ثمة ثلاث قضايا استراتيجية في اليمن تمثّل حجر الأساس لمعالجة تركة مثقلة بالاضطرابات والأزمات؛ وذلك في إطار حلحلة الأوضاع الراهنة, ورغم ما تطرحه هذه القضايا من التساؤلات والسجالات, فإنه يمكن ربط حلّها بجملة من الخطوات والآليات والتوجُّهات ذات البعد الاستراتيجي التي عبّرت عنها بوضوح كامل ورؤية ثاقبة القرارات الرئاسية الصادرة مؤخراً والمتمثلة في: أولاً: إعادة هيكلة القوات المسلحة, وهي القضية التي كانت في صلب موضوعات المبادرة الخليجية, فضلاً عن كونها أبرز مطالب قوى التغيير في الداخل, وبالتالي فإن الخطوات التي اتخذتها القيادة السياسية إزاء هذا الملف قد أشاعت مناخاً من التفاؤل والإيجابية بين الأوساط جميعها, حيث بدأت خطوات إعادة تموضع القوات المسلحة وإعادة هيكلتها وفقاً للأسس والاعتبارات العلمية والموضوعية وبما يتماشى مع الطموحات الوطنية التي تتجاوز الولاءات الشللية والمناطقية والقروية. وبالمناسبة فقد جاءت تصريحات الأخ وزير الشؤون القانونية مؤخراً بشأن تسريبات قيام رئيس الجمهورية بتعيين المئات من أقربائه في قيادة القوات المسلحة والأمن, نافية صحة تلك التسريبات؛ وأن جميع قرارات التعيين التي صدرت هي لقيادات عسكرية لا تربطها أية صلة قرابة أسرية أو مناطقية بشخص الأخ رئيس الجمهورية، حيث تنتمي هذه القيادات إلى مختلف مناطق اليمن. وعموماً فإن خطوت إعادة هيكلة القوات المسلّحة تصب – إلى جانب الخطوات الأخرى – في مجرى إعادة تطبيع الأوضاع الداخلية، والانتقال باليمن إلى آفاق رحبة ومستقرّة؛ والتي - بدورها - تؤسّس لمرحلة جديدة من الوفاق والاتفاق بين أطراف العملية السياسية لإنجاز التسوية الشاملة في اليمن. ثانياً: إن مشروع العدالة الانتقالية يعد أحد الموضوعات البارزة والرئيسة والتي تمثّل مرجعية قانونية والتزاماً أخلاقياً ومادياً يضمن للأطراف المتضرّرة حقوقها كاملة غير منقوصة جرّاء المظالم التي لحقت بالأفراد والجماعات على حد سواء خلال الفترة المنصرمة من الأزمة والاقتتال، حيث إن من شأن مثل هذه المعالجات أن توفّر ضمانات الدخول إلى مؤتمر الحوار الوطني بكل الثقة والاطمئنان؛ وذلك على الرغم من ظهور بعض الأصوات المتحفّظة على صدور مثل هذه التشريعات ذات الصلة بالعدالة الانتقالية من منطلق قناعتها أنها لم تلم بكل مترتبات الأزمات والحروب منذ قيام ثورة سبتمبر 1962م وحتى اليوم. ومع احترامنا لمثل وجهات النظر هذه، فإن الرأي الواقعي لحل هذه الإشكاليات هو اعتماد المعالجات والتعويضات لتبعات الأزمة الراهنة فقط، باعتبار أن الإلمام بكل المشكلات والأزمات وحصر كل أضرارها ورصد التعويضات العادلة لها منذ تلك الفترة الطويلة سوف يطيل أمد البحث عن حلول ناجعة للأزمة الراهنة, بل سيقحمها في تجنّحات وتجاذبات يستحيل – واقعياً – أن نضع لها نهاية حتى وإن تمكّنا من وضع الإطار النظري لحلها. ثالثاً: وهي الخطوة ذات الصلة بتلك القرارات الشجاعة والموفّقة في توقيتها ودلالاتها والتي اتخذها الرئيس عبدربه منصور هادي في إطار معالجة قضايا الأراضي المنهوبة في الجنوب، وعودة المفصولين والمسرّحين من أعمالهم إثر حرب صيف 1994م، بما يعنيه ذلك من إعادتهم إلى وظائفهم المدنية والعسكرية، وتعويضهم التعويض العادل, فضلاً عن إعادة كل الأراضي والممتلكات الخاصة والعامة التي تم الاستحواذ عليها بوسائل غير قانونية وإعادتها إلى أصحابها وعلى نحو يسهم في تغطية بعض أوجه القصور الذي - ربما - يكون قد أغفله مشروع قانون العدالة الانتقالية. لقد أشاعت مثل تلك الخطوات الرئاسية ارتياحاً لدى قطاعات كبيرة؛ وخاصة تلك التي تضرّرت جرّاء الممارسات الخاطئة التي شوّهت المسار الحضاري للوحدة، وأربكت قدرة النظام السياسي وقتها على إدارة مؤسسات دولة الوحدة، فضلاً عن تباطؤ كفاءتها في إدارة التوافق السياسي بين شركاء الوحدة على نحو عمّق من الأزمة وأدّى إلى الحرب. ولا بأس من القول هنا إن بعضاً من القوى تعارض هذه الخطوات من منطلق حسابات أنانية ضيّقة, إلا أنها – في واقع الأمر – لا يمكن أن تنكر أهمية هذه الإجراءات على صعيد تصحيح مسار الوحدة وإعادة الثقة إلى الأطراف جميعها بأهمية وجدية المرحلة في معالجة كافة القضايا العالقة؛ بما في ذلك القضية الجنوبية.
أما بعد.. فإن منظومة الخطوات والإجراءات الحكيمة التي اتخذتها القيادة السياسية والمتعلّقة بإعادة هيكلة الجيش، وقانون العدالة الانتقالية، والقرارات المرتبطة بمعالجة القضايا والمشكلات الجنوبية؛ إنما تعتبر بمثابة التمهيد الحقيقي والفاعل في تنفيذ مضامين المبادرة الخليجية، وقبل ذلك تسهم في إنجاح كل الجهود والمساعي الوطنية الهادفة إلى إعادة تطبيع الأوضاع الداخلية، والخروج باليمن من أسر التحديات القائمة إلى فضاء المستقبل الذي يكفل للوطن الاستقرار والتطوّر. ويبقى – فقط – أن تتضافر جهود كل اليمنيين في التعامل مع استحقاقات الحاضر بكل مسؤولية وأمانة وبمعزل عن الهروب إلى الماضي الذي قرّرنا – أو هكذا يُفترض - أن نرميه خلف ظهورنا ونحن نتّجه صوب المستقبل. رابط المقال على الفيس بوك