لم تكن مضطراً لإلقاء قميصك من البلكونة لمجرد أن إحداهن عانقتكَ ونسيت شفتيها على كتفك.. باستطاعتك أن تقصَّ الشفتين كي لا تراهما زوجتك، لأنها لن تصدقك إن قلت لها إنهما فوتشوب، أو أن أحد العمَّال أوقع عليك بعض الطلاء وهو يدهن الجدار.. ها أنت تنزف لمجرد أنك تشاهد فيلماً عن حرب أمريكا وفيتنام، تمسحُ أنفكَ كلَّما قام أحدهم بتسديد لكمة، وتبتسم حين ترى البطل ينجو من نزق الدبابات وعيون القناصة التي تقتل بغمزة واحدة فقط.. تسألك زوجتك عن خيط الدم بين أنفكَ وشفتكَ، فلا تجد جواباً يستطيع إيقاف ذلك النزيف. لا شيء يستحقُّ كلَّ هذه التناهيد.. ثيابكَ لم تعد تتَّسع لكلِّ هذا الغياب.. تتذكَّرُ الماءَ فيسيل بين أصابعك، ثم تحاول أن تستحضرَ الجفاف فتخشى أن يتشقَّق الصلصالُ بداخلك.. من يقنعك أنك لستَ فخَّاراً إلى هذا الحد من الخوف!! يزعجكَ الشريط الإخباري المليء بالأخطاء المطبعية، والمذيع الذي يبتسم قبل أن يقرأ خبر انفجار حافلة مليئة بالطلاب.. تنصتُ إلى وساوس زوجتك، وتضع يدكَ على قميصكَ خشية أن تُصدر الشفتان قبلة تؤكد هذه الوساوس، وتتمتم بآياتٍ تأمل منها إخراجك من هذا المأزق. ليس هناك شيءٌ يستحقُّ عضَّ الأصابع.. سأضع أصبعي في عين المساء الذي كان يحملكِ إليَّ كالفاكهة التي نحملها لزيارة مريض.. المساء الذي كان يضعكِ بين يديَّ كوردة فوق قبر.. المساء الذي لم يعد شقياً كما كان.. المساء الذي يريد أن يلبس جلباب التقوى.. المساء الذي يغيِّر جلدَه كأفعى جريحة.. المساء الذي ينهضُ كميِّتٍ ينفضُ الترابَ عن بقايا عظامه.. هو نفسه ذلك المساء الذي أشعلتُ فيه قصيدة أتدفأ بها من زمهرير الكآبة، وأتَّقي بها ذكرياتٍ وأكفاناً منشورة على حبلِ غسيلٍ طويل..