نزل نبأ رحيل الصديق العزيز الإنسان الصحفي عرفات جمالي مدابش عليّ صاعقاً لدرجة إني حاولت تجاهل الخبر واعتباره مجرد شائعة سيجري تكذيبها لاحقاً ، وبقيت على أمل ذلك منذ الصباح وحتى المساء لأفتح الفيس بوك وهو يعجّ بصور عرفات حينها فقط تيقنت أن القدر اختطف عرفات فعلاً وأنه رحل مستعجلاً . ابتلعت غصتي بمرارة بعد أن ذرفت دموعاً حاولتُ احتباس غزارتها متسمراً أمام ما يكتب عن الفقيد من فيض يعبر عن مكنون الحب الذي استطاع أن يحوزه لدى الناس بما في ذلك من اختلف معهم في الرأي والموقف فمساحة الارتباط الإنساني لدى عرفات أوسع من أن تضيق بسبب السياسة . تعود معرفتي بعرفات إلى منتصف تسعينات القرن الماضي .. كان صديقاً حميمياً للأسرة ونعتبره عضوا فيها منذ كان محرراً في صحيفة الثوري ومراسلا لصحيفة الوحدة في الحديدة .. هذا التهامي الجميل تشاركنا معه الطبخ حينما كنا عزاباً في صنعاء وفي دمشق أيضاً التي زارها عام 2000م لعلاج القرحة..كان حينها قد بدأ العمل مع صحيفة الاتحاد الإماراتية . سكن في شقتي المتواضعة خلال زيارته الأولى لدمشق لنحو شهر وهناك تعززت علاقتنا أكثر ليزورني في دمشق عدة مرات بعدها .. في زيارته الأولى تلك كان عرفات قد أنجب ابنه البكر ياسر الذي لم يكن قد بلغ العامين وكان يخرج صورته من جيبه حيثما نكون ويقول لي : شوف يا اسكندر هذا ياسر عرفات .. ثم انضم إلى ياسر بعد ذلك أشقاؤه : عمار وجار الله وعمر . في عام 2004م اقتحم عرفات غمار الصحافة الإلكترونية باستشعار ذكي ومبكر واتصل بي من صنعاء إلى دمشق يدعوني للمشاركة بكتابة تقارير ومقالات وإجراء مقابلات صحفية وهو ما قمت به بالفعل ، وبالرغم من حداثة الصحافة الإلكترونية إلا إن "التغيير نت" بشعار (أول موقع إخباري يمني مستقل) سرعان ما حجز اسماً مرموقا واحتل مكانة كبيرة واستقطب قراء ومتابعين من اليمن وخارجه بل بات في وقت قياسي أهم موقع يمني يضم كوكبة من الكتاب والصحفيين البارزين ، ومنصة لانطلاق مجموعة كبيرة من الكتاب الشباب الذي يدينون للتغيير بتعريفهم للجمهور وصقل مواهبهم ومن ثم شهرتهم في وقت لاحق كما نال قصب السبق في عديد المواضيع السياسية والقضايا الأكثر إثارة في المشهد اليمني . في كل مرة يتصل بي عرفات قبل سفره ويفاجئني بخبر قدومه على أنه في السنوات الأخيرة كان يقصد دمشق والقاهرة رفقة صديقنا وذراعه الأيمن الصحفي وائل حزام للعلاج بعد حادث السير الذي تعرض له والذي كاد أن يأخذه قبل سنوات طويلة ولم يشل حركته فلقد قاومه مثبتاً أنه في أوج عطائه وتسنّمه للمهام الإعلامية البارزة كمراسل لصحف عربية مرموقة وكمؤسس وناشر لموقع التغيير نت.. وبالرغم من ذلك الحادث الأليم كان يدهشنا بالفرح والمرح وحبه للحياة وللعمل أيضاً لساعات أمام جهاز الكمبيوتر في حلّه وترحاله وكان يفعل ذلك وهو محاطاً بأصدقائه إذ لا يستطيع العيش منفردا ً او معزولاً ؛ العمل بالنسبة له صلاة لا تحتاج إلى موعد وأذان ، وهذا ما يفسر نجاحه السريع الذي كان يحرص على تطويره بارتقاء سلم (المهنية) والتمسك بقيمها والدفاع عنها بل والاستماتة لأجلها .. وصولاً إلى تنظيم (شبكة التغيير نت للإعلام) لندوات ومؤتمرات تعزز مهنة الصحافة وتؤصل لها وترسي قواعدها وتعزز علاقتها بالحريات وحقوق الإنسان والتغيير الديمقراطي . حدد عرفات موقفه بوضوح لا لبس فيه إزاء التغيير الذي بشر به مبكراً من خلال اسم ورسم موقعه ووقف مساندا وداعماً ومؤمناً بثورة الشباب في 2011م وانتصر لها سياسيا وإعلامياً واضطر إلى مغادرة صنعاء بعد المضايقات المتعددة التي طالته منذ اقتحام صنعاء من قبل الحوثيين الذين نعرف موقفهم وسلوكهم مع مخالفيهم وخصومهم لاسيما من فئة الصحفيين . (كيفك يا حُب ؟ ) إنها من كلمات التواصل التي كان يقولها لي لأعرف أنه هو من يتحدث أو يكتب لي من أي منصة تواصل .. وهي الكلمة التي استهل بها تواصله معي في منتصف الليل قبل شهور من تسنمه منصب وكيل مساعد لوزارة الإعلام لقطاع الصحافة وناقلاً لي خبر حصوله على جائزة دولية لم يكن يعلم بعد اسمها وصفتها ونوعها ولكنه اختارني ربما من بين قلة من رفاقه لإبلاغه بها .. كان خبراً مفرحاً وطلبت أن أنقل الخبر على صفحتي بالفيسبوك ولكنه قال : ننتظر حتى تصلني الشهادة وتفاصيلها .. وهو ما حدث اليوم التالي وكانت جائزة ديفيد بيرك للصحافة المتميزة من خلال راديو سوا الأمريكي الذي عمل مراسلاً له لسنوات . ما لايعرفه البعض إن عرفات الذي يمتلك موهبة خاصة وقدرات فذة كما حرص على امتلاك قلوب الناس امتلك ارشيفاً صحفياً نوعياً من الوثائق والصور وربما المذكرات المبكرة والتي نأمل من أنجاله الأعزاء الحفاظ عليها وتصريفها في المكان الصحيح عبر الاستعانة بأصدقائه وزملائه الأمناء.. كأنه كان يستشعر في اللاوعي قرب التحاقه بالرفيق الأعلى ..!! لا تكفي هذه العجالة للحديث عن الصديق الإنسان عرفات وذكرياتي معه التي قطع سلسلتها القدر فاختاره وطنا فقيداً يرحل من وطن مفقود .. رحمك الله ياصديقي أبا ياسر وأسكنك فسيح جنانه وعصم قلوب أهلك ومحبيك وإنا لله وإنا إليه راجعون ..