عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من خير معاش الناس لهم ، رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه يبتغي القتل والموت مظانه.. المعاش هو العيش وهو الحياة وتقديره والله أعلم من خير أحوال عيشهم .. رجل ( ممسك عنان فرسه ) العنان اللجام الذي يتحكم الفارس به في تحريك الخيل ، والفرس هو الخيل ،وهو أقوى سلاح نقل عسكري في صدر الاسلام ومن اقوى اسلحة القتال ، وهذا فيه اشارة الى درجة الاستعداد القتالي والحالة الطارئة التي يكون عليها الجندي في وضع يده على زناد سلاحه ، متأهب ومنتظر وواقف بنفسه على الجهاد في سبيل الله يطير على متنه ) أي يسرع جدا على ظهره حتى كأنه يطير ( هيعة ) الصوت الذي يتبادله الجنود عند حضور العدو ( أو فزعة ) أو حالة النهوض إلى مواجهة العدو. (يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ): إن هذا الفارس الذي تقحم الأخطار، وخاض الصعاب والأهوال، يتطلب القتل ، ويبحث عن الموت، ولكنه قتل يرضي الله جل وعلا، وموت يستشفع به عند ربه سبحانه وتعالى. وعموم القتل يحمل معان؛ منها: أ- قتل من شرع الله قتله من الكفار: وهذا هدف من أهداف الجهاد، أن نقصم ظهور قوى الكفر والعناد، وأن نقطع دابر كيدهم ومكرهم، وأن نذيقهم الذل والهوان، وليست المعركة مكانًا للحنان الباهت والشفقة المفتعلة على هؤلاء الكفرة المجرمين؛ قال تعالى: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً , فجنود المسلمين وجيوشهم ، يقتلون من أمر الله جل وعلا بقتلهم، ويتسارعون إلى الفتك بهم، ودق أعناقهم، وجز رقابهم، قال تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [37]، وقال جل وعلا: فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ [38]، وقال سبحانه وتعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [39]، وقال تعالى: مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا .. بل إن هذا القتل هو بأمر الله جل وعلا، وعونه، ومدده، وما الجندي ، إلا سوط عذاب حاق بهؤلاء القوم المجرمين، قال تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ , ب- طلب القتل والشهادة في سبيل الله: وهذه أمنية من أسمى أماني الجندي المؤمن، يسعى لها سعيًا حثيثًا، ويتطلبها، ويتشوق لها، متأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال: (والذي نفسي بيده، لولا أن رجالًا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أن أُقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل) ولسان حال هذا الجندي المؤمن يقول : وَأَلزمُ أَطرَافَ الثُّغُوْرِ مُجَاهِدً ا...............إِذَا هَيْعَةٌ ثَارَتْ فَأَوَّلُ نَافِرِ لأَلْقَى حِمَامِي مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ......بِسُمْرِ العَوَالِي وَالرِّقَاقِ البَوَاتِرِ كِفَاحًا مَعَ الكُفَّارِ فِي حَوْمَةِ الوَغَى ....وَأَكْرَمُ مَوْتٍ لِلْفتى قَتْلُ كَافِرِ فَيَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْ حِمَامِي بِغَيْرِهَا ...وَلاَ تَجْعَلَنِّي مِنْ قَطِيْنِ المَقَابِرِ والباحث عن الشهادة المتطلب للقتل في سبيل الله، له شأنه في الجهاد عامة، وإذا حمي الوطيس، وسالت الدماء، وتطايرت الرقاب، خاصة، فلا تسل عند ذاك عن شأنه، فمن ذا تثبُت قدمه حتى يعلم خبره؟ فهذا الجندي / أنس بن النضر غاب عن قتال بدر، (فقال: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع. فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون، قال: اللهم، إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني أصحابه، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين. ثم تقدم، فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه.. وهذا الجندي البطل / جليبيب رضي الله عنه، قاتل سبعة من المشركين فقتلهم وقتلوه، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم عليه وهو مقتول في أرض المعركة، ثم قال: (قتل سبعة ثم قتلوه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه.. وهكذا يتطلب الجندي ، القتال في سبيل الله، حتى إذا ناله، وحقق مراده، أنعم الله عليه بحياة أكمل وأتم، قال تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ • وقد يقدر الله لعبده السلامة من القتل في المعركة، فيمضي عمره في ساحات الوغى، وأرض البطولات، يكتسب الأجر والمثوبة؛ وقد ينجو من قتل الاعداء له ومع ذلك يقدر الله جل وعلا له موتًا في سبيله؛ كأن يصاب خطأ فيموت، كما وقع لعامر بن الأكوع في فتح خيبر؛ حيث كان سيفه قصيرًا، فتناول به ساق يهودي ليضربه، فرجع ذباب سيفه، فأصاب عين ركبة عامر، فمات منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن له لأجرين؛ إنه لجاهِد مجاهد ، وجاهد مجاهد أي مجتهد في طاعة الله مجاهد في سبيله. ومن طلب المنايا في سبيل الله، فلا حرج عليه مما يصيبه من بلاء يقدره الله عز وجل؛ سواء وقصته دابة، أم تردى من عل، أم أدركه الغرق، أم اجتاحه الطاعون، أم قضى عليه المرض، أم قتله الحر أو البرد، أم فاجأته المنية، قال تعالى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [48]، وقال جل وعلا: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [49] فيأتيه الموت، وهو فرح مستبشر بلقاء الله جل وعلا. وختامًا: فإن الحديث عن الجندية وشرف القتال فيها حديث شيق طويل، لا تنقضي عجائبه، ولا تنتهي غرائبه؛ إنه حديث يستكثر منه الكبير والصغير، والرجل والمرأة، والقوي والضعيف؛ لأنه يلامس شغاف القلب، ويحرك كوامن النفس، ويبعث فيها الأمل المنشود والعزم المعقود... ولكن يبقى السؤال المهم ؟ هل بحلو الحديث تتحقق الأماني؟ وهل بالتلذذ ببطولات الجنود يتأتى النصر؟ أما سمعنا وأبصرنا الهيعات والفزعات؟ فأين مَن يمسك بعنان فرسه؟ وأين مَن يطير على متنه؟ وأين مَن يبتغي القتل والموت مظانه؟ واين من يبذل ماله وروحه لمناصرة الجنود؟؟