وأمام مثلث الرعب يقف مثلث الأمل، الاشتراكي والناصري والبعث جسر الخلاص وخشبة العبور.. فعلى النقيض من جماعات الخطايا لا تقيم هذه الأحزاب في كفن البداوة ولا في قبور المعتقدات البالية والهابطة، وليس لها من الغرائز ومن المخالب والأنياب ما يغري ويساعد على افتراس الأحياء أو النهش في اللحم الميت. هذه أحزاب يسمو فيها العقل على الغريزة وتتعالى عندها الروح على الشهوة. إنها بالفكر تسكن قلب العصر وبالحلم تحلق في سماء المستقبل، والحرية عندها أكمل وأبهى القيم الإنسانية. ولم تولد الأحزاب الثلاثة من أحشاء التخلف ولا تربت في كنف الاستعمار أو رضعت من صديد أثدائه السام.. بل ولدت من رحم الإرادة الوطنية والقومية لمقارعة الاستعمار والأشكال الاجتماعية والسياسية البدائية والرجعية وتحدي التخلف. ولقد أنجزت فيما أنجزت تحرير البلدان العربية من الاستعمار القديم، فطردت جنود الاحتلال البريطاني والفرنسي من كل شبر في الأرض العربية وساهمت في رفع لواء الحرية على مستوى المعمورة ثم ناهضت الاستعمار الجديد وتصدت له بجميع أشكاله، وقد نجحت مرات وأخفقت مرات غير أنها لم تسقط راية المقاومة في أي لحظة. وكانت وحدها التي قاومت الاحتلال الصهيوني لفلسطين ولم تطلب مكافأة على أي نصر بينما تحملت مسئولية كل هزيمة حتى وإن كانت جزءاً من أسبابها قوى عربية تمثل جماعات الخطايا هنا امتداداً لها. ثم إن هذه الأحزاب الثلاثة تبنت قضية التقدم الاقتصادي وأخلصت لها وقطعت فيها أشواطاً ماثلة ومشهودة، كما جعلت مسألة العدالة الاجتماعية هماً رئيسياً وهدفاً أصيلاً من أهدافها. وفي هذا الميدان حققت وأنجزت بما لا يقاس ولا يبارى. ثم كانت الوحدة العربية إحدى محاور نضالها، ولقد نجحت وأخفقت، ولم يحدث الفشل بسبب تفريط أو تقصير منها وإنما بفعل تضافر واستبسال الاستعمار والرجعية العربية، ومع ذلك فلم تكن قضية الوحدة العربية حاضرة في الوعي والضمير العربي مثلما هي اليوم بفضل تلك التجربة وبتأثير نضال هذه القوى الثلاث وبنتائج مابرهنت عليه الأيام والسنوات من أن المؤامرة على الأمة العربية لا تتجزأ، كما أن نضالها ينبغي ألا يتجزأ بالدرجة نفسها، وأن وحدة الآلام والآمال والمصير المشترك لم يكن شعاراً معلقاً في الفراغ أو مرفوعاً على قوائم من الأوهام وإنما كان قائماً على أرض الحقيقة ومسنوداً بقوة التجربة. ولقد يتساءل أحد الناس: وما شأن الحال في اليمن والقوى المؤمل فيها أن تمثل جسر الخلاص بما جرى في العالم العربي أو يجري فيه الآن؟. وقلت قبل قليل إن ما كان شعاراً راسخاً عن وحدة الألم والصبر قد تأكد بالتجارب والحقائق. وأضيف أن هذه الأحزاب الثلاثة التي يعلق عليها الرجاء في هذه اللحظة هي امتدادات بل جزء أصيل من الحركة القومية بينابيعها الثلاثة؛ حزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب والناصرية. وبالترتيب نشأ حزب البعث في سوريا في الأربعينيات على يد اثنين من المدرسين «ميشيل عفلق» و«صلاح البيطار» ثم التحما مع حركة سبقهما إلى إنشائها في لواء الاسكندرونة المغتصب من قبل الإتراك «زكي الارسوزي» وانتشر الحزب على مستويات مختلفة في الوطن العربي، وولدت حركة القوميين العرب بمبادرة طلاب فلسطينيين وشوام في الجامعة الأمريكية في بيروت أثارت حميتهم نكبة اغتصاب فلسطين في 1948م أبرزهم «جورج حبش» و«هاني الهندي» و«محسن إبراهيم» وأقامت الحركة لها فروعاً في بلدان الشام والعراق وفي دول الخليج العربي «الكويت والبحرين خاصة» واليمن والسعودية. ثم جاء جمال عبدالناصر في مصر فارتفع بالعمل القومي من عمل تنظيمي يتمدد بحذر في أوساط المثقفين إلى تيار شعبي جارف عبر الحدود كلها من المحيط إلى الخليج. دخل البعث والقوميون العرب اليمن أواخر الخمسينيات في وقتين متلاحقين، وبالطبع فإن الأحزاب عابرة الحدود لا تدخل البلدان المختلفة في وقت واحد، غير أن هذا لا ينطبق على الناصرية كتيار جارف، اكتسح المنطقة العربية كلها مع انتصار عبدالناصر في حرب السويس. إن الحزب الاشتراكي، للقارئ غير الملم، هو الفرع اليمني لحركة القوميين العرب مع روافد من تنظيمات توحدت في الجنوب سنة 1975 فيما سمي بالتنظيم السياسي الموحد «الجبهة القومية» ثم في وقت لاحق في الشمال في الجبهة الوطنية الديمقراطية، وتمثلت تلك الروافد في فصيل من البعث وتنظيمات ماركسية. وأما الناصريون فهم الناصريون وكذلك البعث. لكن هذه الأحزاب كلها، وكلها دون غيرها هي التي فجرت 26 سبتمبر في الشمال و14 اكتوبر في الجنوب.. وفي الأولى دافعت عن الثورة إلى اندحار الملكيين نهائياً، وفي الثانية خاضت حرب التحرير إلى أن رحل الاستعمار وأُنجز الاستقلال. لا شك أن هناك تفاوتاً في الأدوار قد يجيز أن نسلم معه لأي من الأحزاب الثلاثة أن ينسب إلى نفسه ما يساوي دوره أو ما يزيد عنه أو يقل، فليس في هذا ما يهم الآن، المهم الاعتراف أن القوى التي نهضت بمسئولية قيادة الثورة في الشمال والجنوب باتت بعد حين ممثلة في هذه الأحزاب الثلاثة، وأنها وحدها وليس سواها. والمعنى في هذا التأكيد أن أشخاصاً وجماعات من اليمين قد وجدت طريقها إلى السلطة في الشمال عقب ثورة 26 سبتمبر مباشرة دون أن يكون لها دور ودون أن تتحمل مخاطرة وإنما فتح الباب أمامها بتوسيع الجبهة المناهضة للإمامة التي عادت متوثبة ومندفعة بجحافل القبائل. وأفدح الحقائق أن هذه القوى استولت على أغلب مقاليد السلطة إذ تركتها في أيديها قوى الثورة وذهبت إلى مواقع القتال وإلى ساحات التعبئة والحشد في الحرب الدائرة بين الثورة وأعدائها. لقد انشغلت قوى الثورة بتثبيت الجمهورية وحملت السلاح والقلم والميكرفون وتركت للمتسللين الوظائف والدسائس، وبينما كان هؤلاء يتلقون الرصاص في صدورهم كان أولئك يحفرون الأنفاق إلى غرف الملكيين والعروش الدائمة لهم في الخارج.. ولقد نجحت الدسيسة وهزمت البطولة في 5 نوفمبر 1967، وباتت الثورة بلا مضمون والجمهورية بلا معنى، ثم عزز الانقلابيون ما بدأوه في نوفمبر بالمصالحة مع الملكيين وغدت الثورة ملكية جديدة بدون أسرة حميد الدين. وهكذا فداخلياً نكلت سلطة نوفمبر بقوى الثورة واختارت نهجاً اجتماعياً معادياً لطبقات الشعب الفقيرة ومنحازة للطبقات التي قامت الثورة ضدها، وتولى أباطرة الحرب على الجبهة الملكية مواقع المسئولية ليبطشوا بأبطال الحرب في الصف الجمهوري. وعربياً باتت الجمهورية العربية اليمنية ضمن المعسكر الرجعي وضد الدول التقدمية التي ناصرت الثورة في اليمن.. ودولياً مع المعسكر الاستعماري في وجه المعسكر الاشتراكي. لكن هل يكفي هذا للتوكيد على ضرورة التحام وتوحد قوى الثورة أمام الطوفان الرجعي المرعب؟،قد تستدعي الاجابة حديثاً عن تجربتها في الحكم وحديثاً عن البرنامج الذي تستطيع أن تقدمه بالمستقبل.