الرئيس هادي يحشد للاصطفاف الوطني ويستدعي كل ما تطاله لسانه من ألفاظ طنانة على شاكلة "الجمهورية.. الوحدة.. المكتسبات"، دافعاً بالموقف إلى أقصى درجات الحساسية،حيث تبدو البلاد كلها واقفة على كف عفريت متربص أكبر من الجرعة وأكبر من الفساد الحكومي، أكبر بكثير إلى حد الخوف على النظام الجمهوري بكله. يفعل ذلك وهو يثق بوقوفه إلى جانب الشعب وإحساسه بمعاناتهم..ووسط كل هذا يأتي الدكتور بن دغر ليقرأ على فخامته تقرير اللجنة الرئاسية، ويخبره أن الحوثي أبدى استعداده لتغطية تكاليف الدعم الحكومي للمشتقات النفطية لمدة شهرين، على أن يتم تجميد الجرعة..إحراج، بهذلة، هاوية عمودية تجلب الدوار.. أنا نفسي شعرت بالخجل وأنا أقرأ ذلك.. ها هو الحوثي يلعبها جيداً ويتعاطى مع أولويات شعبية ملموسة. واقعية.. وفي المقابل يحشر الرئيس والحكومة وأحزاب الاصطفاف في موقف حرج جداً؛ إذ ينكشفون وهم متمسكون بمعطيات خيالية يعزونها إلى نوايا الحوثي وبواطن قلبه، دون أي التفات إلى ما هو واقعي في نظر المواطنين الذين يعانون الكارثة الحقيقية، وبالتالي يعرفونها جيداً أكثر من الحوثي والرئيس.. لست بصدد تصويب تحركات الحوثي أو تخطئتها، الآن على الأقل، ولا يهمني تلك النوايا الخفية والأجندات المستترة التي يتحدث عنها الجميع، لأننا نستطيع أن نلمس من الظاهر أشياء مهمة أيضاً.. فالرئيس والحكومة والمصطفين يتحدثون عن نقاط فضفاضة كالجمهورية ومكتسبات الوطن والأمن، هذه الألفاظ التي فسرها كثير من رجال الدولة بما يناسب مقاسات جيوبهم وأرصدتهم وأسوار منازلهم على مدى أعوام، بينما لم نعرف نحن معناها حتى الآن لأنهم لم يتركوا لنا فرصة للاستفادة منها.. وفي الوقت نفسه يأتي الحوثي ليتحدث عن أمر واقعي حد الإيلام كالجرعة، بل ويبدي استعداده لحل سريع يحمل في ظاهره كل المصلحة للشعب وفي باطنه فقط تكهنات الآخرين حول نوايا خفية وأيادٍ أجنبية، وبين هذا وذاك، نحن البعيدين عن مطابخ القرار وصوالينه وغرفه المغلقة، ليس لدينا من المكتسبات الوطنية والثورية والجمهورية ما نخسره، ولا يمكننا القياس إلا على الواقع الظاهر، وبلا مزايدة.. كان بوسع الرئيس هادي أن يسبق الحوثي إلى ذلك الإحراج منذ البداية، لو تعامل مع الأمر بجدية ووقف حيال الجرعة والحكومة الفاشلة موقفاً تقتضيه مصلحة المواطنين، لأن إسقاط الجرعة وإقالة الحكومة هي مطالب الشعب كله وليست مطلب الحوثي فقط، طبعاً إذا ما استثنينا من كلمة الشعب هذه أعضاء الحكومة الذين يسرهم لو تتخلد الحكومة إلى يوم الدين.. وقتها كانت ستنكشف تلك "النوايا" التي يخفيها الحوثي من وراء هذه المطالب، وبدل أن يرتبك الرأي العام هذا الارتباك الفظيع كانت ستبدو الأمور أوضح، وسيكون هادي أكثر قوة إزاء أي تحرك غير مشروع للحوثي أو لغيره. أما الآن، في ظل الجرعة والحكومة، فإن الحوثي يمتلك غطاء فولاذيا متمثلا بمطالب شعبية قوية، حتى لو كانت لديه "نواياه الخبيثة".. وعلى أية حال فإن المواطنين -وهم العنصر المهم بالنسبة لي في هذا الأمر كله- ليس عليهم أي مأخذ في الوقوف إلى جانب الحوثي ولو بالنية، طالما أن الحوثي يقف إلى جانب مطالبهم.. خلاصة ما سبق : أي طرف في الصراع لا يمكن أن يكتسب شرعية موقفه ومنطقيتها إلا بالانحياز لمصلحة الشعب. والحوثي هو من فعل ذلك، خداعاً..حيلةً.. لا يهمني، المهم أنه فعلها. لا أزال مُحرَجاً بسبب ما قاله الدكتور بن دغر أمام الرئيس ويجب أن يكون الرئيس أيضاً مُحرَجاً مثلي، لأن الحوثي سحب من تحت قدميه بساط الوقوف إلى جانب المواطنين ودغدغة مشاعرهم ب"المصلحة العليا"، بل إنه جعل الرئيس والحكومة وأحزاب الاصطفاف أبعد الناس عن تحقيق المصلحة العليا والسفلى وما بينهما.