واحدة من معالم الهيمنة المستمرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ذلك الصراع التقليدي بين الكبار على منابع الطاقة وممراتها، والتحكم بالمضائق المائية ، والمياه الدولية ، والتجارة العالمية ، وتنظيم تدفق السلع عبر العالم من قبل شركات أميريكية وأوروبية . القوى الإقليمية مهما كان حجمها، كانت ممنوعة من التصرف بمنشآت استراتيجية على أراضيها، لا يزال الإستعمار يحتفظ بإدارتها، وابرز مثال في التاريخ الحديث، تلك الحرب او العدوان الثلاثي الذي شن على مصر سنة 1956 من قبل بريطانياوفرنسا والكيان الصهيوني على اثر إعلان الرئيس جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس. القوى العظمى وخصوصا الغربية منها، تتصرف على اساس أن الارض بمواردها وبحارها وممراتها وثرواتها لها بالاصالة ولغيرها بالوكالة، وهي تنزع الوكالة عن أي حكومة تعارض هيمنتها على الثروة على أراضيها. أنظر ماذا فعلت فرنسا في إفقار أفريقيا ونهب ذهبها، وماذا فعلت بريطانيا بألماس افريقيا وثروات البلاد التي استعمرتها، وماذا تفعل امريكا بكل دول العالم منذ أن ورثت السيطرة من الإستعمار القديم. وما يسمى تاريخيا بإجماع واشنطن الذي ترعى تطبيقه المؤسسات الوكيلة من البنك الدولي إلى صندوق النقد والشركات المتعددة الجنسيات. هذا من دون أن ننسى أن الهيمنة على افريقيا تحديداً تخللها سرقة البشر أنفسهم وليس فقط مواردهم الطبيعية. كل ما أقره القانون الدولي عن حقوق الدول ذات السيادة على مياهها الإقليمية بعمق 12 ميلا بحريا، ينتهك بلا اي رادع من قبل القوى العظمى عندما تفكر أي حكومة بالتفرد في إدارة ثرواتها، أو عندما تفكر أن مسألة السيادة تشمل الدول الوسطى أو الصغيرة. ولم يكن نشوء محور المقاومة من تنظيمات وحركات إسلامية وثورية، إلا نتيجة من نتائج شلل الحكومات المرتهنة لإرادة الأجنبي المرئية بوضوح في جرائم العدوان المهولة على غزة وأهلها. في أتون العدوان على اليمن كانت تتشكل حكومة حرة ومستقلة في صنعاء. ساعدها الصدق على السيطرة على القرار السياسي والاقتصادي والأمني . أنتصرت هذه الحكومة على محاولات إلغائها بالقوة من قبل تحالف أميركي صهيوني عربي، العرب فيه كالعادة مجرد أداة تنفيذية تشتري السلاح بالمليارات ولا تجيد استخدامه. ولكن ليس هذا هو المهم بعين المدير الغربي للأزمة، المهم أن لا يصرف المال الخليجي إلا على دمار العالم الإسلامي، ويبقى متدفقاً على خزائن الدولة العظمى التي تدعي الحماية ولا تحمي، بل تحول الحرب إلى فرصة ابتزاز للمزيد من أموال "محمياتها". ثم واجه العالم ذلك التحول الرهيب في مسار الصراع مع العدو الصهيوني، وانطلق طوفان الأقصى نحو أراض 1948 لأول مرة منذ عقود، وأنهار الجيش الذي عظمته الدعاية الصهيونية ، وانكشفت نقاط الضعف في الكيان المصطنع. كذبة كبيرة رباها الغرب وزرعها ومولها وسماها دولة ديمقراطية، رآها تسقط أمام تنظيم إسلامي لا أمام تحالف من الدول. فمن الطبيعي أن تجتمع قوى الإستعمار القديم والحديث للدفاع عن "الغرب العاري" المسمى إسرائيل، فهي دولة الأشكيناز الذين لا يجرون فحوص الحمض النووي حتى لا ينكشف اصلهم الغربي .... دولة مهمتها منع أي إمكانية لنشوء قوة عربية أو إسلامية مناهضة للغرب في كل المشرق العربي وغرب آسيا... تصهين الغرب كله في تلك اللحظة ، بمعنى أنه كإسرائيل ما عاد حتى يلجأ إلى أكاذيب القانون الدولي، وبكل وقاحة دعم بالقول والفعل عملية الإبادة الجماعية : اقتلوهم ...هجروهم... اغتالوا مستقبل أطفالهم ... اهدموا مساجدهم ومستشفياتهم ومدارسهم و جامعاتهم، حولوا غزة إلى ارض غير قابلة للحياة... أما الأنظمة العربية والمستبدين الذين عيناهم فسيساهمون على طريقتهم بهذه المجزرة. جاء الرد من محور المقاومة بتطبيق عملي لوحدة الساحات، وفتح حزب الله جبهة جنوبلبنان بأكثر من 500 عملية حتى الآن مثلت أذكى حرب استنزاف تخاض ضد العدو الصهيوني في تاريخ الصراع معه. حتى شبه الإعلام الصهيوني قتلى العدو في شمال فلسطين بالبط الذي يتسلى فيها الصيادون من مقاتلي المقاومة. ونادرا ما كانت العملية بدون خسائر بشرية من العسكريين الصهاينة. وبالمقابل ارتقى للمقاومة الإسلامية أكثر من 100 شهيد حتى الآن... ويقف الكيان عاجزا أمام تفريغ الشمال، خائفا من توسيع المعركة وهو بالكاد يتمكن من التعامل مع مقاتلي القسام في غزة المحاصرة من كل مكان، فكيف وهو يعلم ويلمس بالنار دقة الكفاءة القتالية ، ونوع الصواريخ المتقدمة ، وطبيعة الحرب المقبلة مع المقاومة اللبنانية وتحدياتها. وليس الحرص الأميركي الشديد على عدم توسيع الحرب إلا حماية للكيان الصهيوني من معركة قد تكون قاضية ومكلفة ولا حدود لتوسعها وعمقها واثرها. هذا ولا يزال خطاب سماحة السيد حسن نصرالله يركز على أن الجبهة اللبنانية جبهة مساندة، ويدعو جميع الدول والقوى العربية والإسلامية إلى تحمل مسؤولياتها، خصوصا تلك التي تدعي ارتباطا بالقضية الفلسطينية أو بحركة حماس بالذات. أما التدخل اليمني فقد كان أيضًا حاد الذكاء، فعالا، متعدد الأبعاد . وبالتحديد فيما يتعلق بالمشكلة المزمنة في منع الأفعال السيادية عن القوى الإقليمية ، وبمقتضى وحدة الساحات، وبناء على مبدأ السيادة، أعلنت اليمن دعمها المطلق للشعب الفلسطيني، وشرعت بالقصف المؤثر على أم الرشراش، ثم طورت وتوجت تدخلها الفاعل بالحصار البحري للكيان الصهيوني. وبالفعل وبعد اختبار مدى جدية اليمن في فرض الحصار البحري، أعلنت شركة ميرسيك الدنماركية العملاقة للشحن البحري عن وقف جميع عملياتها عبر البحر الأحمر حتى إشعار آخر، بعد إطلاق صواريخ ومسيرات من اليمن على سفن ، امتنعت عن التجاوب مع التحذيرات اليمنية.. كما أعلنت شركة هاباغ لويد الألمانية إيقاف رحلاتها التجارية عبر البحر الأحمر حتى 18 ديسمبر/ كانون الأول، وذلك بعد ساعات من الإبلاغ عن تعرض إحدى سفنها لهجوم بالقرب من اليمن، واستكمل المشهد بإعلان شركات شحن فرنسية كبرى التوقف عن الشحن عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب. يفرك العالم عينيه وينظر من جديد، أحقًا تم فرض حصار على "دلوعة الغرب" من قبل دولة عربية على البحر الأحمر رمز الهيمنة الغربية على منابع الطاقة وممراتها؟ أحقًاتم قصف السفن التي ترفع أعلام التمويه فيما هي مملوكة لشركات صهيونية؟ أحقًا قصفت سفن شركات عملاقة تتبع دولاً غربية ؟ .... كل صاروخ يجبر سفينة على تغيير مسارها بعيدًا عن الميناء الصهيوني ، هو مقدمة حقيقية ملموسة لتغيير اتجاه العالم وسياساته وقيمه وقوانينه. وتقف أميركا حائرة أمام هذا التحدي وتحاول استخدام أوراق محروقة، فتساهم في فضيحة العملاء، ويتميز الخبيث من الطيب، سواء في داخل الشعب اليمني شمالا وجنوبا، أو في المنطقة ككل. وقد لمس المراقبون محاولات إرضاء اليمن وإغرائه لكي يتوقف عن دعم غزة بهذه الطريقة الزلزالية، واصبح ما كان مستحيلا يومًا ما بمتناول اليد، ولكن المستكبر لم يفهم بعد أن معركة الأطهار في اليمن ذات أبعاد قيمية وعقائدية وعالمية سيكون لها اثرها الواضح على توازنات القوى في المنطقة بعد انتصار فلسطين. ومن المؤكد أن فتح معبر كرم أبو سالم وزيادة تدفق المساعدات من النتائج المباشرة للحصار اليمني، ولكن لا يزال ما يقدم أقل بكثير من المطلوب. سيسعى الغرب مع عملائه كالعادة إلى تغيير مسار الأمور ، او ما يسمى بلغة الخارجية الأميركية : "العودة إلى الوضع الراهن"، وسيستمر في تحريض العرب على العرب والمسلمين على المسلمين وفقا لنظرية الحروب بالوكالة، ولكن الجواب اليمني كان سباقا ايضا في مظاهرات مليونية في الشوارع، أظهرت صدق التمثيل الحكومي للإرادة الشعبية، وهذا يعني أن اليمن مع مساهمته الحاسمة في دعم فلسطين يعمل على تحرير الديمقراطية من استخداماتها الغربية ، وبكل ثقة من الآن فصاعدا اليمن المتمسك بالمسيرة القرآنية والشريعة الإسلامية والقيم الإنسانية، هو الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة وليس الكيان الصهيوني ولا ممالك الإستبداد وجمهوريات الموز ، وهذا أيضا فتح جديد سيكون له تأثيره في صعود قيادات تمثل إرادة الشعوب الإسلامية إلى مراكز القرار وعندئذ سنشاهد عمق المساهمة اليمنية في تغيير العالم.