حين تمّت الإساءة المتعمّدة إلى سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، انبرى عدد من حملة الأقلام العربيّة يوجّهون اللوم، في توافق مع الموقف الرسمي الغربي، إلى ردود الأفعال الغاضبة للمسلمين ويبرئون من ارتكب سابقة عدوانيّة خطيرة تستهدف أن تكون حلقة في سلسلة الإساءات المقصودة لمقدّسات المسلمين من أجل تحقيق أهداف الحملة الغربية الحاليّة المعادية للإسلام، وصولاً إلى الهدف الخطير المرسوم بحجة حرية التعبير. ولا أعلم ما اذا كان هؤلاء قد لاحظوا الحكم على ديفيد ايربنغ بالسجن ثلاث سنوات لانه شكك في محرقة اشويز، وكيف ان هذا لم يتعارض مع حرية التعبير كما يدعون.! ولم تكن مصادفة أنّه بعد بضعة أيام فقط من هذا الجدل السطحي، الذي لا يلامس جوهر المشكلة ومقاصدها، تناولت يدُ الإرهاب والعدوان ضريح الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامرّاء، والذي يفوق عمره ألفا ومائتي عام، ولم يتعرّض له أحد بأذى خلال تاريخه في سابقة أخرى تستهدف استباحة المقدّسات والحرمات، وإشعال نار الفتنة والحرب الأهلية بين أتباع الدين الواحد وأبناء البلد الواحد. وللذين يريدون فقط أن يروا في مثل هذه الجريمة النكراء، تفصيلاً آخر ثانويّاً من تفاصيل الاحتلال والفوضى وانعدام الأمن التي جلبها الأميركيون للعراق، ويهدّدون بنشرها في الشرق الأوسط، نقول إنّ المسألة أخطر من ذلك بكثير. فهي تقصد مصادرة قدسية الإسلام بألقه وحضارته وتدمير للتنوّع الفكري بين المسلمين وتهيئة الرأي العام لارتكاب أفظع جرائم العصر في المستقبل ضدّ أقدس مقدّسات المسلمين، ألا وهو المسجد الأقصى. قلّة قد يكونون شاهدوا، منذُ أسابيع، الحفريات تحت المسجد الأقصى، والأنفاق التي تُشاد هناك تهيئة للاعتداء عليه، ولكنّ من رسموا ذلك المخطط الخطير رسموا خططاً أيضاً لتهيئة المسلمين على التطاول على نبيّهم الكريم وهدم مساجدهم وتدمير أضرحة آل بيت رسولهم صلى الله عليه وسلم، بحيث تعتاد أبصارهم وعقولهم وتستسلم لهذه الجرائم الخطيرة، خاصة أنّ حكوماتهم واقعة تحت ضغط دولي شديد، كي يتم ارتكاب الجريمة الكبرى حين تكون ردود الأفعال في أدنى مستوياتها. ولذلك تضمّّنت الخطة الاعتداء على مقام أحفاد الرسول في سامرّاء، ومن ثمّ تنظيم هجمات على مساجد، وقتل الأبرياء ضمن خطّة لإشعال الفتنة الطائفية وقتل فريق «العربية» الإعلامي الذي جنّد نفسه لتغطية هذه الجرائم، ولفت نظر العالم إلى خطورتها، وكشف أبعادها ومداها على أرض الواقع. وشهداء الكلمة والصورة والحدث هم آخر مجموعة في قافلة شهداء الكلمة والذين بلغ عددهم اثنين وسبعين إعلاميّاً عراقيّاً لقوا حتفهم تحت ظل الاحتلال الأميركي لبلدهم، لأنهم كانوا يكشفون ما وراء الحدث وينبّهون الرأي العام إلى حقيقة وخطورة ما يجري، ولأمثالهم من الشهداء في فلسطين حديثٌ آخر حيث الأسلوب ذاته، والذي يقضي بارتكاب الجريمة وقتل من يحاول الكشف عنها وعن أبعادها للرأي العام العالمي. ففي الوقت الذي انتُهِكَت المقدّسات واستُشهِد الإعلاميّون في سامرّاء، كانت إسرائيل ترتكب مجازر في مخيّم بلاطة للفلسطينيين، وتستمر بتنفيذ حرب الإبادة ضدّ الفلسطينيين في ظلال الجرائم التي تُرتَكَب بحقّ الشعب العراقي ومقدّساته وماضيه ومستقبل شعبه. ولمن لا يريد أن يُزعجَ نفسه بهذه الأخبار المأساوية ويرغب في سماع سيمفونية الحريّة والديمقراطية والاستقلال وفّّرت له زيارات وزيرة الخارجية الأميركية، لمن تشاء وترتضى أن تقابل في المنطقة، حرصاً جديداً غيرياً على المنطقة من البرنامج الإيراني، وليس من القنابل الذريّة الإسرائيلية التي موّلت انتاجها. كما أكّدت أنّ لبنان يجب أن يكون حرّاً من سيطرة جاره، ولم تقل جيرانه، لأن الجار الأخطر الذي سحق لبنان وأزهق حياة عشرات الألوف من اللبنانيين في اجتياحاته المتكرّرة لا مفرّ من سيطرته واعتداءاته وانتهاكه للأجواء والحرمات. والحقيقة هي أنّ المرء لا يمكن أن يلوم السيدة رايس على تنفيذ استراتيجية حكومتها، والتي أعلن الرئيس بوش نفسه أنّ جوهر هذه الاستراتيجية موجود في كتاب ناتان شارانسكي «الدعوة للديمقراطية»، حيث أكّد شارانسكي أن «العرب هم مريض القرن الواحد والعشرين»، ولم يوارب ولم يتردد في إظهار عنصريّة وحقد دفينين على العرب والمسلمين، وعلى مقدّساتهم وحضارتهم وأسلوب حياتهم. ولكنّ الغريب في الأمر، والكارثي أيضاً، هو أن ينضّم إلى هذه الجوقة بعض العرب أنفسهم، الذين يعتبرون لقاء رايس بهم قمّة إنجازات حياتهم المهنية، حتى وإن كان هذا اللقاء يعني إملاء ما يريده شارانسكي على من يدّعون أنهم يمثّلون مصالح شعوبهم، ويسهرون على مقدّرات أوطانهم. لقد وضعت «حماس« الإدعاءات الغربية حول الديمقراطية على المحكّ. فقد كان الرئيس بوش قد صرّح سابقاً بأن «الفلسطينيين يجب أن يجروا انتخابات ديمقراطية، ويكافحوا الفساد، ويؤمنوا بالسلام كي يدعم جهودهم لإقامة الدولة الفلسطينية»! وقد حقّق الفلسطينيون بانتخابهم «حماس« هذه الشروط، ومع ذلك فلم ينالوا رضى من يدّعون العمل من أجل ديمقراطية وحريّة شعوبنا. أية ديمقراطية يعدون بها شعب العراق، الذي يقف اليوم على شفا حرب أهلية دمويّة مروّعة زرع بذورها، وأذكى نارها الاحتلال وأدواته؟ وأي ديمقراطية وأي حريّة تنتظر بلدانا عربية أخرى تتميّز بالتنوع الديني والطائفي، والتي تستهدفها استراتيجية مكافحة الإسلام؟ وفي خط موازٍ للهجمة الخطيرة على المقدّسات تسير حملة منظمّة لتهميش اللغة العربيّة والثقافة العربيّة وتحويل التعدد الفكري والطائفي الغني لهذه المنطقة إلى مكأمن خطر للاقتتال والفتنة. وإذا كانت رايس تجول من أجل «الدعوة إلى الديمقراطية»، وإذ كنّا نرى ببصيرتنا وأبصارنا خطورة ما يُحاك ضدّ أجيال اليوم والمستقبل، فماذا نحن فاعلون؟ إنّ أركان استمرارنا وتقدّمنا تتعرض للتصدّع المنظّم والمدروس، بينما تُشاعُ روح الإحباط والاستسلام كشرط لا بدّ منه لإلقاء السلاح قبل بدء المعركة، والسماح بتنفيذ ما يخطط لهذه الأمّة، التي وُضعت الخططُ للإجهاز على لغتها ومقدّساتها وثرواتها. وإذا كان لا يحمي الحمى إلا أصحاب الحمى، فعلينا أن نبدأ بالنظر إلى أنفسنا في المرآة، وأن نسأل من نحن وأين نحن وإلى أين ينبغي أن نسير، وكيف، وألا نخشى من كثرة المصاعب والأهوال، وألا نجبن أو نتقاعس أو نلجأ إلى الارتماء في أحضان الآخر «شاكرين له صبره علينا»، و«فخورين بقدومه»، وإملاءاته، و«معتذرين« له عن كلّ ما يمكن أن يعرقل مخططاته، ومصممين على تنفيذ «توصياته»، مهما كلف ذلك شعوبنا من ثمن! أولا يطمح كلّ من زار المسجد الحرام، لأن يزور المسجد الأقصى؟ وكيف له أن يفعل ذلك إذا لم يدرك أن الرسوم التي تطاولت على مكانة الرسول الأعظم، واستهداف ضريح الإمامين الهادي والحسن العسكري، وغيرها كثير من التطاولات والانتهاكات، ما هي إلا مقدّمات مدروسة زمنياً ونفسياً للتطاول الأخطر والأكبر على المسجد الأقصى؟ فهل يمكن أن نعتمد على بصيرة من يؤمنون بهويتهم وتاريخهم طالما أن أبصار البعض قد فقدت القدرة على الرؤية وعامت الألوان والأحداث أمامها، فلم تعد قادرة على استيعاب مغزى الأحداث واتخاذ القرار الملائم بشأنها؟ وهل يمكن أن نحلم أنّ زائري منطقتنا سيقابلون من هم مؤتمنون على شعوبهم وأوطانهم، يقارعونهم الحجّة بالحجّة، ويحملون أمانة المقدّسات وأمن الشعوب في أعناقهم، ويدافعون عنها بحكمة وكبرياء، واضعين العالم أمام مسؤولياته كي يتم تحقيق العدالة لشعوبنا والمساواة في الكرامة الإنسانية للعرب والمسلمين؟ * الشرق الاوسط