كان يجلس أمام البحر مهموماً... كأن هموم الأرض صبت عليه .. لم يكن من أحد غيره والنجوم التي بدت وكأنها تدمعُ إشفاقاً عليه، والبحر الذي يناجي ربه... كأنه يدعوه أن يفرج هم صديقه الذي يزوره منذ زمن، زيارات طويلة تصل إلى عدة ساعات يخيم عليها السكون والحزن . ذات يوم ... وبينما هو جالس على الشاطئ كعادته، وقف فجأة وعيناه مغرورِقَتان ِبالدمع ... متجهتان ِللأفق الذي رسم عليه الشفق لوحة للغروب الهادئ الذي ينمُ عن جلال ٍ... ووقار ٍ .... وحزن . دمعتانِ تتشبثان بالأهداب تناظران البحر بألم وحزن ... سقطتا على خديه القمحيين لتكونا نهراً من قطرات متتابعة ٍمتدافعة .... انفجر بالبكاء ... كان بكاءً مريراً يوحي بحزن عميق وكآبة ٍلا حدودَ لها، واندفع نحو البحر لائذا بالانتحار. تسرب إلى أذنيهِ صوت ٍ بعيد ٍ مدو ٍ آت ٍمن أعلى كأن مصدره السماء !!.. توقف.. توقف يا عزيزي ، أعرفُ انك تشعرُ بالذنبِ والندم ... كما أنني على يقين ُأننا لن نلتقي إلا في عالمنا هذا.. واعرف كذلك كما تعرف أنت أن عالمنا لا يرقى إليهِ الخاطئون . إلا إذا تطهروا من أوزارهم. وإذا ما جئتني الآن حاملاًًًً أوزاركَ فلن نلتقي في عالمنا هذا كما لم نلتق في عالمكم ذاك ... تطهر أيها الحبيب حتى يكتب لنا اللقاء في العالم الأبدي، وترقى لمستوى الأبرار الطاهرين فمكاننا هذا ليس إلا للأبرياء .. وتهادى صدى كلماتها الأخيرة (( تطهر يا عزيزي... تطهر يا عزيزي... تطهر يا عزيزي)) مجلجلاً في أذنيهِ متناقصاً متراخياً في السماء . انقلبت أحواله، وتبدلت طباعه!!. صار رقيقاً بعد إذ كان خشناً جلفاً ... كريماً بعد ان كان لئيماً، واستبدل بندقيته التي لازمته ربيع شبابه بريشة اِستلها من غمد المرارةِ والندم ِ ليشهرها في وجه الظلم والطغيان المتمثلِ بدعاة الحرب الذين كان ذاتَ يوم ٍ منهم، بل كان أشدهم دعوة ً لها، و حضاً عليها ... وشاركَ في حروبٍ حصدت عائلته فرداً فرداً، كما شاركَ في الحرب ِالتي لم تضع أوزارها بعدْ... ولم تقف رحاها الطاحنة ُلأرواح الأبرياء حتى الآن . لكن الخبرَ قد وصل ... وعزاؤه الوحيد في فقد والديه وأختيه وأخيه الأصغر الذي فقدهُ دون رؤيته ولو لمرة واحدةٍ قد رحلًَ هو الآخر أنه عاد ... لم يجدها كما كان يؤمل ... ترتدي الطرحة البيضاء و فستان الزفاف بانتظار عودته لإكمال ِمراسمه، إنما وجدها ضحية ًًًمن ضحايا الحرب، ملطخة بدمائها الزكية التي أراقها استهتاره وأمثاله بأرواح ِالأبرياء... لكنه قد عاد.