً إلى جنب مع أجهزة الدولة).
ثم يضيف الرئيس صالح قوله:
(إن قناعتنا المستمرة هي أن الديمقراطية- حتى تحقق غايتها النبيلة في إطلاق حرية الرأي والفكر والعمل والنقد البناء- لابد أن تكون ديمقراطية حقيقية من خلال الممارسة اليومية لا من خلال الشعارات الجوفاء والعبارات الخالية من المحتوى التي لا يقصد بها إلا الاستهلاك والمزايدة، ولهذا كانت خطواتنا العملية هذا العام مؤكدة نهجنا الديمقراطي الصحيح ودليلاً ملموساً على حرصنا على احترام إرادة الشعب…).
و- وعلى المسار الديمقراطي نفسه وجه الرئيس علي عبد الله صالح في الأول من مايو 1980م للعمال نداءً تاريخياً- ولأول مرة- يدعوهم فيه لتشكيل نقاباتهم العمالية التي من شأنها أن تعزز العلاقات الاجتماعية، وتنمي روح التعاون والعمل المشترك، وتؤسس قواعد أخلاقية فاضلة للأسلوب الأمثل في ممارسة المسئوليات العامة.. وقد أعقب هذه الدعوة نشاطاً كبيراً في القطاعات المهنية المختلفة، وظهرت على الساحة اليمنية العديد من المنظمات الجماهيرية والاتحادات ونقابات وجمعيات من كافة الأنواع والأغراض من الممكن عدها من التجارب الديمقراطية المبكرة التي أسهمت بشكل أو بآخر في تهيئة الساحة اليمنية ديمقراطياً وأهلتها لخطوات أخرى متقدمة.
ز- بتاريخ 21 أغسطس 1980م أصدر رئيس الجمهورية قانون الانتخابات رقم (29) لسنة 1980م لتتخذ به الممارسة الديمقراطية صيغتها القانونية المنظمة، ومداها الواسع حيث لولا تفكير قيادة اليمن بالتحول الديمقراطي السريع لما وجدنا هناك ما يبرر صدور مثل هذا القانون.. ومما يجدر ذكره، أن الرئيس صالح أجرى في العام 1981م تعديلاً على قانون الانتخابات منحت بموجبه المرأة اليمنية لأول مرة حق الانتخاب بعد أن كانت محرومة منه في الماضي.
وتعتبر هذه البادرة خطوة كبيرة على صعيد الحريات والحقوق العامة لفتت أنظار المجتمع إلى أهمية المرأة فيه وإلى حجم الدور الذي يمكن أن تلعبه في بناء الدولة اليمنية، ومن وجهة نظري- كان هذا التعديل خطوة جريئة وشجاعة للغاية من قبل الرئيس علي عبد الله صالح، وليس بمقدورنا التكهن بحقيقة ردود فعل التيار القبلي وتيار المحافظين على منح المرأة حق الانتخابات في بلد تطبق فيه العزلة فكيها على أبنائه، وتعشعش على كل بقعة فيه مخلفات الماضي السحيق بكل أوجاعها وآثارها المآساوية، ورموزها المشدودة إلى الوراء بعقلية الأمس وبثوب الملكية والثيوقراطية المستبدة.

ثانياً: مسيرة الديمقراطية عبر المؤتمر الشعبي العام
التأطير الديمقراطي للعمل السياسي
تطلع الرئيس علي عبدالله صالح إلى تأطير الجماهير اليمنية في وعاء سياسي يتحمل مسئولية العمل الوطني بصورة تكفل النجاح، وتحقق البعد الثوري الذي تم الإعلان عنه صبيحة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م في بيان الثورة الأول الذي أكد على تنظيم جماهيري موحد يشارك في عملية البناء ويرسخ أهداف الثورة.
ولما كان الظرف التاريخي السابق قد جر اليمنيين إلى واقع ممزق، تموج فيه قوى سياسية واجتماعية متعددة الأفكار ومتضاربة الرؤى، أدركت قيادة اليمن أن لا سبيل للتحول إلى أطر المشاركة الجماهيرية في العمل السياسي بدون الوضع النظري الذي يجنب العمل الوطني مغبة الوقوع في دوامة التجريب والضبابية الفكرية.
اتجه تفكير الرئيس صالح إلى ضرورة لملمة صفوفه الوطنية من خلال "صيغة عملية تتفاعل مع مبادئه وقيمه وأهداف ثورته)، علاوة على أن الفراغ السياسي الذي يعاني منه الواقع اليمني أملى ضرورة وجود (ميثاق وطني، يتضمن الفكر الذي يلتقي حوله جميع أبناء الشعب اليمني ضماناً لحصانة فكرية تحمي من الارتهان السياسي والاستلاب والتشقق…).
وعلى هذا الأساس صدر القرار الجمهوري رقم (5) لسنة 1980م، وتشكلت لجنة حوار وطني مؤلفة من (51) عضواً، يمثلون مختلف شرائح المجتمع اليمني من علماء ومفكرين ومشائخ وعسكريين ومثقفين ورجال دين وغيرهم. كما أنهم يمثلون جميع القوى الوطنية من إسلاميين وناصريين وبعثيين واشتراكيين ومستقلين وغيرهم. ليأخذوا على عاتقهم مسئولية صياغة الميثاق الوطني المعبر عن الإرادة الشعبية العليا الغالبة على فردية السلطة أو النزعات الفئوية التي قد تحاول فرضها أي جهة كانت على ساحة العمل السياسي الوطني.
ومن واقع قراءاتنا السابقة التي استعرضناها في الفصول الماضية عن طريقة وضع الميثاق الوطني وتأسيس المؤتمر الشعبي العام، تتشكل أمامنا صيغاً متقدمة وناضجة من الممارسات الديمقراطية التي توجت الجهود السابقة للرئيس علي عبد الله صالح في مضمار التنمية الديمقراطية للسلوك الاجتماعي والسياسي في الدولة اليمنية، وتوسيع مساحة الحريات العامة الممنوحة للشعب بهدف إشراكه في صناعة القرار السياسي بما يخدم تطلعاته وطموحاته المشروعة، وتمثل مرحلة الميثاق الوطني والمؤتمر الشعبي العام - التجربة الأكثر تميزاً، والأفصح تعبيراً عن المنهج الواقعي العملي في الإنماء الديمقراطي للمجتمع، استناداً إلى الحقائق التالية:
1- أن صياغة أفكار الميثاق الوطني لم ينفرد بها رئيس الجمهورية أو جهاز ما تابع للسلطة، بل أوكلت مهمته إلى لجنة شعبية مؤلفة من مختلف شرائح المجتمع اليمني وباختلاف توجهاتهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية والاجتماعية، بما فيهم قوى سياسية معارضة للحكم بشدة مثل الجبهة الوطنية القومية.
2- استغرقت عملية الصياغة والمصادقة على مشروع الميثاق الوطني ما يقارب العامين، واتبعت فيها لجنة الحوار الوطني طرقاً مشابهة إلى تلك التي ترافق إقرار الدساتير الوطنية في بقية دول العالم، حيث عقدت اللجان الفرعية مئات المؤتمرات المصغرة في مختلف أرجاء اليمن، ووزعت عشرات الآلاف من نسخ مشروع الميثاق الوطني، ومئات الآلاف من استمارات استبيان الآراء، وتم الشرح والتعريف بأفكار الميثاق على مستوى الوحدات الإدارية الصغرى. ثم أخضعت اللجنة الآراء والمقترحات المقدمة في استمارات الاستبيان لعمليات الفرز والتحليل والمناقشة، ومن ثم تعديل الميثاق الوطني إلى الصيغة التي تتلائم مع تطلعات أبناء الشعب اليمني وطموحاته، التي جاءت في الآراء والمقترحات المقدمة للجنة.. حتى إذا ما انتهت من كل ذلك عرضته للمصادقة عليه فرداً فرداً بطريقة رفع الأيادي.
3- على الرغم من التماثل الكبير بين الميثاق الوطني والدستور الدائم الصادر عام 1970م من حيث الخطوط الفكرية العامة، إلاّ أن الميثاق الوطني تبلورت أفكاره بطريقة تخفف الكثير من القيود المفروضة على العمل السياسي الشعبي. فقد رفض الدستور الدائم الحزبية بشتى أشكالها رفضاً مطلقاً، إذ نصت المادة (37) منه على أن "الحزبية بجميع أشكالها محظورة".
أما الميثاق الوطني فلم يقف موقفاً حازماً وصريحاً من فكرة الحزبية، وإن كان أشار عند حديثه عن المعيار الثالث للولاء الوطني والمتمثل في الحافظ على الوحدة الوطنية إلى (ضرورة الابتعاد عن التعصب الطائفي أو السلالي أو القبلي أو الحزبي، وغيرها من العصبيات التي تمزق الوحدة الوطنية وتضر بمصلحة المواطن والوطن). كما أن الميثاق الوطني اورد أن ( أي تبعية خارجية مادية أو فكرية أو التزام تنظيمي يعتبر خيانة وإضرار بمصلحة الوطن العليا وإخلالاً بالولاء الوطني . وهكذا نجد أن الميثاق الوطني ترك الباب مفتوحاً إلى حدٍ ما أمام الحريات السياسية وفقاً لنظرة مستقبلية يتطلع من خلالها إلى إمكانية التحول إلى مرحلة متقدمة جداً من مسيرة البناء الديمقراطي في الدولة اليمنية.
4- مثلت الخطوات التي تأسس بها المؤتمر الشعبي العام واحدة من التجارب الديمقراطية العملية التي طبعت بصماتها الفكرية الثورية على أحداث العصر، وشكلت تحولاً تاريخياً في مجرى الحركة الثورية اليمنية. فالمؤتمر الشعبي العام – قبل كل شيء- هو مؤتمر جماهيري لممثلي الشعب اليمني الذين يؤلفون (70%) من عدده الكلي البالغ (1000) ألف عضو، انتخبوا من جميع المناطق اليمنية بانتخابات حرة مباشرة بإشراف اللجنة العليا واللجان الفرعية لانتخابات هيئة التعاون للموسم الانتخابي التعاوني الثالث.
أما العدد المتبقي (30%) فلم يرج منه الزج بمراكز ثقل حكومية في المؤتمر الشعبي العام وإنما أريد بذلك الموازنة النوعية لأعضاء المؤتمر من خلال إتاحة الفرصة لبعض الشخصيات الكفوءة المؤهلة بخبرات عالية لممارسة دورها الوطني وتفعيل نشاط المؤتمر بفضل ما تقدمه من مشورة أو رأي، علاوة على حرص القيادة اليمنية على إشراك جميع القوى بلا استثناء من خلال تعيين أعضاء من القوى السياسية التي لم يحالفها الحظ في الانتخابات.. وتلك المعادلة تتجلى بوضوح في قائمة الأسماء الثلاثمائة المعلن عنهم بالقرار الجمهوري رقم (53) لسنة 1982م. والذي يمكن الرجوع إليه للوقوف على حقيقة ترجمة القيادة اليمنية للفلسفة الديمقراطية الناضجة.
5.- بما أن الميثاق الوطني تم إقراره من قبل المؤتمر الشعبي العام كنهج فكري للعمل الوطني ( وفي إطاره تتحدد برامج العمل السياسي ومعالم الطريق للمستقبل..)، وتم التأكيد على أهمية ( التزام جميع الأجهزة الحكومية والمؤسسات والهيئات العامة والشعبية وجميع المواطنين بتطبيق الميثاق الوطني في مجالات العمل المناط بهم والالتزام به في خططها وبرامجها وأسلوب عملها..). فهو إذن يعزز مبدأ السيادة الشعبية التي تمثل جوهر العملية الديمقراطية،وغاياتها الأصلية التي تناضل شعوب الأرض لنيلها والتمتع بحقوقها وسلطاتها.
وفي الحقيقة ، إننا لا نرى في الميثاق الوطني والمؤتمر الشعبي العام إلاّ نموذجاً يمنياً، عربياً متفوقاً بفلسفته الفكرية وأدواته الديمقراطية على كل التجارب السياسية الحاضرة في عصره، لأنه كان انبعاثا مجدداً للذات الحضارية اليمنية الأصيلة ولكن بلباس عصر الذرة، وعالم الانفتاح، وبلغة الثقافات السياسية الحديثة.
فتجربة الميثاق الوطني وإنشاء المؤتمر الشعبي العام كان بمثابة تأطير واع للعمل السياسي وتحول موضوعي وعملي نحو بناء مؤسسي حقيقي كفيل بشغل الفراغ السياسي والاضطلاع بمهام العمل الوطني بحريات متعقلة، وديمقراطية معرّبة الأبجديات.. لا تخضع لنظم وقوانين القوالب الفكرية الجاهزة المستجلبة من خلف الحدود اليمنية، بل إن الحالة أشبه ما تكون بعملية (يمننة) للممارسة السياسية وللفكر السياسي الوطني، متحرر من التبعية أو الارتجال النابع من معرفة دقيقة بالواقع، وتحليل مسبق لمتغيرات السياسات ومعالجاتها الوضعية.
ومن الأمور المسلم بها،أن يجد الإطار الفكري والأداة السياسية عناصر التمثيل والتفاعل مع الواقع بكل ظروفه وتقلباته، ومادامت تلك الأفكار والوسائل السياسية مرهونة بخياراتها الديمقراطية الذكية ومتجذرة في قاعدتها الجماهيرية العربية، وتسعى لتحقيق غايات وطنية مشروعة.. فهي بقدر ما كانت تؤسس الهياكل العامة للوحدة الفكرية، كانت ترسي أيضاً قيماً تعاونية، وقواسماً مشتركة، تتجاذب عليها قوى العمل الوطني، وتتلاحم بها موارد البذل مؤلفة طاقة وطنية هائلة،كفيلة بردم الكثير جداً من مخلفات الماضي وتجاوز الأزمات الناجمة عنها، والانتقال إلى مرحلة جديدة من التنمية والبناء.. ولعل المناخ الوحيد الذي كان بإمكان الرئيس علي عبد الله صالح أن يصل به إلى الظرف الجديد هو تلك الرؤى الديمقراطية التي أطّر بها العمل السياسي اليمني، وأطلق من خلالها الأبواب لمشاركة شعبية سياسية واسعة رفعت عن كاهل السلطة الكثير من المهام وتقاسمت معها المسئوليات أيضاً.

توسيع الممارسات الديمقراطية:
تنبع أهمية الرؤى السياسية للرئيس علي عبد الله صالح بتأسيس المؤتمر الشعبي العام – كما بدا لنا ذلك- من الرغبة في إيجاد مؤسسات سياسية لا تعتمد على الجيش ولا على القبيلة، وإنما على فئات مدنية متحضرة ومؤهلة لإعداد اتجاهات مرحلية تواكب الحاجة الثورية، وتتعاطى مع متغيرات الظرف السياسي الطارئ من خلال أدوات "الديمقراطية المباشرة" التي أراد بها إنكار إمكانية فهم المصالح الوطنية العامة عبر المصالح الطبقية المحدودة.. وبلا شك – كان وجود مثل تلك الصفة السياسية أسهم إلى حدٍ كبير في ترسيخ ثقافة الحوار السلمي في الحياة السياسية اليمنية في عهد الرئيس علي عبد الله صالح.
وفي سياق ذلك، كان انتخاب الرئيس علي عبد الله صالح أميناً عاماً للمؤتمر الشعبي العام أمراً له بالغ الأثر والأهمية في توطيد الثقة والتعاون بين الأجهزة الحكومية الرسمية للمؤتمر الشعبي العام، وهو الأمر الذي تعززت به أيضاً فرص توسيع المساحة الديمقراطية، وتفعيل الأنشطة الرامية إلى رفع وعي الجماهير سياسياً، وتأهيلها للتعاطي مع العمل الديمقراطي بعناوينه العريضة، وأشكاله المختلفة.
فوفقاً لما تم تحديده في النظام الداخلي للمؤتمر "تنمية مدارك المواطنين،وخلق الظروف الملائمة لنشاطهم السياسي في نطاق الميثاق الوطني.."، شهدت الفترة يناير – مارس 1983م تشكيل فروع المؤتمر الشعبي العام في المحافظات، وفي إبريل 1983م أقرت اللجنة الدائمة في دورتها الثالثة تنظيم ندوات التوعية السياسية في المصانع والمؤسسات ووحدات الجيش والجمعيات التعاونية بهدف رفع الوعي السياسي للجماهير، وتوسيع مشاركتها في الحياة الاجتماعية والسياسية.
وبتلك الخطوات انتقل المؤتمر الشعبي العام بكل حلقاته التنظيمية الأساسية والفرعية إلى جميع الأوساط الجماهيرية، لترجمة المضامين الميثاقية إلى سلوك عملي يتحرك ويتجسد في الأعضاء أولاً ثم ينتقل بأثره الإيجابي إلى الآخرين لرفع درجة وعيهم وتعبئة ساحتهم بالمفاهيم المتعلقة بشتى ضروب القضايا الوطنية الثورية المطروحة على جداول عمل تلك المرحلة، وللدفع بطاقات المجتمع للإسهام الفعال في مشاريع التنمية المخطط لها والمبادرة إلى كل ما من شأنه خدمة الغايات الثورية السبتمبرية. ولقد اتخذت التجربة الديمقراطية للمؤتمر الشعبي مظاهر متعددة مثل المحاضرات والندوات التي تُعنى بمختلف القضايا والمسائل الفكرية والسياسية والاقتصادية.
ومن المظاهر الأخرى للتجربة السياسية الديمقراطية التي تبناها المؤتمر الشعبي العام على طريق تأهيل الكوادر الوطنية وإغناء ثقافتهم السياسية، هي المؤتمرات المصغرة التي كان يعقدها كل يوم (خميس) للتداول حول مختلف القضايا والهموم العامة.. علاوة على قيام اللجنة الدائمة بإعداد الدراسات التي كانت تمثل ميدان الاتصال المستمر بالجماهير والتي من خلالها يتم استعراض الهموم الوطنية لهم وتحديد متطلبات تسويتها أو اقتراح الخطط وتقديم التوصيات الكفيلة بتجاوزها. ونظراً لأهمية ذلك، ناقشت اللجنة الدائمة في دورتها الرابعة المنعقدة في أغسطس 1983م مسألة إنشاء معهد حكومي لدراسة الميثاق الوطني وتبطيقاته، فكان أن اختمرت الفكرة عند القيادة اليمنية وهيأت مستلزمات تنفيذها وأعلن عن تأسيس (معهد الميثاق الوطني) عام 1984م.
إن النجاحات السابقة التي حققتها التجارب الأولى من مسيرة العمل الوطني عبر المؤتمر الشعبي العام دفعت بالعمل التنظيمي إلى دخول مديات أوسع على طريق إنماء التجارب الديمقراطية وتفعيلها في الواقع الشعبي. ففي الفترة (21-23 أغسطس 1984م) عقد المؤتمر الشعبي العام دورته الاعتيادية الثانية التي استهلها رئيس الجمهورية الأمين العام للمؤتمر الشعبي العام بكلمة افتتاحية جاء فيها:
(إن شعبنا استطاع أن يضمن للتجربة الجديدة وأسلوب العمل السياسي معنى الاستمرارية وأن يعمق أسس هذه التجربة في واقعنا السياسي وأن يقيم على واقعنا اليمني إطار عمل سياسي متميز متمثل بالمؤتمر الشعبي العام. وأثبت شعبنا بهذا أن المؤتمر الشعبي العام لم يكن ولن يكون حزباً طبقياً أو فئوياً توجهه وتسيره فئة متميزة عن الشعب، بل هو إطار سياسي وتجمع شعبي لكل أبناء الشعب اليمني الذين قامت على أكتافهم وانتصرت بتضحياتهم الثورة السبتمبرية..).
وفي الدورة الثانية تم مناقشة وإقرار ورقة عمل جديدة تدعو إلى ضرورة توسيع العضوية في المؤتمر الشعبي العام لتمتد تكويناته إلى كل ناحية وعزلة وقرية من أجل إيصال الميثاق الوطني ومضامينه وأهدافه والخطط والبرامج المترتبة عليه إلى كل المواطنين على امتداد الأرض اليمنية. وأشارت الورقة أيضاً إلى أن محدودية الإمكانيات التنظيمية لا تواكب ما يفرضه التوسع في نشاط المؤتمر على أكبر مساحة شعبية، ذلك أن طبيعة تكوين المؤتمرات الفرعية في المحافظات لا تمكنها من تغطية النشاط المطلوب منها في كل المناطق.
وأضافت ورقة العمل في هذا السياق: (والحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أن ما أحدثه الميثاق الوطني من ثورة في الوعي الاجتماعي الشعبي، قد برزت نتائجه واضحة في تقدم الثورة وتوالي نجاحاتها في مختلف مجالات الحياة…).
وعلى هذا الأساس تم في الفترة (5-7 أكتوبر 1984م) توسيع عضوية المؤتمر الشعبي العام في النواحي وأمانة العاصمة، وأخذت مجالات العمل السياسي والجماهيري خلال المسيرة الثورية الميثاقية تبرز في أكثر مجالات الحياة، وباتت النقابات والجمعيات والمنظمات الجماهيرية واحدة من أبرز سمات هذا العهد.
وفي غضون أقل من خمس سنوات من العمل الديمقراطي تشكل عبر المؤتمر الشعبي العام ما يقارب (14) نقابة عمالية مختلفة عُقد مؤتمرها العام الأول في صنعاء في الفترة (10-12 إبريل 1984م) إلى جانب حوالي (11) نقابة تخصصية واتحاد، وظهرت (خمس) جمعيات نسوية تختص بشئون المرأة في عدة محافظات يمنية ، وتنامي أيضاً عدد الأندية الرياضية ليصل إلى (80) نادياً في شتى مناطق الجمهورية بالإضافة إلى الاتحادات الرياضية والجمعيات الكشفية.
وفي المجالات الثقافية والاجتماعية والخيرية تأسست (8) جمعيات بما فيها (جمعية الهلال الأحمر اليمني). وكذلك أجرى اتحاد طلاب اليمن انتخاباته الطلابية لأول مرة في تاريخه في الفترة (8-14 ديسمبر 1984م)، وفي قطاع المزارعين تنامي عدد الجمعيات التعاونية الزراعية إلى حوالي (75) جمعية.
وقد رافق تلك الأنشطة الواسعة تطورات مهمة وكبيرة عمد إليها الرئيس علي عبد الله صالح بقصد توسيع نطاق المشاركة الشعبية لتشمل كل مواقع العمل ومختلف المراكز والتجمعات الجماهيرية، ففي مطلع العام 1985م أصدر رئيس الجمهورية قانون المجالس المحلية رقم (12) لسنة 1985م، وفي الفترة (5-7يوليو 1985م) جرت انتخابات المجالس المحلية في أكبر وأعظم صورها الديمقراطية التي شملت كل أنحاء الجمهورية (الريف والحضر)، وتم انتخاب ثمانية عشر ألف عضو بنسبة عضو واحد من كل (500) مواطن، وقد تنافس في تلك الانتخابات سبعون ألف مرشح ليمارسوا العمل السياسي والتنموي معاً.. الأمر الذي يشير إلى حجم تغلغل فكر الميثاق الوطني وتنظيم المؤتمر الشعبي في القاعدة الجماهيرية، مقدار تنامي الوعي السياسي الديمقراطي عند المواطن اليمني، حيث أن أعضاء المؤتمر الشعبي العام كان قد ارتفع عددهم إلى ما يقارب (23.000) عضواً.
وفي الفترة (25-30 أغسطس 1986م) عقد المؤتمر الشعبي العام دورته الثالثة في مدينة (تعز) وقد استهل أمينة العام الرئيس علي عبد الله صالح أعمال هذه الدورة بخطابٍ متميزٍ جاء في بعضه: (أن المؤتمر الشعبي العام قد أكسب العمل السياسي في بلادنا خصوصيات متميزة وأعطاه دفعاً أقوى نحو المزيد من العطاء والرسوخ، وعزز طموح الوحدة الوطنية لشعبنا التي هي أساس كل النجاحات التي تشهدها بلادنا في مجالات العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتنموي وغيرها..) .

قيام مجلس الشورى
ظلت رغبة الرئيس علي عبد الله صالح في إقامة سلطة الشعب التشريعية المنتخبة (مجلس الشورى) واحدة من الغايات والوسائل الأساسية لضمان العدالة والمساواة في المجتمع اليمني، ومن أهم الأدوات التي تكفل للدولة اليمنية مسيرة بناء تنموي حقيقي وسريع.
ورغم أن هذه الرغبة طرحت مبكراً في عهده، وجعلها ضمن المهام التي أولاها لمجلس الشعب التأسيسي عام 1979م ليقوم بالأعداد لانتخابات مجلس الشورى، إلا أن التريث في ذلك كان منطقياً وذكياً في الوقت نفسه إذا ما علمنا أن مجلس الشورى لا يمكن أن يكون ذا جدوى مالم ينطلق من أرضية مستقرة، وبنى سياسية تنموية وديمقراطية، وقواعد جماهيرية واعية مدربة على ممارسة العمل السياسي..
وهو الأمر الذي أرجأ تشكيله حتى استيفاء الرئيس علي عبد الله صالح المناخات المناسبة التي يمكنه استثمارها في استكمال المؤسسات الدستورية للدولة وإقامة الهيئة التشريعية العليا التي تمتلك سلطة التشريع النهائية، وسلطة الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية ومتابعتها تجسيداً لمبدأ حكم الشعب نفسه بنفسه.
ففي يوم الاثنين الموافق (8يونيو 1987م) حضر الرئيس علي عبد الله صالح الجلسة الافتتاحية لأعمال دورة مجلس الشعب التأسيسي، ووجه الدعوة للمجلس للإعداد لانتخابات مجلس الشورى، وقد أثارت تلك الدعوة دهشة الكثير من المراقبين المحليين والإقليميين معاً، باعتبار أن هذه المسألة ليست سهلة أولاً، ولكون المألوف في مثل هذه التجارب أن تقوم وزارات الداخلية بالإعداد والإشراف على الانتخابات البرلمانية وليس مجلس شعبي جماهيري، وهو ما تم تفسيره أن للرئيس صالح ثقة عالية جداً بشعبه ليمنحهم كل تلك السلطات والنفوذ في الدولة. وعلى كل حال، يمكننا تلخيص خطوات قيام (مجلس الشورى) بالنقاط التالية:
أ- في (1 فبراير 1988م) بدأت مرحلة القيد والتسجيل لأسماء الناخبين في (356) مركزاً انتخابياً، ولمدة (30) يوماً شارك بتنفيذها حوالي (1200) عضواً تم اختيارهم من قبل مجلس الشعب التأسيسي (اللجنة العليا للانتخابات).
ب- في (2مارس 1988م) نشرت أسماء المسجلين في (128) دائرة انتخابية حسب التقسيم المعتمد لذلك. بلغ عدد المسجلين (1.110.300) مواطن.
ج- في (5يونيو 1988م) فتح باب التسجيل لطلبات الترشيح لعضوية مجلس الشورى ولغاية (14/6) وفقاً للمادة الثانية من قرار رئيس الجمهورية رقم (2) لسنة 1988م تقدم لذلك (1298) مرشحاً يتنافسون على (128) دائرة انتخابية.
د- في (5يونيو 1988م) جرى الاقتراع السري في جميع المراكز لانتخاب ممثلي مجلس الشورى وفقاً للمادة الأولى من القرار الجمهوري السابق.
ه- في يوم الجمعة (8 يوليو 1988م) أعلن مجلس الشعب التأسيسي نتائج الانتخابات.
و- في الساعة التاسعة من صباح يوم الثلاثاء. (12يوليو1988م) عقد مجلس الشورى المنتخب أولى جلساته بمقره في العاصمة صنعاء، وأدى أعضاؤه اليمين الدستورية بناء على نص المادة (55) من الدستور الدائم، كذلك جرى انتخاب القاضي عبد الكريم عبد الله العرشي رئيساً للمجلس وسعيد الحكيمي ويوسف الشحاري وكيلين للمجلس، بطريقة الاقتراع السري المباشر وفقاً للمادة (56) من الدستور الدائم.
وقد مثل قيام مجلس الشورى واحدة من أبرز التراجم العملية لمسيرة البناء الديمقراطي للدولة اليمنية عبر المؤتمر الشعبي العام، استطاع الرئيس علي عبد الله صالح من خلاله النفاذ إلى عمق أهداف ثورة السادس والعشرين من سبتمبر ، التي ينص هدفها الرابع على: (إنشاء مجتمع ديمقراطي تعاوني عادل مستمداً أنظمته من روح الإسلام الحنيف)، حيث أن من اختصاصات المجلس المنصوص عليها في المادتين (44-45) من الدستور الدائم هو تعديل الدستور ، ترشيح وانتخاب رئيس الجمهورية، إقرار مشاريع القوانين أو رفضها، الموافقة على الاتفاقيات والمعاهدات أو رفضها، مناقشة الميزانية العامة للدولة… الخ.
استقالة الرئيس علي عبد الله صالح
من السجايا المعروفة عن الرئيس علي عبد الله صالح، إنه من أحرص الزعماء العرب على ضرورة عودة الحاكم إلى الشعب من حين لآخر لتقرير مدى صلاحيته للسلطة، وتوافقه مع إرادة الجماهير له- سواء في البقاء أو التنحي. فذلك هو ديدن الزعامات الشرعية الصادقة، وبخلافه يغدو النظام ضرباً من التسلط غير المشروع.
علي عبد الله صالح رجل اعتلى كرسي الرئاسة بإرادة جماهيرية حرة ومن خلال انتخابات مباشرة أجراها مجلس الشعب التأسيسي في السابع عشر من يوليو 1978م. ثم عاد ليؤكد مشروعية حكمه من خلال المؤتمر الشعبي الذي انتخبه أميناً عاماً له في (24-29 أغسطس 1982م). لكنه آثر أن يتأكد ذلك عبر مجلس الشعب التأسيسي باعتباره المؤسسة الدستورية التي تم انتخابه رئيساً عبرها ، فحدث أن أنهى السنوات الخمس الأولى من حكمه طبقاً لأحكام الدستور الدائم وعلى مجلس الشعب اتخاذ القرار بشأن تمديد فترة حكمه من عدمها.
لكن مجلس الشعب أعاد انتخابه لفترة رئاسة ثانية بتاريخ 23مايو 1983م، وأصر حينها الرئيس صالح على أن يؤدي اليمين الدستورية للمرة الثانية لإضفاء المزيد من الشرعية على حكمه ، ولتوطيد ثقة الجماهير به، فأدى اليمين الدستورية في 23مايو 1983م.
وبانتهاء الفترة الرئاسية الثانية توجه الرئيس علي عبد الله صالح إلى مجلس الشورى (الحديث النشأة) في 17 يوليو1988م- أي بعد خمسة أيام فقط من جلسته الأولى وقدم استقالة نهائية إلى ممثلي الشعب طالباً منهم بكل إصرار إتاحة الفرصة في ترشيح من يرون فيه القدرة والكفاءة والإخلاص والوفاء لتضحيات شهداء الثورة والالتزام بمبادئ وأهداف ثورة سبتمبر الخالدة لتحمل مسئوليات قيادة البلاد.
وخاطب الرئيس علي عبد الله صالح رئيس وأعضاء مجلس الشورى مؤكداً: (إنكم ستجدوني جندياً مجنداً لخدمة الوطن والشعب والثورة في كل الأحوال والظروف..).
لقد تضمنت كلمته التي قدم بها استقالته تأكيداً على أهمية ترسيخ وتعميق الممارسات الديمقراطية العملية بمختلف صورها ومستوياتها. ولأن الرئيس صالح كان قد احتل مكانة عظيمة في نفوس اليمنيين الأمر الذي دفع ممثلي وأعضاء مجلس الشورى بتقديم طلب ترشيح الرئيس صالح لفترة رئاسية ثالثة. وفي ضوء ذلك قام المجلس باستكمال الإجراءات الدستورية للانتخاب، وكانت النتيجة: الموافقون (152) عضواً، المتحفظون (عضوان)، الغائبون (5) أعضاء ..
وأقر المجلس تشكيل وفد منه برئاسة القاضي عبد الكريم العرشي لحمل القرار المتضمن نتيجة الترشيح والانتخاب للرئيس صالح ودعوته للحضور إلى المجلس لإداء اليمين الدستورية في الجلسة التي تقرر عقدها صباح يوم الإثنين (18 يوليو 1988م) .
نقل الوفد قرار المجلس للرئيس علي عبد الله صالح، وبحضور رئيسين يمنيين سابقين، هما المشير عبد الله السلال والقاضي عبد الرحمن الإرياني، وأعلن قبوله بالقرار موجهاً كلمة قصيرة يذكر فيها.
(لقد قدمت استقالتي هذا اليوم ليس كمناورة سياسية وإنما إيماناً بأن شعبنا يملك العديد من القدرات الوطنية والكفاءات المخلصة التي يمكن أن تتحمل مسئولية قيادة البلاد، والثورة تواصل العطاء في هذا الموقع، ومتطلعاً لأن نرسي تقليداً ديمقراطياً في بلادنا بأن يكون التغيير في القيادة بالطرق الديمقراطية والدستورية- طالما أن- السلطات بيد الشعب وهو يسلمها لمن يثق به وإنها لا تسلم بقوة المدافع، والتأمرات والأساليب غير المشروعة، فأسلوب التغيير الوحيد هو بالديمقراطية).
وأضاف الرئيس علي عبد الله صالح: (أن الديمقراطية سبيل حفاظنا على سلامة البلاد وسيادتها واستقلالها وإن الديمقراطية هي المدرسة التي تتعلم منها الأجيال، وإن شعبنا يمتلك الحضارة والأصالة وهو قادر بهما أن يواصل ممارساته الديمقراطية، وإن يتقن اختيار قيادته، وإن علينا أن لا نستهين بوعي شعبنا الذي أنجب العديد من الزعماء والقادة الثوريين المواطنين وهو غني دائماً بالكثير من الرجال المخلصين..).
وتلبية لدعوة مجلس الشورى توجه الرئيس علي عبد الله صالح إلى مقر مجلس الشورى في اليوم التالي (18 يوليو 1988م) وأدى اليمين الدستورية، وألقى بعدها كلمة قال فيها:
(بالأمس كنت في هذا المنبر الشوروي معلناً استقالتي النهائية من رئاسة الجمهورية طالباً منكم بروح المسئولية التاريخية ترشيح وانتخاب رئيساً للجمهورية بدلاً عني، واتاحة الفرصة لمن ترون فيه القدرة على القيام بهذه المهمة الكبيرة، فشعبنا غني برجاله الأوفياء المخلصين القادرين على تحمل هذه المسئولية الوطنية الجسيمة، وفوجئت بقرار مجلسكم الموقر بإعادة انتخابي رئيساً للجمهورية لفترة قادمة. ونزولاً عند رغبة ممثلي الشعب قبلت بهذا القرار سائلاً من الله سبحانه وتعالى العون والتوفيق لما فيه خدمة الشعب والثورة وتقدم الوطن وازدهاره وأمنه واستقراره مقدراً المشاعر الوطنية الصادقة لكل أبناء شعبنا، ومعتزاً بثقة مجلس الشورى الغالية..).
إذن كان الرئيس علي عبد الله صالح ضرورة وطنية في نظر جماهيره، وعلى أساسها أعيد انتخابه رئيساً لدورة رئاسية ثالثة. ولم يمضِ وقت كثير على هذا الحدث حتى عقد المؤتمر الشعبي العام دورته الاعتيادية الرابعة في الفترة (12-15 نوفمبر 1988م)، تحت شعار: (المشاركة الشعبية على طريق الديمقراطية والتنمية والوحدة اليمنية) ، وهذه الدورة مثلت تتويجاً تاريخياً للديمقراطية عبر المؤتمر الشعبي العام حيث حضرها العديد من ممثلي الأحزاب والمنظمات السياسية في البلدان الشقيقة والصديقة ووسائل الإعلام العربية والأجنبية، وألقت بعض الوفود كلمات أشادت فيها بقيادة الرئيس علي عبد الله صالح وبما حققه للدولة اليمنية، وتميزت أيضاً بالحوار الديمقراطي الواضح والنقاشات المستفيضة التي أذيعت جميعها مباشرة عبر الإذاعة والتلفزيون.
ولابد من الاعتراف بأن الديمقراطية لم تعرف طريقها إلى حياة اليمنيين إلا على يد الرئيس علي عبد الله صالح وأداته السياسية المؤتمر الشعبي العام، ومن المؤكد أن ما تحقق لليمن في فترة الثمانينات قد عوض الشعب اليمني معاناته الماضية وردم مستنقعات قيحها، وفي نفس الوقت رفع قواعد وأسس كل ما جناه الوطن اليمني من بعد هذه الفترة وكان سبباً في كل التطورات العملاقة التي نعيشها اليوم على أرض اليمن ليس حلماً وإنما واقع نتنفسه ونلمسه ونفخر به.

كتاب (علي عبد الله صالح .. تجارب السياسة وفلسفة الحكم) تأليف: نزار خضير العبادي
حقوق النشر محفوظة ل"نبأ نيوز" والمؤلف


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.