أتُراه كان حلماً خفيّاً... متوارياً في عقلي الباطن... أن أصير يوماً كلمات يقرأها الآخرون؟... لم أكتبْ أبداً كي أُقرأ .... ولم تكن الكتابة بالنسبة لي إلّا ملاذاً أسكبُ فيه –دون خوفٍ أو خجل- جداول مشاعري الدافقة. وأنّى عزمتُ على الرحيل... فإنّ أوّل ما أحزمه في حقائبي... خواطري المنثورة على أوراق متنوعة... بعضها أبيض وبعضها ملوّن... وقد تجدها مكتوبةً خلف أوراق محاضرة جامعيّة أو حتى على ظهر تذكرة سفر... أيّ مدى حانٍ استوعبتْ رحابته أحاسيسي... في مكان ما وزمان ما. وجدتُ الكتابة بلسماً... جنّبتني خيبات أمل من لا يحالفهم الحظ في اختيار الأصدقاء الثقات، إذ طالما كانت موضع سرّي وجليستي المفضّلة، و إذا كنتُ قد احتفظتُ بكلّ كتاباتي، حتى تلك التي ولدتْ من هنيهات الهذيان... فلأنّها كلّها أنا... في لحظات الضعف والقوة... والتجلّي والغيبوبة... تزداد متعتي و أنا «أقرؤني» بعد زمن، يضحكني ويبكيني ما تختزنه من صور مراحل مختلفة من حياتي وحياة أصدقاء وأحبّاء.. بعضهم لم يعد ممكناً أن ألقاه إلا بين هذه الكلمات. للأسف، ضاقتْ مساحة الكتابة مع اتساع مشاغل الحياة وتسارع إيقاعها، ولكنني حرصتُ أن أكتب باستمرار كي أتوازن، كنت أشعر بغربة حقيقيّة حين أتوه عن وريقاتي ولا يعيدني إلى ذاتي إلّا هي وقلم... ولأنّي أُقطّر روحي بين دفّاتها، بقيتْ دفاتري عالمي الحميم الذي لا يدخله أحد دون استئذان، احترمَ الجميع خصوصيتها مع أنّها رفيقتي في كل مكان، و قد تجدها على طاولة الطعام، أو منسيّة فوق مقعد السيارة، أو تتعثّر بها قرب السرير، لا... لم أحتج أبداً أن أخبّئها في دِرج أو تحت وسادة. ******** مرّات عدّة ... سنحتْ لي الفرصة لنشر ما أكتب، لكنني لم أستسغ فكرة عرض ما في داخلي أمام من أجهل، ما الذي نضج أو تغيّر أخيراً؟... لستُ أدري... راقتني الفكرة فجأة... خطوتُ إليها على وجل... خلتها تجربة عابرة... أخوضها حيناً... فأوصد باب الندم على ما لم أعرف، لكن التجربة -على غير توقّعاتي- استمرّتْ... أخذتُ استمتع بها حقاً، ولعلّ أكثر ما شجّعني تلك الرسائل التي تلقّيتها تعقيباً على مقالاتي من أنحاء عالم حوّله البريد الألكتروني قرية صغيرة... فاجأني أن أجد صدايَ الحقيقي في كلمات من لم ألتقِ بهم أبداً، لكنهم قرؤوا أصدق ما فيّ... كما هو... بلا تزييف أو مقدّمات... في تواصل صادق للقلوب، أليس من يقرأ أعماقك ويستشعر موجاتك... يسبح في ذات عالمك، قادر أن "يسمعك" و"يراك" حتى لو لم يسمعك أو يرَك قط؟، وقد نعيش عمراً مع من اعتقدوا أنّهم سبروا أغوارنا وعرفونا حقيقة، ولكننا عجزنا عن أن نوصل لهم آهة حقيقيّة واحدة... لأنّهم لا "يسمعون" تردّداتنا الخاصة... لذا... كنتُ أفرح برسائلهم كطفلة... بمتعة أعيد قراءتها... مرّات و مرّات... تشحنني إصراراً على المواصلة، ومن أعماق قلبي... لمن كتبوا لي جميعاً... من كلّ مكان... خالص الامتنان، فرسائلهم ومضات سحريّة أحالتْ قوقعتي كوناً واسعاً أحلّق فيه كما أشاء. ******** و... اتّسع عالمي وتلألأتْ ألوانه بريقاً وبهاء... لم أعدْ أكتب على استحياء... انطلقتُ فرساً جامحاً أصهل بحريّة في براري واسعة، تنحسر غربتي يوماً بعد يوم، ويزداد تفاؤلي، فأتحدّى إيقاع أيّامي المرهق واختلق واحة بين زحام الأوقات؛ لأكتب... أتنفّس من مسام الكلمات التي تتناغم كافّة حواسي بصياغتها، أعيش في كل مقال أكتبه تجربة رائعة تصهر معاناتها مساحات اليباس في داخلي، تتجمّع حروفها ندىً يبثّ الاخضرار في آفاق طالما أرهبتني وحشتها وغموضها، فأحتويها كلّها بين ذراعيّ... ******** العبارة التي راقني تردادها على مسامعي «كتاباتك تشبهك»، والكتابة -حقاً- تسلبني أقنعتي، هي مرآتي الحقيقية، وإذا كان سقراط قد قال لمن ظلّ صامتاً في مجلسه: «تحدّثْ كي أراك...» فإنني أقول: «اكتبْ كي أراك»... وها أنا «أكتبني»... و نصب عينيّ قول شاعرنا الكبير محمود درويش رحمه الله: "أنا لستُ منّي إن أتيتُ ولم أصلْ أنا لستُ منّي إن نطقتُ ولم أقلْ أنا مَن تقول له الحروفُ الغامضاتُ اكتبْ تَكُنْ! واقرأ تَجِدْ! وإذا أردتَ القولَ فافعلْ، يتَّحدْ ضدّاكَ في المعنى... و باطنُكَ الشفيفُ هو القصيد". وكتاباتي هي بعض «باطني الشفيف»... «وهجُ» روحي... نور ودفء يشيان بلهيبها... في أضمومة مشاعر وذكريات وهواجس وأفكار... وَجَدتْ -أخيراً- طريقها إليكم... ----- ريم