هل ستُصبح العملة الوطنية حطامًا؟ مخاوف من تخطي الدولار حاجز 5010 ريال يمني!    في ذكرى عيد الوحدة.. البرنامج السعودي لإعمال اليمن يضع حجر الأساس لمشروع مستشفى بمحافظة أبين    حدادا على شهيد الريح : 5 أيام في طهران و7 في صنعاء !!    مفاتيح الجنان: أسرار استجابة الدعاء من هدي النبي الكريم    الرئيس رشاد العليمي: الوحدة لدى المليشيات الحوثية مجرد شعار يخفي نزعة التسلط والتفرد بالسلطة والثروة    رئيس إصلاح المهرة: الوحدة منجز تاريخي ومؤتمر الحوار الوطني أنصف القضية الجنوبية    قيادي إصلاحي: الوحدة اليمنية نضال مشرق    الرئيس العليمي يبشر بحلول جذرية لمشكلة الكهرباء    الرئيس العليمي : قواتنا جاهزة لردع اي مغامرة عدائية حوثية    "العدالة تنتصر.. حضرموت تنفذ حكم القصاص في قاتل وتُرسل رسالة قوية للمجرمين"    "دمت تختنق" صرخة أهالي مدينة يهددها مكب النفايات بالموت البطيء!    بطل صغير في عدن: طفل يضرب درسًا في الأمانة ويُكرم من قِبل مدير الأمن!    خبير جودة يختفي بعد بلاغ فساد: الحوثيون يشنون حربًا على المبلغين؟    الونسو: اتالانتا يشكل تهديدا كبيرا    بن عديو: الوحدة تعرضت لسوء الإدارة ولا يعني ذلك القبول بالذهاب نحو المجهول    ما بين تهامة وحضرموت ومسمى الساحل الغربي والشرقي    إيقاد الشعلة في تعز احتفالا بالعيد الوطني 22 مايو المجيد والألعاب النارية تزين سماء المدينة    محمد قحطان.. والانحياز لليمن الكبير    في ذكرى إعلان فك الارتباط.. الانتقالي يؤكد التزامه باستعادة دولة الجنوب (بيان)    أبين.. منتخب الشباب يتعادل مع نادي "الحضن" في معسكره الإعدادي بمدينة لودر    الوزير الزعوري يناقش مع وحدة الإستجابة برئاسة مجلس الوزراء الملف الإنساني    وزير الشؤون الاجتماعية يشيد بعلاقة الشراكة مع اليونيسف في برامج الحماية الإجتماعية    التعادل يسيطر على مباريات افتتاح بطولة أندية الدرجة الثالثة بمحافظة إب    القبض على متهم بابتزاز زوجته بصور وفيديوهات فاضحه في عدن    تراجع أسعار النفط وسط مخاوف من رفع الفائدة الامريكية على الطلب    الامين العام للجامعة العربية يُدين العدوان الإسرائيلي على جنين    لاعب ريال مدريد كروس يعلن الاعتزال بعد يورو 2024    المبعوث الامريكي يبدأ جولة خليجية لدفع مسار العملية السياسية في اليمن مميز    إحصائية حكومية: 12 حالة وفاة ونحو 1000 إصابة بالكوليرا في تعز خلال أشهر    الآنسي يعزي في وفاة الشيخ عبدالمحسن الغزي ويشيد بأدواره العلمية والدعوية والوطنية    الوزير البكري يلتقي رئيس أكاديمية عدن للغوص الحر "عمرو القاسمي"    تناقضات الإخواني "عبدالله النفيسي" تثير سخرية المغردين في الكويت    الحوثي للاخوان: "اي حرب ضدهم هي حرب ضد ابناء غزة"!!!!    مركز الملك سلمان للإغاثة يدشن حملة علاجية مجانية لمرضى القلب بمأرب    "وثيقة".. كيف برر مجلس النواب تجميد مناقشة تقرير اللجنة الخاصة بالمبيدات..؟    تقرير برلماني يكشف عن المخاطر المحتمل وقوعها بسبب تخزين المبيدات وتقييم مختبري الاثر المتبقي وجودة المبيدات    الحوثيون يعبثون بقصر غمدان التاريخي وسط تحذيريات من استهداف الآثار اليمنية القديمة    أين نصيب عدن من 48 مليار دولار قيمة انتاج الملح في العالم    هل يمكن لبن مبارك ان يحدث انفراجة بملف الكهرباء بعدن؟!    قاتلكم الله 7 ترليون في الكهرباء فقط يا "مفترين"    فيديو فاضح لممثلة سورية يشغل مواقع التواصل.. ومحاميها يكشف الحقيقة    يوفنتوس يعود من بعيد ويتعادل بثلاثية امام بولونيا    "ضربة قوية لمنتخب الأرجنتين... استبعاد ديبالا عن كوبا أميركا"    وهم القوة وسراب البقاء    "وثيقة" تكشف عن استخدام مركز الاورام جهاز المعجل الخطي فى المعالجة الإشعاعية بشكل مخالف وتحذر من تاثير ذلك على المرضى    اتحاد الطلبة اليمنيين في ماليزيا يحتفل بالعيد ال 34 للوحدة اليمنية    إيران تعلن رسميا وفاة الرئيس ومرافقيه في حادث تحطم المروحية    وفاة طفلة نتيجة خطأ طبي خلال عملية استئصال اللوزتين    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    كنوز اليمن تحت رحمة اللصوص: الحوثيون ينهبون مقبرة أثرية في ذمار    اليونسكو تزور مدينة تريم ومؤسسة الرناد تستضيفهم في جولة تاريخية وثقافية مثمرة    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد عبدالواسع الأصبحي يتذكر (الحلقة 14)
نشر في الجمهورية يوم 07 - 01 - 2008

لقد كتب الأستاذ المرحوم- محمد عبدالواسع الأصبحي، عن الآخرين في مذكراته أكثر مما كتب عن نفسه، فأبرز رجالاً كان حظهم من البروز أقل مما هم به جديرون، ونوه برجالٍ لا يكادُ أكثر الناس يعرفون عنهم شيئاً.. ومن العدل أن نقرر بأن لكل من يكتبون «المذكراتِ» أو «السيرة الذاتية» الحق في أن يتحدثوا بضمير المتكلم، وإلا لما سميت هذه المؤلفات بالمذكرات ولا بالسير الذاتية، ولكن الميزان في هذا المجال دقيق وحساسٌ، فإذا اختل التوازن هنا، ثقلت كفة «الأنا» أو «الذات» ثقلاً تصبح معه عبئاً باهظاً على التاريخ وعلى القارئ.. وبمقابل ذلك تخف كفة «الهو» أو «الغير» خفة مجحفة بحق التاريخ وبحق القارئ في المعرفة الصحيحة.
ولقد أمسك الأستاذ محمد بالميزان، إمساك الصادق الأمين، الذي تهمهُ أولاً وقبل كل شيء الحقيقة الصادقة، والمصلحة الوطنية، وحق القارئ في الاطلاع على حقائق التاريخ المجردة من عبث الأغراض وتسلط الأهواء، وهذه درجة رفيعة لا يصل إليها إلا القليلون من الخائضين في هذا الميدان من ميادين الكتابة التي تتطلب قدراً عظيماً من النزاهة والإحساس بالآخرين.. وسيجد القارئ الكريم، ما يكفي من الأمثلة التي تبرهن على هذه السوية الرفيعة التي وصل إليها كاتب هذه المذكرات.
كما أن القارئ سيقف أمام بعض الحقائق الإقليمية التي تشمل البحر الأحمر وخاصة في شطره الجنوبي وما جرى على ساحله الشرقي في اليمن وساحله الغربي الذي تقع عليه بعض دول ومناطق شرق أفريقية وما كان يدور في شرق أفريقية من الصراع الاستعماري الذي أدى إلى نشوء دول واختفاء أخرى وهو لا تزال رحاه تدور أمام أعيننا إلى هذا اليوم.. ولن يسع القارئ إلا أن يشعر بالإعجاب إلى حد الدهشة، لما أبرزه الأستاذ محمد عبدالواسع الأصبحي، من أخبار اليمنيين في تغريبتهم الحديثة التي بلغوا بها أصقاع الأرض، وما قابلوه من أهوال تتضعضع أمامها الجبال، ولكنهم قابلوا كل ذلك بصبر عظيم، وجلدٍ لا يذل ولا يهون، وبقدرة على التكيف مع عالم غريب ينكرهم وينكرونه، وينفيهم فيقتحمونه، مما ينبئ عن معدن صلب عريق لهذا الشعب الذي أنجب هؤلاء الرجال، ويبشره بمستقبل زاهر مجيد رغم كل ما يحيط به من مكر الأعداء وقسوة الظروف.. ولو كان لي أن أوجه نداء لهتفت.. نداء.. نداء..: أيها اليمنيون اقرأوا مذكرات المناضل الحر الأستاذ «الخال» محمد عبدالواسع حميد الأصبحي المعافري الحميري اليمني، من هذه المنطلقات، وستجدون فيها طاقة خلاقة قوية، تدفع بالمسيرة إلى الأمام بثقة ماضية وجباه عالية.
دمشق 21-5- 1996م مطهر الإرياني
«الجمهورية» تعيد نشر هذه المذكرات لرجل ساهم بقسط وافر في خدمة الوطن واستذكر ملامح وشواهد من التاريخ المعاصر لليمن والظروف المحيطة بتلك المرحلة وهي مذكرات أحق أن يقرأها هذا الجيل الذي لا يعلم حجم تلك التضحيات وطبيعة الظروف فضلاً عن اتسامها بالأسلوب الأدبي الشيق في رواية الأحداث والأسماء
السيد محمد الوريث
هذه نبذة بسيطة لاتمثل سوى 2% عن هذا الإنسان الذي عرفته،وأود أن يكتب عنه كما قلت أستاذنا المعلمي ،والاستاذ ابراهيم الحضراني ،وآخرون.
هو أديب وشاعر ومناضل شريف جداً جداً ولايمكن أن ينسى اليمنيون أو يجحدوا الدور البطولي الذي قام به منذ قيام الثورة.
إن المعونة الكويتية لليمن سواء المدارس أو المستشفيات أو غيرها كان هو من أسبابها ،فالذي دفع الكويتيين إلى إنشاء هذه المشاريع هو محمد الوريث ،كما قال لي الشهيد العبقري محمد نعمان ابن الاستاذ النعمان
وكان السيد محمد الوريث كالسكرتير الخاص لولي العهد «السيف أحمد»،وكانت صحيفة «صوت اليمن» تتسرب إلى «صنعاء ،الحديدة،ذمار ، وكل المدن اليمنية» ومن ضمنها تعز حيث مقر ولي العهد وكانت تكتب تباعاً ما يجري في قصر ولي العهد،وعندما يستيقظ ولي العهد، كان يجد صوت اليمن تحت فراشه أو تحت سريره..وهذا فعلاً ماكان يحصل..فقد كان الوريث يسرّب «صوت اليمن» إلى مخدع ولي العهد، الذي كان يقوم بسجن كثيرين في القصر،ويشك في كل فرد حتى بالعكفة أو رئيس العكفة إلا بمحمد الوريث فلا..
محمد الوريث هذا كان في بحبوحة ،والسكرتير الخاص لولي العهد وبيده الآلاف ،والخزانة ،ولكنه أبي ..
أبت لي عفتي وأبى بلائي
وأخذي الحمد بالثمن الربيح
أبي والله:
إذا قيل هذا مشربٌ قلت قد أرى
ولكن نفس الحر تحتمل الظما
وما كل برقٍ لاح لي يستفزني
ولا كل أهل الأرض أرضاه منعما
كان يرفض هذه الآلاف في سبيل الحرية ..كان يرى الشعب اليمني والظلم وما يقاسيه من الحكم الكهنوتي، والخرافات التي باسمها يحكم اليمن. باسم الدين،والدين منه براء،فانضم إلى صفوف الأحرار ولكنه كان أذكى من الآخرين،فكل الإخوة الذين جاءووا من عدن،ومن تعز ليطلعوا إلى صنعاء أبى أن يطلع معهم بما فيهم الأستاذ النعمان وغيره ممن اعتقلوا في ذمار،ولكنه بعد إخفاق ثورة 1948م تسلل على طول إلى عدن.
وإن أنسى لا أنسى الأحرار،حين كانت عدن تغلي كالمرجل. كان هناك مجموعة من المساكين المغرر بهم يقفون في صف الإمام والإمامة،ويهتفون بالأحرار مرددين:
«ليسقط الأحرار،وليسقط الدستور» دون وعي منهم ..دهماء،مساكين ،رعاع...
في تلك الفترة اختفى السيد محمد الوريث في عدة منازل أذكر منها على سبيل المثال: منزل المرحوم المناضل الحاج محمد سلام حاجب ،الذي أفنى حياته وماله من أجل القضية اليمنية،وكذا في منزل عبدالله عثمان الموجود حالياً في قريته، وهو في الثمانين من عمره وفي منزل أحمد الكحلاني أيضاً،إلى أن سربوه إلى كينيا،وفي كينيا استقر هناك وتبحبح .
وأترك بقية تاريخه إلى أستاذنا المعلمي.كيف التقى بالإخوة الأحرار؟
وكيف التقى أيضاً بالكويتيين؟وكيف كان قنصلاً فخرياً؟ وكيف أصابه السرطان؟ وكيف عالجه الكويتيون؟ حتى مات أخيراً،وليرحمه الله.
سلاماً أيها الأحرار..سلاماً أيها الأبطال..سلاماً يا من ضحوا بأرواحهم وأنفسهم في سبيل هذا الوطن..سلامٌ عليكم ..دمتم..عشتم شرفاء ومتم شرفاء،وقبرتم شرفاء..تدحرجت رؤوسكم ،ولكنها كانت شاخصة إلى السماء ضارعة إلى الله أن يقيض لهذا الشعب من ينقذه من هؤلاء الظلمة وهؤلاء الكهان.
الشيخ علي محمد الجبلي
كان من ضمن الذين كانوا يحاربون الأحرار في السر،لا في العلانية،ويبذل الآلاف ،ومئات الآلاف من الدولارات والجنيهات في سبيل إخماد أنفاسهم ،وهو يبتسم.
لقد انتهى الآن،وانتهى كل شيء معه،على الرغم من أنه امتص اليمن.
أتذكر ذات يوم في عام 1960م ذهبت إليه مع أعضاء كلية بلقيس كنا ستة ،ذهبنا،وكنت الوحيد الذي يعرفه فلما دخلت عليه قال: بلاش أتبرع بخمسين أو ثلاثين ألف شلن، وسألني هل تبرع علي حسين الوجيه؟ فقلت له: «لم يتبرع لأن هذا من أنصار الإمام » تمويهاً لأني كنت أخاف منه على علي حسين الوجيه..
فقال : بدلاً من أن أدفع خمسين أو ثلاثين ألف كما فعل أمين قاسم الشميري،أو شمسان عون ،سأدفع لكم في كل شهر خمسة آلاف شلن.
فدفع مرة واحدة ،ثم توقف بعدها.هذا هو علي محمد الجبلي.
محمد مصطفى بيومي
ينقذ وهيب باشا
هذه حكاية قصيرة ليس لها علاقة بالمغتربين إلا من ناحية الشهامة والمروءة والتضحية.
عندما احتلت إيطاليا «الفاشستية» اثيوبيا، اندحرت القوات الأثيوبية عام 36.1937م وانسحب الإمبراطور هيلاسلاسي من أديس أبابا بالقطار مروراً بجيبوتي ،وكانت في ميناء جيبوتي سفينة حربية راسية تنتظر الإمبراطور لتنقله مع أفراد حاشيته إلى بريطانيا.
وفي صبيحة ذلك اليوم الذي طلع فيه الإمبراطور هيلاسلاسي إلى السفينة الحربية،وصل إلى جيبوتي بالقطار القائد التركي «وهيب باشا» الذي تطوع مع الاثيوبيين لقتال الايطاليين ،ونزل كما أتذكر في منزل الشيخ المرحوم عبدالقادر بازرعة،ثم استقل قارباً بخارياً إلى السفينة الحربية ليقابل الإمبراطور «هيلا سلاسي» الذي أمره كما قال لنا فيما بعد بوقف القتال ثم الانسحاب ،وموافاته في جيبوتي.
لذلك انتظرت السفينة مايقرب من ساعة،حسب طلب الإمبراطور هيلاسلاسي،لكي يشكر القائد التركي ويودعه.
وعند عودته من السفينة الحربية،نزل ضيفاً على المرحوم الشيخ عبدالقادر بازرعة...فدخلت مكتب بازرعة،وأنا متلهف لكي أشاهد هذا الإنسان الذي سمعت عنه،وهذا القائد البطل ،وظللت أستمع إليه ،وكان يجيد اللغة العربية بطلاقة،وكذا الفرنسية ،وأذكر أن من ضمن ماقاله: «لولا أوامر الإمبراطور هيلاسلاسي بوقف القتال والانسحاب من الجبهة الشرقية،في أوجادين،لصمدت ستة أشهر ولو لاقيت فيها حتفي».
كان وهيب باشا قائد «أجادين» وعرفت فيما بعد أنه تطوع لقتال الإيطاليين في ليبيا جنباً إلى جنب مع عمر المختار،ثم عرفت أنه في عام 1941م كان يقاتل الإيطاليين مع القوات اليونانية مما حدا بإيطاليا لأن تحتج إلى تركيا،ومن ضمن ماجاء في احتجاجها« إننا حيثما اتجهنا،وفي أية جبهة قتال،نلاقي وهيب باشا يحاربنا في الجانب المضاد».
أما دور اليمنيين هنا في قضية وهيب باشا فهي كالتالي:
كانت القنصلية الإيطالية تريد خطف وهيب باشا بأي ثمن وبأي شكل من الأشكال، فحددت المبالغ ،ونشرت الجواسيس لكي يغتنموا أية فرصة كانت ليخطفوه. وكان الجنود الإيطاليون يمرون تباعاً قادمين من إيطاليا على البواخر ثم يستقلون القطارات إلى أثيوبيا عن طريق جيبوتي.
وكان في القنصلية الإيطالية مترجم يمني اسمه عبدالله حسين علي نور على ماأتذكر وكان يجيد الإيطالية قراءةً وكتابةً وكذا الفرنسية،وهو من أبناء برع لواء الحديدة» وحين عرف بما يبيتون للقائد التركي وهيب باشا ،ذهب متخفياً وأخبر رئيس نادي الشبيبة العربية الرجل الشهم والشجاع عبدالكريم حسان الضوراني ،المؤسس الأول لهذا النادي ،والذي ضحى بأحسن وظيفة له،حيث كان مستشاراً لبنك الأندوسويس:وقد خيروه بين إحدى اثنتين،إما النادي أو العمل فاختار النادي،وكان هذا النادي نادياً ثقافياً ورياضياً،إلا أنه كان يُستغل لمقابلة الوالي، ولمناقشة القضايا العربية والدفاع عن العرب.. وكان قد قتل آنذاك غيلة المرحوم عبدالحفيظ الأغبري - على ما أتذكر - وجرح عبدالله صالح العنتري الذي كان يدعى «صالح عبدالله الكويتي» وكذا جرح ثلاثة آخرون، وتوفي اثنان، ولهذه الأسباب أختار النادي واستقال من البنك.
أبلغ عبدالله رئيس النادي بأن هناك مؤامرة لاختطاف وهيب باشا الذي كان بدون حراسة ما عدا بعض الشباب الذين كلفهم عبدالكريم الضوراني، بمرافقته، وإذا بأحد أعضاء النادي الشجعان، واتذكر اسمه محمد مصطفى بيومي، مع شخصين آخرين يستقلون سيارة، عملوا عليها ستائر سوداء إيهاماً بأن في داخلها نساء: إذ كانت العادة هكذا بالنسبة للنساء المحجبات، وكان محمد مصطفى بيومي هو الذين يقود السيارة بنفسه، وفي المؤخرة وهيب باشا، فاتجه بها إلى مدينة زيلع المشهورة التي لاتبعد عن مدينة جيبوتي سوى ثلاثين كيلو متر تقريباً، وكان يحكمها البريطانيون.
نزل وهيب باشا في زيلع ضيفاً على مغترب يمني مشهور بكرمه هو التاجر أحمد مبارك، ثم رحَّله إلى عدن بسفينة بخارية تابعة لشركة «قهوجي» - كما أتذكر -.
هذه حكاية ذكرتها هنا لا لشيء، ولكن لكي أثبت الدور الذي لعبه المغتربون اليمانيون لخدمة وطنهم، وكل ماهو عربي وإسلامي أيضاً.
ويجدر بي في هذا السياق أن أشير إلى اسم ورد آنفاً وهو اسم محمد مصطفى بيومي، الذي كان عضواً بارزاً في نادي الشبيبة العربية في جيبوتي، فمن هو محمد مصطفى بيومي؟
أقول: جاء من مصر شقيقان، ربما خبيران في الموانىء - لست أدري - الأول: علي بيومي.. وسكن في عدن، وأنجب ولدين هما:-
أ- حسن علي بيومي:
الذي كان رئيس وزراء حكومة عدن في نهاية الستينيات.
ب- حسين علي بيومي:-
وكان وزيراً للإعلام، وقد عرفته عن قرب وكان من ضمن البعثة اليمنية التي درست في العراق مع الشهيد محي الدين العنسي.
الثاني: مصطفى بيومي.. وسكن في جيبوتي، وأنجب ولدين أيضاً هما:
أ- محمود مصطفى بيومي: وهو الأصغر.
ب- محمد مصطفى بيومي:
الآنف الذكر، الذي أختطفته يد المنون في عام 1938م.
كتبت هذا لئلا يلتبس على القارىء اسم بيومي.
ومادمت قد ذكرت هذه الحكاية باختصار عن شهامة اليمنيين، في مغتربهم، وكيف كانوا يواكبون القضايا العربية ويتحفزون لما يحدث في الوطن العربي، بالإضافة إلى نضالهم من أجل القضية اليمنية توعية وتثقيفاً وتبرعاً بالمال وتطوعاً، ومادمت قد ذكرت وهيب باشا القائد التركي، وماذا صنع معه اليمنيون في جيبوتي، فلا باس إذاً في أن أتحدَّث عن رجل يمني آخر كان يعيش في فرنسا، إنه عبدالوهاب عبدالملك العريقي.
عبدالوهاب عبدالملك العريقي
في أوائل عام 1973م كنت في زيارة زعيمنا الروحي القاضي عبدالرحمن الإرياني، عندما كان رئيساً للمجلس الجمهوري، في بيته المتواضع في تعز، وقعدت معه كعادتي، وكنت اعتبره كأخ بغض النظر عن رئاسته، وكنت أتكلم عن الاغتراب، وعن اليمنيين، وعن مساهماتهم في القضايا العربية، فإذا به يتذكر، ويقول:
«التقيت شخصاً يمنياً في تونس، حدّثني بإسهاب وارتياح وإكبار وإجلال وإحترام وتقدير للرئيس التونسي الحبيب بورقيبة وأخبرني أنه كان صديقاً للحبيب بورقيبة عندما كان مسجوناً أو مقيماً إقامة جبرية في فرنسا، وكان يلتقيه، وكان، وكان....إلخ».
وعندما نكبته الأيام في فرنسا رحل إلى تونس مع ولديه، فاتصل بالحبيب بورقيبة رئيس الجمهورية التونسية آنذاك، وكتب له مذكرة، أخبره فيها بأنه فلان اليماني الذي كان يراسله ويزوره بين الفينة والفينة كلما سنحت له الفرصة، فقلت له: ما اسم هذا الرجل؟.. فقال لي القاضي: والله لا أتذكر، لقد نسيت الاسم، فقلت له: هل هو «مجدور» قليلاً؟ قال: نعم، فقلت: وهل عيناه سوداوان كبيرتان؟ قال: نعم، فقلت: ألم يكن اسمه عبدالوهاب عبدالملك العريقي؟ قال: أجل هو هو نفسه، قلت: إذاً هذا أعرف قصته.
كنا في عام 53، 1954م عندما كان الحبيب بورقيبة مسجوناً أو مقيماً إقامة جبرية في فرنسا.. وكان عبدالوهاب عبدالملك هناك، وهو رجل تثقف ثقافة ذاتية بالفرنسية، فكان يقرأ كلّ مايكتب عن الحبيب بورقيبة في الصحف، ويقطع منها «الجذاذات» أو القصاصات، ثم يتسلل بواسطة «الكومسيرات» أو ضباط البوليس - وكان صديقاً لهم - ويذهب إلى بورقيبة، ويعطيه تلك القصاصات من الصحف، ثم يرسل له مايمكن أن يرسل من المصاريف، ربما، أو الفواكه أو خلافه، وقد أسر لي ذات يوم أنه يراسل الحبيب بورقيبة، فقلت له آنذاك: انتبه من البوليس أو من المخابرات الفرنسية، ربما لن يغفروا لك، فقال لي: لاتخف، أنا لي أصدقاء من الأحرار الفرنسيين، ويعرفون بورقيبة.
هكذا مرت الأيام، وكان عبدالوهاب عبدالملك العريقي متزوجاً من امرأة فرنسية، وكان يملك مطعماً، وصالونين للحلاقة، فباع الصالون الأول، ثم باع الثاني، وأخيراً باع المطعم وأفلس وماتت زوجته، ولكنه كان عربياً، لا أقول يمنياً فحسب، بل كان عربياً لايود أن يترك أبناءه بغير لغة عربية، فذهب إلى تونس وكتب رسالة أو مذكرة إلى الحبيب بورقيبة، وإذا ببورقيبة يستقبله استقبال الأحبة والأصدقاء، ويعانقه، وسط استغراب الوزراء والحاضرين.
لقد عرفت هذا الرجل عندما كنت في فرنسا، وزادني به القاضي الإرياني معرفة على معرفة.. ولقد كان موقف «أبو رقيبة» منه موقف من لاينسى الجميل إذ كتب له وثيقة بفيلا، وملّكه إياها للسكن، ثم أعطاه طابقاً آخر لكي يعمل منه مطعماً، وهناك عاش في راحة واستقرار، ولست أدري هل مازال يعيش أم أنه قد مات.
هذه نبذة مختصرة عن اليمنيين وشهاماتهم، ومروآتهم ومواكباتهم، وتفاعلهم ليس مع القضايا اليمنية فحسب، بل وحتى القضايا العربية والأفريقية أيضاً.
معاناة المغتربين
لا أستطيع أن أورد ما يعانيه الذين عرفتهم من المغتربين في أوروبا فإن ذلك يحتاج إلى كتاب كبير وضخم جداً، غير أني سوف أورد هنا نبذاً قصيرة مما رأيته هناك من معاناة المغتربين، وبخاصة في القرن الأفريقي، ومن مغتربي القرى اليمنية التي أعرفها، ذلك أن عبدالوهاب عبدالملك العريقي كان هو الوحيد تقريباً الذي يحمل اسمه الصحيح، ففي فرنسا، وفي «مرسيليا» بالذات كنا خمسة بأسمائنا الصحيحة، أما الآخرون فكانوا بأسماء غير أسمائهم حسب ماكانوا يحملون من أوراق وشهادات في البواخر التي يعملون عليها، وقد تحدثت آنفاً عن هذا الموضوع، وقد بقي الأمر كذلك حتى عام 1936م حيث تغيرت القوانين.
إذ قبل ذلك كانت الشهادات التي يحملها المغتربون اليمانيون بدون صور.
الاغتراب بالنسبة لليمنيين يعتبر مأساة من مآسي الإنسانية بيد أن إغترابهم إلى المناطق المجاورة في القرن الأفريقي مثلاً وشرق أفريقيا وأثيوبيا والسودان على الرغم من أنه يشكل مأساة للمغترب ولأسرته، إلا أنه يعد أخفَّ وطأة من اغتراب وقادي السفن الذين يطوفون البحار والمحيطات في الحر المقيت، والصقيع المخيف، والمميت، ربما، وأغلبهم كانوا بأسماء غير أسمائهم، وأجزم بأن حوالي 99% من المغتربين كانوا بغير أسمائهم الحقيقية.
وأغلب هؤلاء البحارة الذين يسافرون، ويجوبون الأقطار والقارات والبحار والمحيطات كانوا غير مثقفين، بل حتى غير مسلحين بالوعي الكافي الذي يستشعر فيه الإنسان أنه خلفَّ أماً وأباً وربما زوجة وأطفالاً.. لذلك تجد البعض منهم يتزوج بأجنبية، سواء فرنسية أو جزائرية، أو مغربية.....إلخ.. ويظل هناك، ثم ينسى كل شيء، وكل ماترك ومن ترك في بلاده، لأنه محدود الفهم وضيق الأفق، وعلى سبيل المثال لا الحصر، أورد هنا قصة بحار كنت قد تعرفت إليه وهو من الحجرية، ومن قبيلة «المقارمة» التي تبعد عنا بحوالي ساعتين ونصف أو ثلاث ساعات مشياً على الأقدام، كان اسمه محمد شمسان المقرمي.. وكنت حين أسأله عن اسمه الصحيح، يقول لي: أنا قائد عبدالله، وهذا اسمه في الأوراق، وذات يوم، وكان قاعداً في قهوة المرحوم محمد الرعدي، وبجانبه المرحوم علي عبدالله الأصبحي واسم الأخير في جواز السفر وغيره «شرف محمد» - متزوج من مغربية في المغرب وله أولاد يدعونهم باسم أولاد شرف محمد، غادر بلاده منذ ثمانية عشر عاماً - وإذا بالأصبحي يقول في مجرى الحديث الذي يدور بينهما: «اسمع يامحمد شمسان» وهنا قلت له: قفشتك!
تخفي اسمك عني؟ فربما أسافر، وألتقي واحداً من أهلك، يسألني عنك! وكان هذا ماقصدت بالفعل، ليس إلا.
وتشاء المصادفة أن يصل إلى فرنسا وإلى «مرسيليا» بالذات الشيخ علي محمد القُحري الجبلي، من «قُحره» - جبل بالقرب من مدينة باجل - كان وكيلاً للإمام،ورجل الأعمال الأول في اليمن.. وصل لشراء باخرة صغيرة فتعارفنا - وكنت أسمع عنه من قبل - فطلب مني بعد التعارف باسبوع أن أقوم بدور المترجم بينه وبين الفرنسيين، وكنت مرتاحاً لهذه الترجمة، وقد عرفت أنه اشترى باخرة بمبلغ خمسين ألف جنيه إسترليني.
وكان عمر الباخرة كما عرفت من الوثائق 41 عاماً: أي أنها باخرة مستعملة وقديمة، فقام بترميمها وطلائها، وسماها الأمام أحمد نفسه (المعين) نسبة إلى حضارة المعينية، وكنت حينها أهم بالسفر إلى اليمن.
فقال لي الشيخ علي الجبلي: ما رأيك يامحمد عبدالواسع أن تسافر معي في هذه الباخرة، وإذا أمكن أن تبحث لي عن بحارة يمنيين يريدون السفر، لكي يوصلوا الباخرة إلى الحديدة، ثم عدن؟ وعندما يصلون إلى عدن، يستمر منهم بالعمل من يريد أن يستمر، على أن أدفع لكل بحار عشرين جنيهاً في الشهر كالبحارة الآخرين الذين بدأوا العمل معي من عدن؟ فاستجبت للفكرة، وبحثت الأمر مع البحارة اليمنيين هناك، فرفضوا جميعاً ماعدا شخص واحد وافق على العرض، أتذكر اسمه صالح علي علاو، من «رداع»، وكان قد ظل مايقرب من عامين بدون عمل، لأنه لم يستطع أن يغير دفتر البحر، وكنت أرثي له كثيراً، وكان دائماً يشكو لي بأنه رهن أغلب أرضه، على أمل أن يعمل ويستعيد تلك الأرض المرهونة.
فقلت له: ياشيخ علي.. كلهم يرفضون ماعدا هذا أي صالح علي علاو أنا لا أطلب منك سوى طلب واحد، وهو أن يظل هذا الشخص يعمل في الباخرة لأنه بحار ماهر.. على أن تنقده بدلاً من عشرين جنيهاً ثلاثين جنيهاً، لأنه كان يتقاضى أكثر من ذلك من البواخر الفرنسية، فأجاب: بأنه سينظر في أجره عند وصوله عدن.
وهكذا أبحرنا من فرنسا حتى وصلنا بعد أربعة أيام إلى ميناء «نابولي» في إيطاليا، وكان ذلك في 18 يوليو 1952م على ما أتذكر فتوقفت الباخرة في ميناء نابولي عشرة أيام بسبب عطل أصابها.
وفي 24 يوليو من الشهر نفسه وصل إلينا من روما الشيخ علي الجبلي يرافقه المرحوم الطيب لطف العسولي الذي كان في مدينة البندقية في دورة تدريبية لكي يعمل في لاسلكي الباخرة، وكان معنا شاب يمني من مواليد جيبوتي يجيد اللغة الفرنسية قراءة وكتابة، كما يجيد العمل في اللاسلكي، الذي ركب في السفينة معنا من مارسيليا، وأتذكر اسمه عبدالله أحمد سعيد العطار، الذي مالبث أن غادر الباخرة بعد وصوله إلى عدن، فابتدرني الجبلي قائلاً: هل سمعتم بثورة مصر، وخلع الملك فاروق؟ فقلت له: بشرك الله بالخير.. بشرى، ومرحى..!
فقال: ولماذا كل هذا الفرح؟
فأجبته في الحال: هذا الذي رفض أن يستقبل أي حر من الأحرار ومنعهم من دخول مصر مجاملة للإمام، وهو الذي رفض نزول المجاهد الكبير الفضيل الورتلاني، الجزائري الذي أفنى حياته في سبيل الحرية، وكان لاجئاً في مصر هروباً من الفرنسيين، ففغر فمه دهشة، واستغراباً: لماذا أقول هذا؟!!
في هذا الأثناء وصل الملك المخلوع في اليخت الملكي سابقاً الذي كان اسمه «المحروسة»، ثم غير الثوار اسمه إلى «الحرية».
المهم أن الباخرة «المعين» أقلعت بعد عشرة أيام بعد أن تم إصلاح العطل في اتجاه مصر الجمهورية المصرية آنذاك وبعد حوالي أربع وعشرين ساعة من إقلاعها توقفت عن السير بسبب عطل جديد وظلت تتلاعب بها الأمواج، غير أن البحر كان هادئاً من حسن الحظ.
وهنا جاء دور ذلك البحار اليمني المنقذ صالح علي علاو.. فقال لي يا أخ محمد.. أنا لست مهندساً غير أني أفهم أين العطب..! إني أعرف عن عطب الباخرة، وسبب توقفها وارتفاع حرارتها، لكن المهندس الإيطالي يأنف أن أريه أين العطب!
فأخذته فوراً إلى قبطان الباخرة الإيطالي وكان يتكلم الفرنسية فقلت له: إن هذا البحار يراهن أنه يعرف من أين عطب السفينة، ولكن المهندس يرفض مشورته والتعاون معه.
كان هذا بعد أن ظللنا نعوم في البحر في جانب جزيرة «ماسينا» كما أتذكر فترة ليست قصيرة، فنزلنا ثلاثتنا إلى محرك السفينة «المكينة»، وإذا بهذا الإنسان البسيط يأخذ المفاتيح ويبدأ العمل، فقد اكتشف بذكائه الفطري وممارسته في أعمال البحار والتنقل في السفن بأن الماسورة التي تشفط المياه من البحر ليمر الماء البارد فوق المكينة فيبردها، قد سدت نتيجة لوجود خرق ومماسح قطنية تراكمت على مرّ الزمن، فسدّت الماسورة ومنعت وصول الماء البارد لكي يبرد المكينة وكن يسميها الفرنسيون «الكلابين»، وكان صالح علي علاو يقول لي.. لكلابين، لكلابين يامحمد ولهذا ارتفعت حرارتها فتوقفت عن السير.
وقد ظل البحار اليمني صالح علي يعارك، ويعارك، والعرق يتصبب منه لفتح تلك الماسورة حتى فتحها، وإذا بنا نشاهد أكداس الأوساخ والشعر، والخرق البالية داخلها.. فأخرجها، ثم ربط الماسورة وأعادها كما كانت، وتنفس الصعداء فرحاً متهللاً وقال: الآن شغلوا السفينة.!
وسارت السفينة إلى بور سعيد، وقعدنا هناك أربعاً وعشرين ساعة، ثم توجهنا إلى الحديدة، وعدن، دون أن يحدث لها أي خلل.
ولا أنسى أن قبطان الباخرة قام في الحال عند بدء سير السفينة باحتضان ذلك البحار اليمني، الذي كان كما قال لي قد رهن معظم أرضه الزراعية ولايستطيع العودة قبل أن يخلصها من الرهن، فابتدرني القبطان وقال: كم يكسب هذا؟ وكان قد احتضنه وبدأ يقبله تقبيلاً حاراً فقلت له: إن الجبلي يريد أن يدفع له عشرين جنيهاً، وقد اشترطت عليه أن يعطيه ثلاثين جنيهاً، وسيبقى للعمل في الباخرة، أما الآخرون فإنهم سيوصلون الباخرة إلى عدن ثم يعودون إلى بلادهم، وهذا البحار أنا مسؤول عنه، وقد كان يعمل في البواخر الفرنسية بأكثر من ذلك.
وإذا بالقبطان ذلك الإنسان الطيب يكتب له شهادة جيدة ويوقعها ثم يطلب من المهندس الذي كان متألماً من الموقف أن يوقع بجانبه في تلك الشهادة، وأردف قائلاً: إذا رفض علي محمد الجبلي أو مكتبه في عدن أن يعطوه أجره كاملاً، فسوف أعطيه من مرتبي عشرة جنيهات كل شهر لكي يكون له ثلاثون جنيهاً.
وهكذا ارتحت لهذا العمل الإنساني النبيل من جانب ذلك القبطان، وتشاء المصادفة أن التقي ذلك البحار عام 1969م في عدن، فاحتضنني وقعدنا أسبوعاً هناك، وبشرني أنه استعاد أرضه المرهونة بعد أن ظل يعمل ثلاث سنوات متواصلة في تلك الباخرة، ثم تركها بعد أن تغير ذلك القبطان الطيب والإنسان، وأن لديه دكاناً صغيراً في مدينة رداع ويعيش مع أسرته وأولاده.
أعود إلى البحار محمد شمسان المقرمي..
في مطلع عام 1953م، وكنت في داري في القرية، وإذا بعمتي تسألني قائلة: يابني: هل تعرف ناساً من الزكيرة، أو المقارمة، أو مايقاربهم مغتربين في البحر؟
فقلت لها: نعم أعرف شخصاً واحداً اسمه محمد شمسان المقرمي.
فهبت فرحة، يغمرها السرور والبهجة، ثم أردفت تقول: ياابني كم أفرحتني، إن بشارتك هذه تساوي الدنيا ومافيها، إن المرأة التي في غرفتي هي زوجته، فدعوتها، وإذا هي امرأة شاحبة يرى المرء فيها عظام صدغيها بارزة، وهي ساهمة حزينة بأسمال بالية، يبدو عليها الخجل، فهمت من حديثها معي أن زوجها غادر القرية منذ سبعة عشر عاماً، ولم تعد تعرف عنه شيئاً سوى أنه في البحر أي في فرنسا انقطعت أخباره، ولم يعد يواصلهم لابرسالة ولابمصاريف، وقبل مغادرته كما قالت لنا كان لنا ولد عمره عامان، وكنت حينها حاملاً في الشهر الخامس، وخلقت لنا بنت، هي الآن تخدم جدها الذي رهن معظم أرضه لكي يعولنا، ولكي يقيتنا، ولكي أساعد هذا الجد بالمصاريف اضطررت أن أحتطب، وأحمل الحطب إلى منزلكم، ولا أعرف منزلاً غيره لأنني قد تعرفت على عمتك في ذلك الحقل القريب منا، وهي تنقدني ريالاً ونصف أو ريالين كل أسبوع عندما أحمل لها الحطب، ثم أجهشت بالبكاء، حتى بكينا رحمة بها.
ولاداعي لأن أقول بأني نقدتها أو.. إلخ فهذا واجب إنساني.. وبعد شهر من هذه الحادثة اتجهت إلى عدن، وأول شيء صنعته أن كتبت رسالة إلى شيخ اليمنيين المرحوم الطيب الذكر محمد بن محمد الرعدي، وكان هو الذي يشغل اليمنيين، وبواسطته يشتغلون في البواخر، حكيت له في رسالتي قصة زوجة محمد شمسان المقرمي، وكان شهماً، فقد أرسل لي بعد شهر من إرسال تلك الرسالة مبلغ ألف شلن وكانت كثيرة آنذاك لإرسالها لعائلة المقرمي.
وبعد ثلاثة أشهر عدت من جديد إلى فرنسا لأعمل بحاراً.. وكان محمد شمسان يسلمني في كل شهرين أو ثلاثة أشهر عشرين جنيهاً لإرسالها لأسرته.. وهكذا استعادت المرأة حيويتها، فزوجت ابنها الذي ما لبث أن تغرب إلى المملكة العربية السعودية، وزوجت ابنتها أيضاً.
هذه لمحة بسيطة عن قصة معاناة زوجة أحد المغتربين، وهي قصة من آلاف القصص المحزنة والمبكية.
إن المآسي الكبيرة، والمعاناة التي يقاسيها المغتربون، وأسرهم من بعدهم تمزق نياط القلوب، والأكثر حزناً وإيلاماً هو معاناة زوجاتهم وأولادهم.
إن المتتبع لمعاناة هؤلاء يحتاج إلى كتب وأسفار، ولا أود هنا أن أسهب، فحسبي أن أكتفي بقصيدة الأستاذ محمد أنعم غالب، وهي من الشعر الحر الرمزي، وهي تمثل أصدق تمثيل الاغتراب والتشرد والضياع، وكأنها صورة زيتية للمآسي التي يعيشها المغتربون اليمنيون وأسرهم، ولقد اقترح علي مفخرة اليمن والعالم الجليل مطهر بن علي الإرياني أن أسجلها في هذا الكتاب، مع أنه في قصيدته «الباله» التي غناها الفنان علي السِّمه يصور مأساة المغترب اليمني أيضاً، ولكنه اقترح وأصر أن أكتب قصيدتي الأستاذ محمد أنعم غالب «الغريب» و«الطريق» وقد سبق أن أوردت قصيدة «الغريب» في فصل سابق.
ولا أنسى أيضاً أن الشاعر محمد الشرفي قد كتب قصيدة رائعة، عندما كان وزيراً مفوضاً في أثيوبيا، صور فيها معاناة المغتربين اليمنيين وعنوانها «مغترب على بوابة أثيوبيا».
وأذكر على سبيل المثال..
عندما كنت سفيراً في الصين، أقمت حفلة عشاء غير رسمي عام 1968م، وكان مع الوفد صحفية فلسطينية، فاقترح عليّ بعض الإخوة من اليمنيين، والفلسطينيين المقيمين في الصين أن أنشد الإخوة الحضور قصيدة أنعم غالب التي قالها عام 1958م. وعنوانها «الطريق».
ولم أكد أكمل القصيدة حتي اغرورقت عيناي بالدموع- كدأبي دوماً- وإذا بي أفاجأ بأن الفتاة الفلسطينية تجهش بالبكاء أكثر مني. أما أنا فدأبي كلما أنشدت قصيدة تصور الأسى والحزن والمعاناة أن تغرورق عيناي بالدموع، ربما نتيجة المعاناة في الماضي، ومن يدري فمازلت أعاني ولكن بحزن الماضي، وقد شاهدني كثير من الأصدقاء.
«حزني غناي فلو فرقته هبة
على النفوس لأثرت أنفس الناس»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.