الحياة شاقة وفيها من العبء مايجعل المرء يعاني من صعوبات العيّش،لكن هناك من يتحمّل ويتغلب بإرادته وقوة إيمانه ويواجه كل هذه المشّاق بصبر، بل ومستعد للتضحية بكل شيء في سبيل استمرار هذه الحياة الكريمة، فيذهب متُحرراً إلى ساحات الجهاد، يُقاوم العدو ، ويصبح همهُ الوحيد بعيدًا عن هذه الدنّيا هو نيل رضا الله ، وإما الحرية أو الشهادة. وهناك نماذج من هؤلاء البشّر الذين يجعلون من آلاِمهم جسراً للعبور إلى الحياة الأبدية الكريمة، من وهبوا أرواحهم من أجل إحياء أمة عزيزة وقوية، فارتفعوا إلى أعلى عليين، ورضيّ الله عنهم ورضوا عنه. ومنهم المجاهد الشهيّد الذي سنقتبسُ جزءاً منْ حياتهِ المُقدسة هو:محمد علي حسين الغذيقي (أبو القاسم). نشأته ومميزاته كان ذا ال29 من عمره، إنساناً خجولاً جداً ،هادئاً، تميز بالكتمان وإن تكلم فإن كلِماته من ذهب أكثرُها حِكم، طبعهُ كريم جداً، لا يمكن أن يُخفي مالهُ بل يوزعه لمن يحتاج، يمتلك قلباً رحيماً ،ليُراعي بهِ مشاعر الآخرين، ويشفق على المُستضعفين ، لم يحدث أن جرح أحداً يعرفهُ الجميع بِحُسن أخلاقه. كلماته وتوجيهاته لأهله ولمن يعرفهم كانت دائماً حول التمسك بالمسيرة القرآنية والسيّر عليها وعدم السماح للمنافقين بتثبيطهم والتسلّح القوي بالقرآن الكريم ،كل اهتمامه كان يصبه بالتقرب إلى الله وذلك بتطبيق البرنامج اليومي ، وإذا حصل ولم يستطع النهوض مُبكرا قبل صلاة الفجر ، يُعاقب نفسهُ بنفسه بجلوسهِ في غرفته وحيداً دون مأكل ويعيش حالة من تأنيب الضمير بسبب تقصيرهُ مع الله ويعتقد بأنهُ لا يستحق كلمة (مُجاهد)،حريص كُل الحرص على أدوات سبيل الله لأنها أمانة في رقبته فلايُفرط بشيء. صفاته عُرف بين زملائه في الجبهة بأنهُ شخص متواضع ومُحسن رغم أنهُ كان مُشرف لعمليات في منطقة الجوف، وهو أصغر الأفراد بين المجاهدين، فيُغسِل لهم ثيابهم ويُحسن إليهم وكأنهُ أكبرهم، واعي ومُثقف فقيّل أنهُ كان ينام والمُصحف والمسبحة بيده، ويستيقظ ولازالتا بيده. كان قائداً مُحنكاً ذا عقلية إيمانية وحكيمة، استطاع بذلك أن يُدير عمليات الجوف بحكمة وذكاء ،كما أنهُ أشرف على عمليات المدفعية وكيفية وضع المدفع وتحديد الهدف بدقّة عالية. بطولاته سبقَ وأن جُرح في جبهة صرواح قبل أربع سنوات، أُصيب بقذفية هاون ، فبُتر نصف ساقهُ الأيمن ، وتعرض جسده لما يُقارب مائة شظية في أطرافهِ العلوية والسفلية ،وإحدى تلك الشظايا اخترقت رأسه وأصابت العصب البصري أدت إلى تضرر كبير في عينهُ اليُمنى ونادراً ما كانت تعود لطبيعتها،أما إحدى يديه فقد أُصيبت بإرتخاء في العضلات ولم يعد يقوى على تحريكها إلا بصعوبة ، فتم إجراء عملية شدّ عصب لهُ، رغم تلك الجراح المُثخنّ بها لم ينتظر شفاء جِراحه فقد كان على أشد الشوق واللهفة للعودة إلى ميادين الجهاد، حاولوا معه بأن لايعود لأن جروحهُ لازالت حديثة ، وقاموا بإدخاله كمؤهل في مُعسكر استقبال علّهُ يرجع عن قراره بالعودة للجبهة ، فدخل ولم يستطع البقاء هُناك سوى أسبوع ،أصرّ على العودة للجبهة رغم فقدانه لإحدى ساقيه،وتقرب إلى الله بالدعاءِ والإستخارة بأن الله يختار لهُ الخير ،وبالفعل انقضت أيام قلائل وتواصل معهُ أحد رفقائه ليستعد للذهاب للجبهة ، تجهز أبو قاسم وذهب إلى جبهة الجوف. شاركّ في صد زحوفات كبيرة واقتحامات كثيرة في عملية "فأمكن منهم"وأيضاً في تحرير مدينة الحزم واليتمه وخب والشعف، بمُحافظة الجوف. استشهاده بعد تلك البطولات المُشرفة، والآلام والجراح الموجعة، التيّ تحملها محمد في سبيل إعلاء كلمة الله، ومناصرة الحق ودفع الباطل والظلم، أراد الله أن يصطفيه ويختاره إلى جواره، لينال شهادة الآخرة ، وأخذ روحهُ الزكيّة بزكائه، بغارة جوية من قِبل أعداء الله ، حين كان وحيداً في الطقم وانتهت الذخيرة الخاصة بالمدفعية والصواريخ، فتحرك لأخذ الذخائر بمفرده،طلب منه أحد زملائه مرافقته ، فرفض قائلاً له : سأتحرك بمفردي أنت قُمْ بربط البطاريات الخاصة بالمدافع والصواريخ. ذهب مُسرعاً لأخذ الذخائر وفي عودته قام بربط مدفع بإحدى الطقومات، أسرع للعودة إلى رِفاقه وهم مُنتظرين له، وقبل أن يصل إليهم بمسافة بسيطة ،إذ بغارة غادرة من الطيران الحاقد والمُجرم تسقط فوق رأسه بحممها وصواريخها، فتأخذ روحه النّقية إلى السماء،لترتقي روحه إلى بارئها وتُعلن انضمامها إلى القوافل السابقة من الشُهداء يوم السبت بتاريخ 28/3/2020م، وبسبب الذخائر التي كان يحملها في الطقم، أدى ذلك إلى حرق الطقم وتضررت المنطقة بأكملها. وصيته أوصى الجميع بالإنفاق في سبيل الله ورفد الجبهات ومواصلة عمل البرنامج اليوميّ لرجال الله ، أما زوجته أوصاها بعد استشهاده أن تُعيد ماهو ملكٌ لسبيل الله ، فاستشهد محمد وزوجته تحمل في أحشائها جنينها الأول ،فأوصاها من قبل استشهاده أن إذا اعطاهُ الله ذكر تُسميه (مرضي) على اسم الرجل البطل والمخلص، رفيق دربه، ومشرف الجوف من قبله، و إن وهبها الله أُنثى تُسميها(أمة الرحمن) وذلك باسم أول شهيدة في المسيرةِ القُرآنية وعُرف أنها كانت تمد المجاهدين بالمدد . (الشُهداء)يذهبون ويتركون خلفهم أثرهم الطيب، كالمسكِ المُعطر ، يتركون خلفهم حياتهم المُفعمة بالاستبسال والنِضال ، ليكونوا كالنهر العذِب، من أراد ارتشف منهُ غرفةً لينهل ، ومن أراد تشبع منه حتى أرتوى ، هكذا هم مجاهدو وأبطال اليمن العصية، لابد من حياة عظيمة لكُل شهيد ، فلن ينال الشهادة إلا شخص عشقها وعشق كل الطرق التي تؤديّ إليها، ولم يُحب الحياة قطّ. سلامٌ عليهم و على أهاليهم الذين يدفعونهم ويصبرون لفراقهم، سلامٌ على أبو القاسم الشهيد المُخلص في بيعتهِ مع الله، سلامٌ على روحك الصافية، وجسدك الذي تحمل الجِراح البالغة ، لروحك الخُلود، ولقبركَ السلام.