تمُرُّ الأيامُ والصَّغيرُ يترعرعُ أمامَ عيني والديهِ مُتنعِّمًا مُدلَّلًا بينَ الأيدي والأكُفِّ والرَّاحاتِ رغم الظُّروفِ الصَّعبةِ ، وقساوةِ العيش،ِ وفي ظِلِّ أيامٍ حزينةٍ ، كئيبةٍ اسودَّت السَّماءُ ، وجثمَ عليها دُخانُ الحربِ ،وقُدِّرَ لأُسامةِ أن يحيا فوقَ حدِّ سكِّين .
وبعدَ أن أكملَ سنوات دراسته الأولى في تلك المدرسةِ الَّتي تبعُدُ عن بيتهِ بضعَ أمتارٍ وأمل زادَ شغفُه لتحقيق حلمه بإن يُصبحَ يومًا طبيبًا ناجحًا ؛ لكنَّ حُمقَ الحمقى وإجرام السَّاسةِ ، وغدرَ الطامعين الَّذين صنعُوا تلگ الصراعاتِ الَّتي تنحرُ الوطنَ ، وتُدمي الأجيالَ القادمةَ منعهُ من ترجمة حلمه.
قِصَّةٌ ليس لهم فيها ناقةٌ ولا جملٌ سوى أنَّهم من أبناءِ هذا الوطن الّذي شهِدَ - في غفلةِ الزَّمنِ - أُناسًا يتناحرون على المناصبِ ،كُلًّا منهم يُريدُ أن ينهشَ الآخِرَ ،ويلفِظَ الآخرين وراءَ ظهرِهِ .
تلگ هي الحربُ ، وجراحُها ، وصراخُ الأطفالِ وهم يسألون عن آبائهم الَّذين اُختِطفوا ، أو ماتوا في ليلٍ ؛ إثر سقُوطِ قذيفةٍ صاروخيَّةٍ على منزلِهم .
تفرَّقت الجموعُ ، وانتحبت الأمهاتُ ،وتيتَّمَ الأطفالُ وشاءَ القدرُ أن يكونَ أُسامةُ يتيمَ الأبِ والأُمِّ بعد أن قُصِفَ منزلُهم بطائرةٍ حربيةٍ - عن طريقِ الخطأ - خرجَ مِنها الفتى اليافع بدونِ أب وبدون أم . كانَ لزامًا عليه أن يواجه المُستقبلَ الجديدَ بجَلدٍ وعزيمةٍ فولاذيَّةٍ ؛ ليواصلَ مشوارَه ُ التعليمي حتى يُعالجُ الفقراءَ والمساكين الَّذين عاشَ معهم وذاقَ ما ذاقوه من مرارةٍ وألم .
في ليلةٍ شتويَّةٍ باردةٍ قرَّرَ أسامةُ السَّفرَ إلى المدينةِ ؛ بحثًا عن عملٍ يعيلُ به نفسِه بعدَ أن فقدَ عائلَهُ .
لم ينم تلك الليلة الَّتي قررَ فيها تركَ قريتِه .
عمل على جمعِ ما تبقَّى له مِن مُقتنيات البيت الَّذي ولِدَ فيه، ومع بُزوغِ الفجرِ ركِبَ - مع مجموعةٍ من الفلاحين- سيارةَ أُجرةٍ . تحركت السيارة ُصوب المدينةِ غير أنَّ غُصَّةٌ في قلبِ أُسامة ظلَّت تتأمَّلُ تلگ البُقعة التي حملت يومًا على ظهرِها أحلامه، ضحِكاته ، شقاوة أيامه الأولى، وخُطاه البريئة.
رأى الأرضَ التي أحبَّها وقد كساها الحطامُ ،ورسمت فيها الحربُ خريطةً ، رأى بقايا بيوتٍ متناثرةٍ هُنا وُهناك كانت ذاتَ فرحٍ عامرةً بالسُّكان.
شيء فشيء تضِيقُ مساحةُ قريته كُلَّما أسرعت بهم السَّيارةُ إلى أن انتهت ولم يعُد يراها .
وجدَ نفسَه في موقفِ وداعٍ ، ودَّع فيه كُل َّشيءٍ (رُكام بيته ، قبر والديه ، ومساحة أحلامه التي تركها رغمًا عنه وبغير إرادته ) ،فهو بحكمِ الظُلمِ طريدٌ ، وفي قانونِ الجلَّادين زائرٌ عابرٌ وليس للزائرِ في نهايةِ زيارته إلَّا أن يرحلَ .
خرجَ منها مرتين : مرةً مذبوحًاعند موتِ أبويه ومقهورًا مرةً أخرى، وما أمرّهما من مرتين. بدأت رحلةُ الاغتراب المُرَّةِ وأخذت السيارة ُ تسير ُ في منعرجاتِ الطريقِ المُمتدَّة كالأفاعي ، فتارة تصعدُ وتارةً أخرى تهبِطُ وتنكسر . وبعد يومٍ مِن السَّفرِ وصل المدينة حيثُ السيارات المُتراصَّة والعمارات الفخمة وبجانبِها أُخرى قد سجدت إلى الأرض بفعلِ الحرب .
تغيَّرت أمامهُ كُلُّ المعاني! كيف لا ؟! وهو لم يزُرها يومًا . حانَ وقتُ البحثِ عن مكانٍ يُقيم فيه .
انتصف الليلُ ولم يجد مكانًا ؛ فافترشَ الأرضَ والتحفَ السَّماءَ . لم ينم تلك الليلة ولم تغمض عيناه لحظةً . يُفكِّر في قادمِ الأيام وما يبحثُ عنه.
انبلجَ الفجرُ وقام مِن فراشِه ، وفجأة انهمرت من عينيه دمعاتٌ غزيرةٌ بعد أن تذكَّرَ أمه وهي توقضه لصلاةِ الفجرِ ، وأبوه الَّذي بصوته الجميِل يصدحُ بالأذان في مسجدِ القريةِ .
تذكَّر منشأ الطُّفولةِ ومهدِ الصِبا ،فبكى بحُرقةٍ ، لكِنَّهُ سُرعان ما مسحَ تلك الدُّموع وخرجَ من ساعتِه ؛ ليبحث عن حياة.
طرقَ أبوابًا كثيرةً (المصانع ،دور الخياطة، دكاكين بيع المواد الغذائيَّة، ورش المكنيك ،وبعض المشافي)وهنا وجدَ عملًا له في إحدى المشافي الخاصَّة كعاملِ نظافةٍ بأجرٍ زهيدٍ ببضعِ دراهمٍ لا تكفي شراءَ ملابسٍ له.
مرَّت الأيامُ والشُّهورُ وهو على هذا الحال، وفي أحد الأيام أتى إليه رجلٌ كبيرٌ تبدو عليه آثارَ النِّعمةِ وحُسنَ الخُلق ، وبتلك الكلمات المُنمَّقة أقنعَ أُسامةَ بأن يتركَ العملَ ويأتي ليعملَ معه كسوَّاقٍ له . وافق أسامةُ وقررَ أن يذهبَ مع ذلگ الرُّجلِ .
ذهبَ إلى محاسبِ المشفى وأخذ ما تبقَّى لهُ مِن حسابِه وسلَّم ما عليه مِن عُهدةٍ وهي مكنسة ،أكياس من صابونِ النَّظافةِ ، وبعض عُلب لروائح مُعطِّرة ، وبذلك يكون أنهى عمله في المشفى. خرجَ وكانَ الرَّجلُ ينتظره خارجَ ، فأشار إليه بأن يصعدَ السَّيارةَ . صعدَ أُسامةُ وقال لهُ الرَّجلُ : هل نذهبُ إلى منزلي الآن أم نذهب إلى سكنك لتأخذَ منه أغراضك؟ وأردفَ قائلًا :لن تسكنَ هُناك بعدَ اليومِ ،وستسكن معي في منزلي الواسعِ وبينَ أهلي!
تمتم أسامة بكلماتٍ لم يفهمها الرَّجلُ وبنربةٍ خائفةٍ يقولُ له أسامة : لنذهب إذن لأخذ أغراضي .
فعلًا ذهبَ ودخلَ غرفته ، وأخذ كُلَّ شيءٍ منها وأغلاها صورة لطفولته في حضن والديه، ثُمَّ ركِبَ سيارةَ الرَّجلِ .
وبعدَ عشرين دقيقة تفاجأ ببوابةٍ كبيرةٍ تدخلُ منها سيارةُ ذلك الرجل وبداخلِها بنايةٌ كبيرةٌ وحديقةٌ واسعةٌ فيها من الجمالِ ما لم تراه عيناه يومًا.
أوقفَ الرَّجلُ سيارته و أمر أسامة بالنُّزولِ ودخلَ الڤيلَّة ، وبعد أن أخذَ جولةً فيها أعطى الرَّجلُ مفتاحَ سيارته لسائقِهِ الجديدِ وقال : هذا جناحُگ.
خُذ قِسطًا مِن الرَّاحةِ وغيَّرملابِسَك وبعدَ المساءِ نلتقي؛ لنتَّفق. دخلَ أُسامةُ الغُرفةَ ونامَ بعد صراعٍ مع حاضره وماضيه. وعِندَ حُلولِ المساءِ إذ بطارقٍ يطرقُ البابَ ويفتحُ لهُ أُسامة وإذا بهِ الرَّجل دخلَ معهُ إلى غُرفةِ المجلسِ وتبادلا أطرافَ الحديثِ ، واتَّفقا على كُلِّ شيءٍ .
تمُرُّ الأيامُ وكُلُّ يومٍ يكتشفُ أُسامةُ شيءٍ جديدٍ . تارةً يُرسِلُه ليأخُذَ سلاحًا ومتفجراتًا مِن إحدى الشُقق الَّتي يملكُها ويوصِلها إلى المكانِ المُحدَّدِ ، وتارةً أُخرى يبعثُ معهُ أموالًا لبعضِ الأفرادِ دونَ أن يدري ما الأمر .
وما أن جاءَ اليوم ُ الَّذي ينتظرُ أُسامة دخل عليه أربعةٌ مِن الرِّجالِ وبنبرةٍ حادَّةٍ قالوا : ستذهبُ اليومَ بعدَ العصرِ وسيكونُ معگ حزامٌ ناسِفٌ لتُفجِّرَّ مدرسةً كذا !
خرجَ الرِّجالُ واغلقوا البابَ بعدَهم خشيةَ أن يهرب.َ جلسَ بعدَها والدَّمعُ يملؤ مُقلتيه ، ينتظرُ أن يأتي وقتُ الموتِ الَّذي حدَّدهُ لهُ جلادٌ ومسخٌ مِن مُسوخِ البشريِّة. هكذا عاشَ بينَ الزِّحامِ، وألسُنِ لهبِ الآخرين. ابتداءً مِن حرِّ الهاجرة في تلك الأرصفةِ ،وانتهاءً ببضعِ ريالاتٍ عندَ حُلولِ المساءِ.
ضاقت به الدُّنيا وماتت أحلامهُ بعد أن فقد سنديه وهجر الأرضَ التي أحبّ ، فرمته الظروفُ في حضنِ اللهب، وقرَّرَ من اشتراه مِن عناصرِ التَّنظيم أن يكون أُسامة كغيرِه ممَّن استغلَّه هؤلاءِ ؛ نتيجةَ الحاجةِ والفقِر الَّذي عصفَ بهم .
ما هي إلا ساعاتٌ قليلةٌ وكانت النهايةُ ، وبقيت أشلاؤهُ مُجرَّدَ طيفٍ عابرٍ يُطعِمُ الوطن كُله بُكاءً وعويلًا .