حين جئنا تعز من قراها استقبلتنا ببُسطها الخضراء النديّة وغطّتنا بنسماتها العليلة فلم نحتج إلى أغطية سواها، كانت تعز واحة واحدة خضراء تزهر فيها حتّى الطرقات وسطوح المنازل، وكانت امتداداتها يوم أتيناها كلّها أزهار برّية عطرة تتعب العين في السفر فيها، وكانت ملاذ الخائف ومائدة الجائع، وظلّت تعز هكذا يتفاخر أهلها بها مثلما يتفاخر من مرّ بها بعبوره فيها، ورغم أنّها ظمأت طويلا لم تشكُ ظمأها، وحُرمت كثيرا لم تشكُ حرمانها، كانت لا تفكر إلا بأن تعطي ولا تأخذ. وذات يوم من أيّام عام 2011م غزت تعز غربان الشرّ التي جاءت من كلّ حدب وصوب وحوّلت عرصاتها إلى حوانيت للرذيلة ومخيّمات للفحشاء والجريمة وكلّ المنكرات، فخلعت تعز ذلك الثوب البهيّ النقيّ التقيّ ولبست من المرقعات ما يخجل الناظر إليها، ونهض من بين الجموع قتلة ومأجورون ليمارسوا مهنة القتل والسلب والنهب، فذهبت تعز مع ما ذهب من طهر حياتنا وعزّها وسلامها. تعز فقدت أحبابها وسادتها ومشايخها ووجهائها عبر نصف قرن مضى، وجاء أدعياء مموّلون ليحملوا كلّ عناوين من فقدنا فتحوّلت بهم الأرض إلى غابة سباع ولا تزال. اليوم يتداعى أبناء تعز بين الحين والحين ليبحثوا عنها في كلّ مكان إلا فيها، هنا ستجدهم في صنعاء يفتّشون عن تعز، يعقدون المؤتمرات وينظّمون اللقاءات ويتوسّلون إلى من يوصلهم إليها وهي تبتعد، تبتعد عنهم بقدر ما يبحثون عنها في غيرها ومن غيرهم. كواحد من أبناء تعز حضرت هنا لقاءات كثيرة، وغبت عن لقاءات كثيرة، فلا حضوري حقّق لي وصولا إلى مدينتي تعز المسلوبة ولا غيابي زادني غربة عنها. كان آخر ما حضرته من اللقاءات ذلك اللقاء الذي عقد مع رئيس مجلس النواب يوم الاثنين (30 يناير 2017)، عرفت خلال اللقاء وليس قبله أن هناك من أبناء تعز من يشكون همّ تعز ووقوعها تحت قبضة الغزاة وعملائهم ويريدون لها أن تتحرّر من ربقة هؤلاء وتعود لأهلها ولليمن التي هي قلبه. على أن ما حيّرني أنّ هدفا عظيما ونبيلا كهذا لا يجتمع لأجله أعظم رموز تعز، فقد خلت القاعة من الكثير ممّن يهمّهم أمر تعز ومن هم سادة تعز ووجهاؤها، قلت في نفسي: لماذا غاب الكثير ولم يحضر إلا القليل؟ أين المحافظ؟ أين ممثّلو تعز في المجلس السياسيّ والحكومة والنواب ومجلس الشورى؟ أين البقيّة الباقية من أبناء صناديد تعز الذين فقدوا أو استشهدوا في العقود الماضية وكانوا ملء سمع وبصر الناس آل عثمان والقعود وشائف الأعروق والبحر والشرجبي وعزيز اليمن وسعيد أنعم وأمثالهم وهم قد تركوا خلفهم وارثي مجدهم هل لأنّهم ليسوا متطفّلين ولا صغارا يتجاوزهم الداعي دوما؟ حقيقة شامخة أنّه لا يوجد شيخ واحد ممّن هم شيوخ فعلا بهذه العظمة والعراقة في تعز كابرا عن كابر وقفوا مع الغزو، وهذا هو شرف تعز وعزّها، وهؤلاء وحدهم هم الناس، فابحثوا عنهم وشاوروهم في أمر تعز يا أهل تعز ويا أهل الدولة لتعود لكم تعز وليعود إلى تعز عزّها بهم.