لم تكن الأمراض المعدية، مثل شلل الأطفال وداء الكبد والحصبة والسعال الديكي وغيرها بأشد خطراً من داء “الكذب” الذي استفحل أمره واشتد خطره على مستوى الأفراد والجماعات وعلى مستوى البيت والمدرسة والشارع والمعهد والجامعة، ومع هذا الانتشار لجرثومة الكذب، فإذ خطباء المساجد إلا القليلون منهم لم يعطوا لداء الكذب نفس القدر من الأهمية للتلقيح أو التطعيم ضد الأمراض الوبائية المعدية. وإذا وجدنا من يبرّر قول الكذب بين “الصغار” أو الرعاع أو الدهماء بحجة أن ثقافتهم متواضعة جداً وربما كانت ثقافتهم الهابطة هي المنبع الأساس لما ينشأ بينهم من رغبة في ترويج الأكاذيب، فهم يكذبون لاعتقادهم أنهم محرومون من كل ضروريات الحياة وليس أمامهم سوى “الكذب” للحصول على لقمة العيش أو الكسوة أو السكن، وهذه كلها أوهام صنعتها عقول صغيرة فارغة في مجتمع يعيش خارج التغطية يواجه الحرمان، يشعر بالضياع، لا أمل، لا مستقبل ، لا شيئ مضمون أبداً وكأن لسان حالهم يقول: بما التعلل لا أهل ولا وطن. أمثال هؤلاء الذين لا تغيب صور البؤس عن تفكيرهم، لا يجدون مناصاً في أن يكذبوا، بل ويتقبلون الأكاذيب من البعض كما لو كانت تشكّل الأمل الوحيد لهم في أن يخرجوا من كابوس القهر والشعور بالضياع بل أكثر من ذلك فهم يقاومون أية محاولة لأي عقل مستنير أو نفس سوية أو اتجاه مستقيم يريد أن يزيل الغشاوة عن أبصارهم والضلال عن عقولهم، فقد وطدوا حياتهم على الكذب ورسخ في عقولهم أن يربطوا مصيرهم بمصير أولئك الذين اتخذوا من داء الكذب وصفة طبية ناجعة!! ولولا هؤلاء المساكين الواقعين تحت تأثير التغرير بهم ما تحرّكت قوافل هنا وقوافل هناك تندّد ساعة بسعدٍ وتهتف بحياته ساعة أخرى. إذا كان هذا حال أمثال هؤلاء وهذه هي المبررات، فما هي حجج الموظفين في الأجهزة الحكومية وكبار الموظفين وصغارهم في أن يتخذوا من الكذب سلطاناً مسيطراً محل مجمل سلوكياتهم؟. كم هو مؤلم أن تنجب النساء في بلادنا مسئولين يكذبون في كل حركاتهم وسكناتهم وأمهات أخر ينجبن من يصفّق لكل من يكذب ويتحرّى الكذب في كلامه كما لو كان الكذب قد صار من المنجزات التي يجب أن يحتفوا بها. وعندما يتأصّل الكذب في المجتمع، فإن تأثيره يشبه تأثير تلك الجرثومة التي تجعل الإنسان يموت من شدة الضحك، فهي تداعب أعصابه حتى آخر رمق. ويحدّثنا التاريخ أن فرعون لم يصدّق في البداية (إنه إله) لكن أعوانه والمنافقين من حوله، أكدوا له فعلاً أنه (إله) فواتته الجرأة على القول: “أنا ربكم الأعلى” فقال المنافقون من أعوانه: بل أنت أكثر من ذلك! فقال “يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري....”. وها نحن اليوم نعيش عصر الكذّابين بالجملة، حيث لم يقتصر داء الكذب على مسئول هنا أو هناك ولا على زعيم حزب أو قائد كتيبة، بل صار الكذب سلعة رائجة، فالكبار يكذبون وكذلك الصغار، حتى لقد افتقد الناس الإخلاص في التعامل فيما بينهم بسبب غياب الصدق في حياتهم واستبدالهم له بعاهة الكذب أو جرثومة الكذب، أو ما شئت من هذه المسميات، فكأننا نواجه وباءً مكتسحاً ولا نجد له مصلاً ولا لقاحاً، حتى لقد صار داء الكذب أخطر الداءات كلها. فالغالبية من موظفي الدولة يكذبون ولا حرج، وموظفو القطاع الخاص يكذبون أيضاً خصوصاً أولئك الذين يستوردون البضاعات المغشوشة من الصين وتايوان ويستوردون السلع الرخيصة ليضربوا بها الصناعات المحلية دون وازعٍ من وطنية أو دين أو ضمير. بائعو اللحم والسمك والخضروات والفواكه أيضاً يكذبون ويحلفون الأيمان المغلّظة وهم يعلمون أنهم يبيعوننا بضاعة مغشوشة خرجت من مخازن رديئة ومضى على وصولها بلادنا شهور طويلة، فالقانون غائب والضمير أكثر غياباً، فلا عجب أن نبتاع بضاعة مضروبة، منتهية الصلاحية، لا طعم لها ولا نكهة، قد فقدت فائدتها وطُمست معالمها، إذن لابد أن نعلم أن جرثومة الكذب حينما تربّعت فوق رؤوس المسئولين انتزعت منهم الإخلاص للوطن وأودعت “الصدق” زنزانة تحت الأرض لا تدخلها الشمس خوفاً منه على مصالحهم وافتضاح أمرهم، وبسبب غياب الصدق، فإن الكذب صار اليوم هو الذي يحرّك الأسواق والتجارة وهو الذي يحرّك الأحزاب السياسية والجماعات التي تدعي الوطنية وحتى الجماعات الإرهابية عندما لم تجد مبرراً وطنياً أو دينياً يسمح لها بقتل النفس التي حرّمها الله، استعانت بالكذب لتضفي على عدوانها براءة العمل المشروع في الدين والملّة، صار الكذب هو الذي يحرّك العلاقة بين الآباء والأمهات، وبين الطلاب ومعلماتهم أو معلميهم، صار الكذب يُدرّس في الجامعات كأيدويلوجيا لتكريس الغباء والجهل عند بعض المدرّسين الفاشلين لتغطية النقص الذي يجدونه قد حل مكان الكمال في قدراتهم العلمية والتربوية وغيرها، ولولا النقص والقصور في علم المتعلّمين والمفكرين والإعلاميين ما لجأوا إلى الكذب لتغطية نقصهم.. ولولا النقص والقصور في أساتذة الجامعات والمفكّرين وأجهزة الإعلام وأصحاب الصحف والمجلات ما تأخرت اليمن مائة عام على أقل تقدير منذ قيام ثوراتها منذ أكثر من نصف قرن.. فكان لابد للنقص والقصور من تغطية، فلم يجدوا أفضل من “الكذب”.. وهيهات هيهات للكذب أن يصنع حضارة أو يقيم مجداً أو يرفع أمة!! فلولا الكذب ما تأخرت اليمن حقباً أو قروناً، ولولا الكذب ما رُفعت أعلام الانفصال تُطالب بتمزيق اليمن، ولولا الكذب الذي تأصّل في نفوس بعض القيادات اليمنية في الساحات وفي المهجر وممن يرتعون من المال الحرام، ما سمح للهتافات بتمجيد الانفصال وحطاً من قيمة اليمن الموحّد، رحم الله شهداءنا الذين صنعوا فجر 30 نوفمبر وباقة من الزهور العطرة فوق قبورهم وفاتحة الكتاب نردّدها اليوم في ذكرى استشهادهم.