في زيارتهما الأولى لي قالا «تأخرنا يا أماه قوي»استقبلت الشهداء الثلاثة بروحية الأم التي فرحت وزغردت ورأت النصر قادماً بإذن الله بحثوا عن الرفعة وعن أفضل العطاء، جابوا بنظرهم كل بقاع الأرض فلم تهو أنفسهم رغد العيش ولا عجائب الدنيا، فرفضوا الانصياع للرغبات والشهوات، ورفضوا الانقياد لثقافات علموا حقاً أنها من المهلكات وليست من المربحات للدار الأخرى، طمعوا بنعيم الله وتمنوا أن يكونوا من عباد الله المقربين، فتيقنوا أن العطاء لن يكون سوى في ميادين البيع من الله فحملوا أرواحهم على أكفهم وهرعوا لترك الدنيا والظفر بنعيم الآخرة، أخلصوا النية وباعوا النفس من الله تاجروا بأرواحهم فكانوا نعم الرابحين وكانوا خير البائعين من الله وكان الله جل وعلا خير من اشترى، فكانوا هم الأحياء ومادونهم كانوا هم الأموات فصعدوا إلى السماء أحياء شهداء فنعم الفوز ونعم عقبى الدار. الشهداء هم روحية العطاء والبذل هم نبراس الأمة الواعية والمجاهدة، من أيقنت أن مادون الشهداء أمواتاً غافلين غارقين في مستنقع الحياة الفانية، وعن عظيم الشهداء والشهادة كان لنا لقاء مع إحدى الأمهات العظيمات من قدمن فلذات أكبادهن نصرة لله ولدينه وذوداً عن الأرض والعرض وكان حوارنا كالآتي: حوار/ أشجان الجرموزي بداية هلا عرفتي عن نفسك؟ أنا أم الشهيدين عبدالله وأسامة عبدالحكيم المتوكل، وأخت الشهيد عبدالله محمد المتوكل.. أعمل مساعدة لمنسقة الأنشطة والفعاليات بالأمانة، وأقوم بالعديد من الأعمال الجهادية المختلفة.. كم لديك شهداء وكيف كانت بداية انطلاقتهم حدثينا عنهم؟ اثنان أولادي والثالث أخي؛ كانت بداية انطلاقتهم انطلاقة تنم عن دافع قوي للدفاع عن الدين والأرض والعرض في سبيل الله كما أمر الله في كتابه الكريم ونهج الرسول صلى الله عليه وعلى آله وكذلك نهج آل بيته فكانوا ممن توجهوا على نهج قرآني وتوجيهات السيد سلام الله عليه.. كان ولدي عبدالله مصراً جداً على الجهاد منذ الشرارة الأولى للعدوان الجائر فقلت له إن أباك أولى بالجهاد منك، وأنت محرم لي في السفر فقال «تشتوا تخلوني مكلف داخل البيت مستحيل أجلس» فبعد سفرنا إلى قريتنا في محافظة إب في بداية العدوان حيث كان الجميع ينزح إلى القرى خوفاً من الصواريخ وطائرات العدو، كانت حالته النفسية آنذاك تزداد سوءاً بسبب عدم ذهابه للجهاد، كانت تلك المدة شهرين فقط وكان قد وصل إلى أوج تعبه وحزنه.. فرجعنا مضطرين لصنعاء لأجله وبسبب إصراره فانطلق شبلاً صغيراً مجاهداً لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره إلا أنه استشعر المسؤولية وأدرك أن لا حياة إلا مع الله وفي سبيله، فانطلق أولاً يشق أولى طريق الجهاد في العاصمة صنعاء لمدة ثلاثة أشهر وعمل ضمن فريق الاقتحامات، ومن ثم انطلق إلى مارب وتحديداً جبهة صرواح كانت أولى وأخر جبهة التحق بها ظل يجاهد ويستبسل فيها قرابة العامين والنصف وفيها استشهد.. ولا زلت أتذكر جملة كان قد قالها لي حين عاد إحدى المرات من الجبهة في زيارة له حيث قال لي «لقد تأخرنا يااماه قوي» وكأنه يتكلم حينها بلسان مجاهد عاصر حروباً عدة ولم يكن الصغير ذا ال17 ربيعاً وكان يقصد بكلامه أنه تأخر الناس عن الجهاد ونصرة دين الله والوقوف في وجه الظلم وطواغيت العصر.. أما أسامة فقد كان عبدالله على تواصل دائم معه ويحثه على الاستعداد للتحرك بعده بعد أن يكمل الامتحانات ، وما إن انتهت الامتحانات إلا وأسامة قد تجهز وكأنه صار من أوائل المجاهدين من شدة رغبته وشوقه الشديد للجهاد رغم صغر سنه، كانت أول جبهة يلتحق بها هي جبهة جيزان وظل فيها ثلاثة أشهر ومن ثم عاد لزيارتنا ومن ثم تم نقله إلى جبهة صرواح بطلب منه حيث كان يقول أخي ينتظرني هناك مكث فيها ستة أشهر ومن ثم عاد جريحاً وبقي شهراً كاملاً في المستشفى إثر جراحه البالغة وبعد خروجه من المستشفى رابط شهرين في أحد المقرات في العاصمة صنعاء قرابة الشهرين ومن ثم عزم على العودة إلى جبهة صرواح تأكيداً منه بأن جراحه لن تلتئم سوى في الجبهة ومسارعاً للقاء أخيه وكأنه كان يشعر بأن الشهادة قريبة جداً منه وأنه سيلتحق بأخيه في القريب العاجل فقد كان دائم الحديث عن أخيه ولطالما كان يأتي له في المنام ليخبره أنه في انتظاره ويخبره كيف السبيل إلى الوصول إليه، فانطلق عائداً إلى جبهته وثكنته واستبسل فيها ستة أشهر ومن ثم عاد إلينا حاملاً وسام الشهادة لاحقاً بركب أخيه الذي سبقه، وكان وأخوه من قبله أشبالاً يذيقون المعتدي أشد التنكيل ويصبرون ويرابطون ويتحملون أحلك الظروف ويسعون لاجتياز كومة المصاعب والعثرات التي تواجههم.. أما أخي عبدالله كان مرابطاً مع اللجان الشعبية من قبل العدوان على بلادنا وفي النقاط وقد جرح قبل العدوان وكانت جراحه بليغة جداً، وبعد شن الحرب علينا انطلق مجاهداً ضمن اللجان يجوب الجبهات حيث جرح أكثر من أربع مرات جروحاً بالغة الأثر دوناً عن الملاريا التي أنهكت جسده عدة مرات لكنه ظل مجاهداً في قمة الأيمان والرقي وكل ماألم به جرح أو مرض ازداد إصراراً في مواصلة الجهاد وبقوة وعزيمةٍ لا نظير لهما وارتقى شهيداً وهو لا يزال مثخناً بالجراح والملاريا لم تود مفارقة جسده.. أين استشهدوا، وكيف كان استقبالك لخبر استشهاد كلٍ منهم، وهل كنت تتوقعين استشهادهم أم لا؟ كما ذكرت أنفاً فعبدالله استشهد في جبهة صرواح 29/7/2017م وكذلك أسامة في جبهة صرواح 13/2/2019م، أما أخي عبدالله فااستشهد في الحديدة 15/8/2019م أما استقبالي لكل شهيد منهم فهو نفس استقبال كل أسرة قدمت شهيداً معطاء بذل روحه فداء لله وفي سبيله ونصرة لوطنه ، كانت الزوامل تصدح بأعلى صوت والصرخات والتبرؤ من أعداء الله والألعاب النارية إلا أن الاستقبال لإبني عبدالله الشهيد الأول كان أكبر لكثرة توصياته بأني ازفه على أرقى مستوى.. وللعلم كانت نفسيتي مرتاحة جداً وقت وصول خبر استشهادهم وقد شعرت بالخجل من الله من أن تسقط لي دمعة على هذه النعمة العظيمة وهذا العطاء الذي لايضاهيه أي عطاء على وجه الأرض سوى عدالة رب السماء، فشعرت بالراحة والطمأنينة الكبيرة وكأني ضمنت لهم مستقبلاً زاهراً وعطاء وافراً بجوار الله وفي جناته.. وكان توقعي بالاستشهاد لهم كبيراً لماوصلوا إليه من رقي الأعمال والعبادات فكنت أقول إن نور وجههم هو من نور أعمالهم فلابد وأن يرتقي الله بالمؤمن المجاهد ويحب أن يقربه إليه، فهم من قال فيهم القرآن «يحبهم ويحبونه» فهم يحبون الله ويسارعون لمرضاته فوجب تحقق وعد الله لهم بحبه الكبير ونقلهم إلى جواره العظيم. هل ترين أن للشهادة أهمية في المجتمع عامة وفي ظل هذا العدوان خاصة، ولماذا؟ أكيد فعندما يستشهد الشهيد يتحرك من المجتمع كثيراً من الصامتين الذين يقولون لا دخل لنا بالحرب، لكنهم بعد رؤية قوافل الشهداء يشعرون أن القضية قريبة منهم أكثر ماهم عليه، فدماء الشهيد تحرك مشاعر الكثير للتحرك إلى الجبهات هذا بالنسبة للمجتمع.. أما بالنسبة للعدو خاصة فهي تحدث في قلبه فزعاً وريبة لأنه يراقب هذا المجاهد هل سيفر من الجبهة أم سيواجه فيجد أن المجاهد يدفع نفسه بقوة في الميدان كأنه يعشق الموت في سبيل الله فيجن جنون العدو لأنه لايملك مايخيف به مجاهدينا الأبطال. ما الأمر الذي وددتي اخبارهم به قبل استشهادهم ولم يتسنَ لك الوقت أو لم تتاح لك أي فرصة؟ لا يوجد أمر لم أحدثهم به الثلاثة الشهداء. لأني كنت على تواصل دائم وقوي بالشهيدين أولادي أما الثالث اخي عبدالله تمنيت أن أهاتفه للاطمئنان عليه لأنه كان يحاول التواصل معي في الثلاثة الأيام الأخيرة له ولا يوجد تغطية، وكنت أتوق لسماع صوته و اخباره بأن يهتم بنفسه أكثر لأنه كان متعباً بسبب الملاريا التي لم تدع له مجالاً للراحة.. ماذا لو عاد شهداؤك للحياة هل ستدفعين بهم للجبهات مجدداً واحتمال كبير لاستشهادهم مرة أخرى، ولماذا؟ لوعاد أولادي سأحاول أن أضمهم إلى صدري ولو مرة واحدة فقد اشتقت إليهم كثيراً.. وبعدها فليتوجهوا للجبهات مجدداً لما لي من علم بأن الجهاد حياة في قمة الروعة مع الله، فقد كانوا مستمتعين به لأن المساير والرفيق الذي كان يساندهم هو الله ولو استشهدوا فما الشهادة إلا نتيجة نجاح البيع مع الله وهذا مطلب أكيد يتمناه المجاهدون لأنهم يحبون الله ويعيشون الذوبان في حبه فكل قوتهم مستمدة من هذا الحب، ولو كنت أماً محبة لأولادي لعرفت أن مصلحتهم تكمن في الفوز برضا الله، ونيل الشهادة.. ماهي رسالتك لكل الأمهات في أسبوع الشهيد سواء أم الشهيد أو غيرها؟ رسالتي لكل أم أو أخت أو زوجة أو قريبة شهيد بأن الله يعصم قلوبنا جميعاً وأقول لهن الشهادة نعمة عظيمة من الله لايوازيها أي نعمة فالشهادة ليست من أي أحد وإنما هي من الله العظيم الرحمن الرحيم فيجب الافتخار بها والرقي بأولادنا بما جاهدوا وبما عملوا فخر لنا وعزة وكرامة أن نقدم منا ومن فلذات أكبادنا فداء لله ولدينه ودفاعاً عن الأرض والعرض.. فوجب أن نبقى ثابتين متربصين للعدو، وسنظل صامدين بفضل هؤلاء الأحرار، فهنيئاً لهم الشهادة وهنيئاً لكل أسرة الفخر بماقدمت من عظماء. كلمة أخيرة أو نصيحة تودين ختم هذا الحوار بها؟ أود أن أنصح كل أم أن تدفع برجالها وأولادها للجبهات لأن هذه هي الحياة الحقيقية عزة وكرامة وحرية هذه الأشياء لم نكن نعرفها إلا بعد أن واجهنا أعداء الله وتحررنا من الوصاية الأمريكية. .... فالجهاد واجب ديني فرضه الله على كل المؤمنين ولايكتمل الإيمان إلا به ، أما الشهادة فهي فضل من الله لا يصل إليه إلا من وصلت مرتبته مع الأنبياء والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا، فتلك نعمة عظيمة بأن كان أولادي وأخي شهداء.. وليس بعد تضحيات العظماء كلام يقال، ولن تفي السطور أحرف المديح بحقهم ، فهم بحر العطاء الذي لاينضب، وهم جنود الله على الأرض، فرحت السماء بقدومهم فسارعت إلى عناقهم وتزلزلت الأرض لكي تتلقف أجسادهم الطاهرة وترتوي من دمائهم العبقة الزكية ، وتتباهى بقدومهم الملائكة.. شهداؤنا ساداتنا وعظماؤنا فخر أجيالنا القادمة وعزة أمتنا بكم نعتز ونفخر وبأرواحكم الزاكية نسمو ونرتقي وعدونا يذل ويقهر..