- بقلم: لؤي يحيى عبد الرحمن الارياني - كان في منتصف عقده السادس, صبغ الزمن شعره كله باللون الأبيض وسلبه الكثير من القوة والحيوية, كان يمشي بخطوات بطيئة وهو يرتدي بذلة صيفية رمادية اللون, دخل إلى الكافتيريا وجلس على طاولة مطلة على البحر.. ابتسم للنادل الذي حياه في أدب وسأله عن طلبه.. نظر إليه العجوز في دهشة وسأله بدوره عما إذا كان جديدا لأنه معروف في المحل وطلبه دائما معروف.. فأجابه النادل معتذرا انه لم يمض عليه سوى أسبوع فقط. ابتسم له العجوز في رفق وقال له: ايسكريم من الحجم الكبير ..نصف شيكولاته ونصف فانيليا, نظر إليه النادل في دهشة ثم ذهب لإحضار الطلب. طوال 30 عاماً - هي عمر زواجهم- كانا يأتيان لهذه الكافتيريا العتيقة ويجلسان دائما على نفس الطاولة.. تلك المطلة على البحر.. ويطلبان نفس الطلب: آيسكريم من الحجم الكبير نصف شيكولاته ونصف فانيليا.. ثم يستمتعان به سويا، ولم يتوقفا عن هذه العادة طوال تلك السنين، ومهما كانت الظروف.. حتى في اشد الأزمات المالية كان يدبر قيمة هذه النزهة ولا يحرمها منها.. وبرغم تقدمهما في السن إلا إنهما مازالا محافظان على هذه العادة. نزع نظارته وتأمل زوجته بحنان وحب، قال لها كم يحب ابتسامتها، وكم يحب لون عينيها، وبرغم مرور كل هذه السنين إلا انه لم يتوقف عن إسماعها كلمات الحب والغزل- وبالذات هنا .. على البحر.. وهما يتناولان الآيسكريم سويا.. ابتسم وهو ينظر إليها وهي تبادله نظرات الحب. لقد حرما من نعمة الإنجاب ففرغا كل مشاعرهما في حبهما لبعض.. بدأ يتناول الجزء الخاص به من الآيسكريم دون أن تفارق عينيه وجهها، وتذكر بداية حياتهما، وكيف كان زواجه بها تقليدي عن طريق اختيار أمه لها، ثم كان أول لقاء لهما هنا في هذه الكافتيريا وظلا نصف ساعة صامتين في خجل لكن بعد أن أكلا الآيسكريم بدأ الحديث بينهما، وسرعان ما انسجما واكتشفا أموراً كثيرة مشتركة من ضمنها عشقهما للآيسكريم.. وسرعان ما اطمأن أن أمه أحسنت الاختيار. تذكر كم كانت حياتهما -على رغم بساطتها- جميلة، و على الرغم من ان عدم قدرتها على الإنجاب كانت تسبب لهما الكثير من القلق والحزن إلا انه دائما كان يحاول ان يهون عليها مدفوعا بحبه الكبير لها برغم ألمه الكبير بأنه لن يرزق بطفل يحمل اسمه.. استمر في أكل الايسكريم وهو ينظر إليها ويفكر كم وقفت بجانبه في الكثير من المواقف الصعبة في حياته، وعند إحدى الأزمات فوجئ بها ترمي ذهبها كله بين يديه وتطلب منه ان يحل أزمته بقيمته..! وبرغم مرور كل هذه السنين ما زال يحب مظهرها! وبرغم تقدمها في السن مازال جمالها يفتنه! وبرغم كل هذه السنين لا زال أيضا يحب هذه الجلسة.. الجلوس على طاولة مطلة على البحر الذي يجبه كثيرا مع التلذذ بطعم الايسكريم والتمتع بجلستها أمامه و الدخول في حديث ممتع وعذب ينسيه كل هموم الدنيا ..! انتهى من الجزء الخاص به من الايسكريم ونظر إلى الجزء الخاص بها فوجده مثلما هو لم تأكل منه شيئا.. ابتسم و نظر إليها بحب.. همس لها بعاطفة حقيقية: احبك..! وضع النقود تحت الكأس.. ثم ارتدى نظارته وقام مغادرا للكافتيريا.. وبعد ان غادر، سأل النادل الجديد زميله القديم في الكافتيريا.. ما قصة هذا العجوز الذي طلب ايسكريم من الحجم الكبير له لوحده ولم يأكل إلا نصفه؟! ابتسم النادل القديم بشفقة، وقال: انه رجل عجوز اعتاد ان يأتي إلى الكافتيريا منذ زمن طويل هو وزوجته .. ولقد توفت زوجته منذ عام .. ولكنه لا زال يأتي إلى هنا مرة كل أسبوع، يجلس على نفس الطاولة، ويظل ينظر إلى المكان الذي كانت تجلس فيه، ويطلب نفس الطلب الذي اعتاد ان يطلبه طيلة حياته معها .. ايسكريم من الحجم الكبير نصف شيكولاته ونصف فنيلا. [email protected]