وفاة طفلين ووالدتهما بتهدم منزل شعبي في إحدى قرى محافظة ذمار    رئيس الاتحاد العام للكونغ فو يؤكد ... واجب الشركات والمؤسسات الوطنية ضروري لدعم الشباب والرياضة    بعد أيام فقط من غرق أربع فتيات .. وفاة طفل غرقا بأحد الآبار اليدوية في مفرق حبيش بمحافظة إب    أمطار رعدية على عدد من المحافظات اليمنية.. وتحذيرات من الصواعق    إعلان حوثي رسمي عن عملية عسكرية في مارب.. عقب إسقاط طائرة أمريكية    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن بقوة السلاح.. ومواطنون يتصدون لحملة سطو مماثلة    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    تهريب 73 مليون ريال سعودي عبر طيران اليمنية إلى مدينة جدة السعودية    تدشيين بازار تسويقي لمنتجات معيلات الأسر ضمن برنامج "استلحاق تعليم الفتاة"0    شاب يمني يساعد على دعم عملية السلام في السودان    الليغا ... برشلونة يقترب من حسم الوصافة    أعظم صيغ الصلاة على النبي يوم الجمعة وليلتها.. كررها 500 مرة تكن من السعداء    خلية حوثية إرهابية في قفص الاتهام في عدن.    "هل تصبح مصر وجهة صعبة المنال لليمنيين؟ ارتفاع أسعار موافقات الدخول"    الخليج يُقارع الاتحاد ويخطف نقطة ثمينة في الدوري السعودي!    "عبدالملك الحوثي هبة آلهية لليمن"..."الحوثيون يثيرون غضب الطلاب في جامعة إب"    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    مبابي عرض تمثاله الشمعي في باريس    مأرب تحدد مهلة 72 ساعة لإغلاق محطات الغاز غير القانونية    عودة الثنائي الذهبي: كانتي ومبابي يقودان فرنسا لحصد لقب يورو 2024    لحج.. محكمة الحوطة الابتدائية تبدأ جلسات محاكمة المتهمين بقتل الشيخ محسن الرشيدي ورفاقه    اللجنة العليا للاختبارات بوزارة التربية تناقش إجراءات الاعداد والتهيئة لاختبارات شهادة الثانوية العامة    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن في محافظة إب    لا صافرة بعد الأذان: أوامر ملكية سعودية تُنظم مباريات كرة القدم وفقاً لأوقات الصلاة    العليمي يؤكد موقف اليمن بشأن القضية الفلسطينية ويحذر من الخطر الإيراني على المنطقة مميز    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا لكرة القدم للمرة ال15 في تاريخه    انكماش اقتصاد اليابان في الربع الأول من العام الجاري 2024    النقد الدولي: الذكاء الاصطناعي يضرب سوق العمل وسيؤثر على 60 % من الوظائف    تحذيرات أُممية من مخاطر الأعاصير في خليج عدن والبحر العربي خلال الأيام القادمة مميز    رئيس مجلس القيادة يدعو القادة العرب الى التصدي لمشروع استهداف الدولة الوطنية    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    وعود الهلآّس بن مبارك ستلحق بصيف بن دغر البارد إن لم يقرنها بالعمل الجاد    600 ألف دولار تسرق يوميا من وقود كهرباء عدن تساوي = 220 مليون سنويا(وثائق)    انطلاق أسبوع النزال لبطولة "أبوظبي إكستريم" (ADXC 4) في باريس    تغاريد حرة.. عن الانتظار الذي يستنزف الروح    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن في محافظة إب    المملكة المتحدة تعلن عن تعزيز تمويل المساعدات الغذائية لليمن    وفاة طفل غرقا في إب بعد يومين من وفاة أربع فتيات بحادثة مماثلة    سرّ السعادة الأبدية: مفتاح الجنة بانتظارك في 30 ثانية فقط!    نهاية مأساوية لطبيبة سعودية بعد مناوبة في عملها لمدة 24 ساعة (الاسم والصور)    ظلام دامس يلف عدن: مشروع الكهرباء التجارية يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت وطأة الأزمة!    600 ألف فلسطيني نزحوا من رفح منذ تكثيف الهجوم الإسرائيلي    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    استقرار اسعار الذهب مع ترقب بيانات التضخم الأميركية    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 35 ألفا و233 منذ 7 أكتوبر    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    وداعاً للمعاصي! خطوات سهلة وبسيطة تُقربك من الله.    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد عبدالواسع الأصبحي يتذكر.. الحلقة17
نشر في الجمهورية يوم 11 - 01 - 2008

لقد كتب الأستاذ المرحوم- محمد عبدالواسع الأصبحي، عن الآخرين في مذكراته أكثر مما كتب عن نفسه، فأبرز رجالاً كان حظهم من البروز أقل مما هم به جديرون، ونوه برجالٍ لا يكادُ أكثر الناس يعرفون عنهم شيئاً.. ومن العدل أن نقرر بأن لكل من يكتبون «المذكراتِ» أو «السيرة الذاتية» الحق في أن يتحدثوا بضمير المتكلم، وإلا لما سميت هذه المؤلفات بالمذكرات ولا بالسير الذاتية، ولكن الميزان في هذا المجال دقيق وحساسٌ، فإذا اختل التوازن هنا، ثقلت كفة «الأنا» أو «الذات» ثقلاً تصبح معه عبئاً باهظاً على التاريخ وعلى القارئ.. وبمقابل ذلك تخف كفة «الهو» أو «الغير» خفة مجحفة بحق التاريخ وبحق القارئ في المعرفة الصحيحة.
ولقد أمسك الأستاذ محمد بالميزان، إمساك الصادق الأمين، الذي تهمهُ أولاً وقبل كل شيء الحقيقة الصادقة، والمصلحة الوطنية، وحق القارئ في الاطلاع على حقائق التاريخ المجردة من عبث الأغراض وتسلط الأهواء، وهذه درجة رفيعة لا يصل إليها إلا القليلون من الخائضين في هذا الميدان من ميادين الكتابة التي تتطلب قدراً عظيماً من النزاهة والإحساس بالآخرين.. وسيجد القارئ الكريم، ما يكفي من الأمثلة التي تبرهن على هذه السوية الرفيعة التي وصل إليها كاتب هذه المذكرات.
كما أن القارئ سيقف أمام بعض الحقائق الإقليمية التي تشمل البحر الأحمر وخاصة في شطره الجنوبي وما جرى على ساحله الشرقي في اليمن وساحله الغربي الذي تقع عليه بعض دول ومناطق شرق أفريقية وما كان يدور في شرق أفريقية من الصراع الاستعماري الذي أدى إلى نشوء دول واختفاء أخرى وهو لا تزال رحاه تدور أمام أعيننا إلى هذا اليوم.. ولن يسع القارئ إلا أن يشعر بالإعجاب إلى حد الدهشة، لما أبرزه الأستاذ محمد عبدالواسع الأصبحي، من أخبار اليمنيين في تغريبتهم الحديثة التي بلغوا بها أصقاع الأرض، وما قابلوه من أهوال تتضعضع أمامها الجبال، ولكنهم قابلوا كل ذلك بصبر عظيم، وجلدٍ لا يذل ولا يهون، وبقدرة على التكيف مع عالم غريب ينكرهم وينكرونه، وينفيهم فيقتحمونه، مما ينبئ عن معدن صلب عريق لهذا الشعب الذي أنجب هؤلاء الرجال، ويبشره بمستقبل زاهر مجيد رغم كل ما يحيط به من مكر الأعداء وقسوة الظروف.. ولو كان لي أن أوجه نداء لهتفت.. نداء.. نداء..: أيها اليمنيون اقرأوا مذكرات المناضل الحر الأستاذ «الخال» محمد عبدالواسع حميد الأصبحي المعافري الحميري اليمني، من هذه المنطلقات، وستجدون فيها طاقة خلاقة قوية، تدفع بالمسيرة إلى الأمام بثقة ماضية وجباه عالية.
دمشق 21-5- 1996م مطهر الإرياني
«الجمهورية» تعيد نشر هذه المذكرات لرجل ساهم بقسط وافر في خدمة الوطن واستذكر ملامح وشواهد من التاريخ المعاصر لليمن والظروف المحيطة بتلك المرحلة وهي مذكرات أحق أن يقرأها هذا الجيل الذي لا يعلم حجم تلك التضحيات وطبيعة الظروف فضلاً عن اتسامها بالأسلوب الأدبي الشيق في رواية الأحداث والأسماء
تاريخ ومقارنة
كنت قد أشرت في الصفحات السابقة إلى الحادثة التي جرت لأستاذنا الزبيري مع الرجلين اللذين حاولا اغتياله، ثم استغفرا عما كانا ينويانه.. الخ، وقد أضفت قائلاً: إن الزبيري اطمأن إلى ما حدث، فلم يحذر، لأنه كان حسن الظن بالناس وهنا أتذكر قصة تاريخية ومعاصرة، مع اختلاف الحادثتين ومكانهما.
فقد حدثت الأولى «القديمة» في الصين، والأخرى «الحديثة» في اليمن.
لكن الإنسان هو سواء كان فاضلاً أم شريراً، والصراع بين الخير والشر منذ القدم، فلا غرو أن تتشابه القصتان.. وسأورد هنا القصة «القديمة» التي حدثت في الصين، والتي تعتبر عبرة من العبر.
أبو الصين.. سان يان سن
قام «سان يان سن» بست عشرة ثورة في الصين ضد الاقطاع والعبودية والاستبداد، ولم ييأس. كان يقول كلما أخفق في ثورة ما الإخفاق الأول.. الإخفاق الخامس، السادس.. وهكذا.
لم بتسرب اليأس إلى نفسه.. هرب إلى بريطانيا، وساعده الأطباء والمثقفون، ثم عاد إلى الصين ليقود الثورة العاشرة فأخفق أيضاً ثم فر إلى الولايات المتحدة، حيث لم يعدم من وجود أحرار شرفاء يبغضون الطغيان والاستبداد فساعدوه، وهكذا.
والحكاية التي أود أن أسجلها هنا للمقارنة هي:
هل تسمح لي أن أقتلك؟
قبل أن أسرد هذه الحادثة، أود أن أقول بأن أي مثقف مهما كان، ومن أي شعب من الشعوب في العالم المتحضر، حين يقرأ تاريخ الشعب الصيني يجد أن هذا الشعب لا يماثله أي شعب في العالم من حيث العبودية والإقطاع.. إلى درجة قد يعتبرها أي قارئ أنه نوع من الخيال، مع أنه من أعرق الشعوب في العالم وحضارته من أقدم الحضارات بيد أن الظلم الاجتماعي والإقطاعي وبالتالي الاستعمار أدى به إلى الدرك الذي صار إليه.
كان الدكتور «سن يان سن» عائداً من الولايات المتحدة متخفياً في باخرة تقلّه إلى بريطانيا، ومنها يتسلل إلى الشواطئ الصينية حيث سيلتقي زملاءه قادة الثورة المزمع تنفيذها.
علم به أحد المكلفين من الإمبراطور الصيني باغتياله، فتبعه واستقل تلك الباخرة، وقد حدثته نفسه أنه ربما يجد غرة لاغتيال الدكتور سن يان سن، وفيما كانت السفينة تمخر عباب المحيط، حاول ذلك المكلف باغتياله فلم يوفق، لأن الأول كان يأخذ جانب الحيطة والحذر.. فلم يسع ذلك الصيني المرتزق المكلف باغتياله إلا أن يقف أمامه في مائدة الطعام، ويقول له: «هل تسمح لي أن أقتلك»؟ هكذا ببساطة وحقد وربما بسذاجة، فابتسم الدكتور سن «أبو الصين»، وطلب منه الجلوس بجانبه ثم سأله ببرود.. أحقاً تريد قتلي.؟
ثم انهال عليه بالأسئلة: هل تعرفني من قبل؟ هل بيننا عداوة؟ هل قتلت أحداً من أسرتك؟ وهل؟ وهل؟ الخ.
فأجاب ذلك المرتزق بالنفي: لا..لا.. ولكن ياسيدي إن الإمبراطور يكرهك، ويعتبرك عدوه رقم واحد.. وقد كلف الكثير من الأشخاص بملاحقتك واغتيالك أينما تكون.. وأنا ياسيدي قد كلفني «السيد» الذي أعمل في أرضه أنا وزوجتي وأولادي «السيد الإقطاعي مالك الأرض المزروعة» وسيدي هو من جملة آلاف الأسياد الذين يملكون الأرض، وقد وعدني بأن يعطيني مبلغاً من المال أستعيد به أرضي، لكي أفلحها لي ولأولادي، وأنا يا سيدي الدكتور رجل فقير، سوف انتفع بهذا المال، وينتفع به أولادي.. أما أنت فإنك سوف تقتل إن لم يكن بيدي فبأيدي الآخرين.. فأنت مقتول لا محالة!! لما لا أكون أنا الذي أقتلك لكي أفوز بهذا المال لأحرر به نفسي وأولادي؟
وهنا قام الدكتور سن يان سن، وربت على كتف ذلك الفلاح الصيني، وألقى عليه محاضرة قيمة ظلت تشغل بال الأدباء، والشعراء الصينيين أكثر من نصف قرن.. بالرغم من قصرها.
قال الدكتور: «أتدري يا هذا لماذا يكرهني الإمبراطور»؟ قال: لا ثم هل أنت متأكد أنك لو قتلتني سوف يسلمك السيد تلك المبالغ التي وعدك بها؟ ثم هل تعلم بأن الملايين من الفلاحين أمثالك مستعبدون؟ وأنه إذا حررك أنت من هذه العبودية فلن يتحرر الآخرون؟ إنك لن تكسب شيئاً.. سوف تلطخ يديك بدم من كان يريد أن يحررك كم، وهو يريد استعبادكم!! ثم هل سمعت بأن عدة ثورات قد قامت في الصين وأخفقت؟ فأجاب ذلك المسكين: نعم سمعت بأن تمرداً قام عدة مرات ضد الإمبراطور للإطاحة به، ولكنها أخفقت.
وقد ختم الدكتور سن يان سن حديثه قائلاً: إني وزملائي الأحرار كنا وراء تلك الثورات المخفقة، وما زلنا نسعى للإطاحة بعرشه وبقية السادة الذين يستعبدون الشعب الصيني العريق.
وأمام هذا الحديث المبسط، ركع ذلك الفلاح، وجثا على ركبتيه مستغفراً، وتائباً ثم انصرف إلى مخدعه في الباخرة التي كانت تمخر عباب المحيط.
وفي اليوم التالي، وبينما كان أحد الخدم الذين يقومون بتنظيف غرف ركاب الباخرة، ينظف غرفة ذلك الصيني المرتزق، رأى على الطاولة ورقة مكتوبة باللغة الصينية، فخرج مذعوراً يفتش عن ساكن تلك الغرفة فلم يعثر علىه، فذهب إلى الدكتور سن يان سن وسلمه تلك الورقة، فلما قرأها الدكتور امتقع لونه، وأصابه الذعر، وظهر على وجهه الأسى والحزن ثم التفت إلى خادم الغرفة، وهو يحبس دمعتين بين عينيه الحزينتين وقال له: «مسكين.. لقد انتهى كل شيء، لقد قرر إنهاء حياته بنفسه، فقد خرج ذلك البائس إلى سطح الباخرة ليلاً، وهوى بجسمه النحيل إلى أعماق البحر، تتقاذفه الأمواج، وتتسابق إليه الأسماك.»
كان قد كتب في تلك الورقة: ليعذرني القارئ إن أخطأت فلم أعد أتذكر من الرسالة سوى أقلها ما معناه:
«عفواً أيها القديس العظيم.. اغفر لي أيها القديس ما كنت أنويه من سلب حياتك، فبقاء حياتك هو بقاءٌ للملايين الصينيين الواقعين تحت السياط والاستعباد. والكوابيس المزعجة المقلقة.
أيها القديس العظيم: أوصيك بأولادي عندما تقضون على الطغيان وسالبي حرية البشر وحياتهم.. لم أجد ما أكفر به حيالك سوى أن أضع نهاية لحياتي، وسوف ألقى بنفسي في خصم هذا البحر الهائج، وداعاً أيها القديس».
كان ذلك مضمون الرسالة.. وقد جئت بهذه النبذة من التاريخ المعاصر، لأضرب مثلاً للقارئ اليمني والعربي بأن الذي حدث في «أرحب» للأستاذ الزبيري لا استيعده.. فأولئك يمنيان مسلمان، وهذا صيني بوذي، وأحرى بالمسلم أن يكون أكثر إنسانية، ولكنهم مع ذلك بشر، فالإنسان هو الإنسان، تردعه أخلاقه وقيمه عن ارتكاب الجريمة وفعل الشر، والشرير إذا فعل الخير قد يتعذب لأنه صنع عكس طبعه أو عكس أخلاقه، ولهذا فإن المتآمرين على الزبيري وجدوا مرتزقة آخرين نفذوا جريمتهم دون رادع.
وليعذرني القارئ إذا كنت سأعرج هنا على خاتمة ذلك الإنسان العظيم الدكتور سن يان سن «أبو الصين» فقد نجح في القضاء على الإمبراطورية الصينية.. وكانت السنون الطوال والتجوال في الأقطار بين الشرق والغرب قد أثقلت جسده الذواي.. وقبل وفاته استدعى «ماوتسي تونج»، «وليو تشاو تشي» الذي أصبح أول رئيس لجمهورية الصين الشعبية عام 1949م، و«شوان لاي» وهو من الجانب الماركسي الشيوعي ومن الجانب الثاني حزب «الكومانتاج» وعلى رأسهم الجنرال «شان كاي شيك».
وبعد موت الدكتور العظيم «أبو الصين» اختلفوا من بعده، ثم قامت الحرب العالمية الثانية، وفي عام 48-1949م، هزم شان كاي شيك وظلَّ في جزيرة «فورموزا»- وهي تايوان حالياً-.
وبالمناسبة كنت قبل هذا التاريخ أقرأ عن الصين، وعن زوجة الدكتور «سن يان سن»، وأن زوجته، كانوا يلقبونها بفاتنة الصين.
لقد كانت قراءتي لهذا الموضوع قراءة عابرة، لم أعرها انتباهاً، بيد أني عندما عُينت سفيراً لليمن لدى جمهورية الصين الشعبية في نهاية عام 1966م وأوائل 1967م، إّبان الثورة الثقافية، وكان رئيس الجمهورية آنذاك الداهية الكبرى «ليو تشاو تشي» محصوراً في منزله.. الخ.
وكان نائب رئيس الجمهورية هي أرملة الزعيم الراحل الدكتور سن يان سن.
ورغم أنها لم تكن شيوعية إلا أن الزعماء الصينيين عينوها نائباً للرئيس تكريماً، وتقديراً للدور البطولي الذي قام به زوجها «أبو الصين».
وعندما ذهبت إلى هناك، قدمت أوراق اعتمادي إلى «فاتنة الصين» التي كنت قد قرأت عنها، وإن المرء ليذهل، ويَشْدَهُ عندما ينظر إلى هذه الفاتنة.. أنا أو غيري ممن قابلها لا يعطيها من العمر أكثر من أربعين عاماً.. رغم أنها آنذاك كانت قد تجاوزت الستين عاماً، ومن المفارقات العجيبة أن شقيقتها زوجة «شان كاي شيك».
بقد أوردت هذه القصة التاريخية عن ذلك الصيني الذي لم يكتف بالركوع والاستغفار لأبي الصين، بل صمم على أن يختم حياته بالانتحار غرقاً.
ولم لا تكون قصة الرجلين الأرحبيين مع الأستاذ الزبيري صحيحة، ولكن الزبيري رحمه الله، كان يحسنُ الظنَّ بالناس على الإطلاق، فيجعل الحالة النادرة قاعدة عامة.
اليمن في محنة
عام 1966م.. لا أعادها الله على اليمن، ولا على اليمنيين، ولا على أي شعب من الشعوب، ليس أدري ما الذي حدث آنذاك للسياسة المصرية، فأنا حتى هذه اللحظة أبرئ الرئيس جمال عبدالناصر، ولا أبرئ المخابرات المصرية والقادة المصريين وأولهم عبدالمحسن كامل مرتجي، وطلعت حسن وعبدالقادر حسن، ومن لف لفهم، ومن ورائهم أولاً كان أنور السادات وأخيراً المشير عبدالحكيم عامر، فقد راحوا يتدخلون، في الحكم، وحتى في السجون أيضاً.. لا أعاد الله تلك الأيام، كنا نعيش عهد إرهاب، وتالله.. رغم أنني عانيت، وعانى الأحرار أكثر مني فإننا لم نخف، ولم نعانِ، ولم ترتجف أجسامنا وقلوبنا خوفاً ورهبة وهلعاً حتى في أيام الإمام، كما في تلك الأيام السود.. حدث ماحدث في الاعتصام للفريق حسن العمري، والقاضي عبدالرحمن الإرياني، ومحمد علي عثمان، كل الحكومة بما فيهم رؤساء الأركان وكبار الضباط اعتصموا في العرضي ثم كان اللقاء الأخير في مجلس الوزراء بالقصر الجمهوري.
وقد ذهب جميع من كان في الاعتصام في العرضي وجهاء اليمن وساسته، ومفكروه إلى مصر ماعدا محمد علي عثمان، وذلك لمقابلة الرئيس جمال عبدالناصر، والقصة كلها معروفة، فقد سجنوا جميعاً في السجن الحربي «في مصر»، وربما كان وراء كل ذلك المشير عبدالحكيم عامر، ولكن الذي كان صريحاً ومواجهاً لهم هو وزير الحربية آنذاك «الرائد شمس بدران» صنيعة عبدالحكيم عامر.
وهكذا لم يبق خارج السجن سوى القاضي عبدالرحمن الإرياني.
ولكن لم يسمح له بالخروج من مصر، فقد ألزم بإقامة جبرية.
وفي ذلك الوقت أيضاً راحوا يعتقلون الأبطال والأحرار في اليمن في سجن الرادع، والقلعة وتعز والحديدة وإب، وغيرها من مدن الجمهورية.
وأذكر على سبيل المثال: القاضي الفاضل عبدالله الشماحي أدخل إلى السجن، والأستاذ الكبير الشاعر الذي نذر نفسه للقضية والذي أعدم أبوه، عبدالله عبدالوهاب نعمان اعتقل أيضاً، وأخذت سيارته.. ثم جيء من تعز بالعميد محمد عبدالولي نعمان وبجانبه الشاعر والأديب الكبير علي بن علي صبره، وعبدالملك الأصبحي.
وقد زرتهم خفية، وهم وتالله حتى يومنا هذا لايعرفون بأني كنت أشد معاناة منهم.. كنت أزورهم باسم وكيل وزارة الصحة، وباسم الهلال الأحمر اليمني، وكنت أرتعش خوفاً ووجلاً، أنا لايهمني السجن، ولا أن أقتل، كنت أخشى أن أهان، هذا كان كل همي.
وجاءت الليلة.. جاء اليوم الأسود.. جاء اليوم الأغبر..
جاء اليوم الأسود الذي تغيرت فيه الأمور وضاعت القيم، وأضيف إلى حزني أحزان وإلى جرحي جراح؛ فبالأمس القريب فقدت وفقد الوطن الشهيد علي الأحمدي، ثم تلاه أستاذنا الكبير الزبيري، واليوم أفقد مناضلاً ثالثاً، إنه العميد محمد الرعيني.
إعدام الشهيد محمد الرعيني
كنت في ذلك اليوم المشؤوم بمنزل الدكتور سعيد الشيباني ومعنا الدكتور عبدالله الحريبي، وأحمد ثابت وفتح الأسودي ويحيى الأخفش، إذا بنا نفاجأ بصوت المذيع ويالهول ماسمعنا «إعدام الخائن محمد الرعيني» الذي تعاون مع أمريكا وإسرائيل؛ إعدام فلان.. إعدام.
فأجهشت بالبكاء أمام الإخوان، وكنت أشهق، وظللت أبكي، وأبكي.. وهنا تذكرت قول الشاعر الأردني الرفاعي في قوله:
لا أمسح الدمع السخين لراحل
إلا لأذرف دمعة للتالي
حتى غدوت لطول مانظم الأسى
أبكي على النبأ المروعِ حالي
المهم أني لا أستطيع أن أصف حالتي في تلك اللحظات، ولقد خشيت أن أصاب بالانهيار؛ وكنت أحدث نفسي قائلاً: أيقتل العميد محمد الرعيني وبهذه البساطة، ثم بتهمة الخيانة؟ فليقتل محمد الرعيني أو محمد عبدالواسع، ولكني بتهمة الخيانة؟ كلا وكلا؛ لقد تعرفت على ذلك الإنسان عام 1952م وأنا قادم من فرنسا على متن الباخرة «معين» وذلك في الحديدة، ثم ساقني سوء طالعي إلى أن التقيه عام 1961م في سجن الحديدة مع الزملاء الشيخ أمين عبدالواسع نعمان وحسين المقدمي ويوسف هبه ومحمد الكاظمي.. والحديث عنه في تلك الفترة العصيبة يحتاج مني إلى صفحات؛ ثم التقيته بعد الثورة في الحديدة برفقة زميل الغربة علي محسن الزرقة، ثم.. وزيراً للداخلية وكان رحمه الله لايملك أي شيء، وأنا أتحدى من قال أن لديه رصيداً في أي بنك من البنوك المحلية أو الأجنبية.. هكذا وبهذه البساطة يعذب ويقتل.. ومن هو وراء هذا كله..؟
لم نتهم آنذاك الحاكم اليمني ولا المدعي العام، فهما مسكينان لا حول لهما ولاقوة.. اتهمنا ضباطاً مصريين كانوا يعملون ضد اليمن، وضد الشرفاء وضد الرئيس جمال عبدالناصر.. هكذا كان.
كنت حينها أرتعش من الخوف في أثناء زيارتي لكل من عبدالملك الأصبحي وعلي بن علي صبره، والعميد محمد عبدالولي.. هم لايعرفون ماذا كنت أعاني، لم يشعروا إلا وأنا في الصين.. لماذا؟ وكيف ذهبت؟
كنت سفيراً في الصين
ذات ليلة.. ليلة جميلة جداً، والسماء صافية، والنجوم مضيئة، كنا في حفلة في السفارة الأمريكية بصنعاء، وإذا بي انتحي جانباً بالزميل الطيب الذكر، والذي لم ولن أنساه محمد عبدالعزيز سلام الذي كان وزيراً للخارجية آنذاك.. قلت له:
يا أخ محمد.. نحن تعارفنا عندما جئت إلى عدن هارباً من الطغيان وأنا في الشيخ عثمان في كلية بلقيس، والآن كما ترى نحن أصدقاء.. ألا تستطيع أن تعينني في الخارج؟! وأنت وزير خارجية.. أو تقدم اسمي مثلاً للمشير عبدالله السلال قنصلاً أو وزيراً مفوضاً أو سكرتيراً، أو أية وظيفة أخرى، المهم في الخارج؟ قال: ألست مرتاحاً هنا؟؟
قلت له: أية راحة تراني فيها؟ أقعد في فندق صنعاء.. لم أجد حتى تذاكر السفر أو سيارة لتأتي بأهلي إلى صنعاء.. أنا مازلت كأني عزباً أنت لاتدري كيف أعاني، وكم وكم أقاسي!!
فقال لي: أنت أكبر من أن تكون سكرتيراً أو قنصلاً.. أنت سفير، ولكن لم يبق معنا إلا الصين!!
قلت له: الصين أو ماوراء الصين، أو حتى الهملايا أو التبت، المهم، والله، أنه لم يقصر، فقد رشحني، فقلت له: أكتم هذا السر خوفاً من وزير الصحة «الواسعي» أن يعرقل الأمر، ليس لأنه يكرهني، بل لأنه يودّني: فقد كان كثير الأسفار إلى الخارج وإلى مصر بالذات، وكنت أنوب عنه في غيابه، فخفت أن يعرقل سفري إلى الصين، رغم أن الصين كانت تعيش حينها أيام الثورة الثقافية فهي، آنذاك، عبارة عن جهنم، لكني قلت: «حنانيك بعض الشر أهون من بعض».
ومن حسن حظي أيضاً أنه عندما كنت في عام 1965م نائباً لوزير المواصلات جاء إلى صنعاء نائب وزير المواصلات الصيني على رأس وفد لتهنئة اليمن بعيد ثورته، وقد رافقته أنا عن الجانب اليمني، فتعرفت إليه كما تعرفت إلى السفير الصيني، وقد ارتاحا إليَّ كثيراً، لأنني كنت أحدثهم عن «أبو الصين» الدكتور «سن يان سن» وعن «شان كاي شك» وعن «ماوتسي تونغ» وسور الصين العظيم.. إلخ، كنا نتحدث عن معلومات عامة أخرى خلال الأيام الثلاثة التي قضوها في صنعاء.
فلما جاء ترشيحي إلى السفارة الصينية، أبرقوا إلى الصين، ولم تمض أربعة أيام حتى جاءت الموافقة بقبولي سفيراً لليمن في الصين الشعبية.
وسامح الله أولئك الذين ذهبوا إلى المشير عبدالله السلال، قائلين له، عندما أذيع اسمي من إذاعة صنعاء: أنت ترشح محمد عبدالواسع حميد الأصبحي هذا.. وهو يعمل ضدكم وضد العهد، وهو مع الذين ذهبوا إلى مصر مع القاضي عبدالرحمن الإرياني، ومع النعمان.
ومع الأسف أن من قال هذا كان صديقاً، وقد أعترف لي فيما بعد سامحه الله.
وإذا بالمشير عبدالله السلال يقول له: «بس يا «فلان» قد هو هذا رابع واحد.. عيتعقدوا الصينيين مننا.. الأول الفسيل، وبعده سنان وبعده المروني، وهذا الرابع.. ماشي.. خليه يذهب».
وقد أبلغني ذلك الأمر الرجل الطيب الذي مازلت أحترمه حتى الآن على الرغم مما يُشاع عن جنونه، إنه الشاعر والأديب واللغوي محمد يحيى الزبيري صاحب «الشعوبه»، ثم بلغني أيضاً علي ناصر العنسي رحمة الله عليه.
هذه الحوادث الصغيرة لم تؤثر كثيراً في حياتي، لأني حينها سافرت إلى الصين، فقد تعرفت في 1957م على شخص، كان صديقاً للمشير عبدالله السلال وكانت فيه مسحة ماركسية شيوعية.. لست أدري ما الذي دفعه إلى أن يعاديني رغم أننا كنا أصدقاء.. ربما لأنه كان يبغض الدكتور سعيد الشيباني.. لست أدري.
وذات ليلة بينما كنا جالسين الدكتور عبدالله الحريبي وفتح الأسودي وأحمد ثابت وأنا.. إذا به يقدم إلينا، وبدون مقدمات، فيقول: «إنكم أيها الأًصدقاء اللا أصدقاء ضد العهد وضد الرئيس، وسوف تلاقون مصيركم، وأنت ياسفير الصين «والكلام موجهٌ إلي» سوف تلاقي مصيرك» كان هذا لأنه سمع من إذاعة صنعاء إعلان القرار الجمهوري بتعييني سفيراً في الصين، ولكنه لم يستطع أن يعكر شيئاً، سامحه الله فقد كان ثملاً جداً وإلا لما كتب لي رسالة بخطه وتوقيعه وبالمضمون نفسه.
وقبل هذا حاول أن يثني المشير عبدالله السلال عن تعييني، وتكلم عني بسوء سامحه الله وإذا باللواء عبدالله جزيلان ينهره قائلاً:
أنت دائماً يا «فلان» ضد الشرفاء.. أنت لست بشريف، أنت تعمل ضد الشرفاء، وضد الأحرار.. إلخ فصمت، وخرج!!
ذهبت إلى الصين، وما أدراك ما الصين أيام الثورة الثقافية؟! كنت لا أدري ماكنهها، كنت أعتقد أن الثورة الثقافية هي إحياء وإثارة وإذكاء نار تبعث في الشعب ثقافته القديمة والحديثة، وإذا بالثورة الثقافية تعني الركود والجمود، والتخلف لقد أخرت الصين ربع قرن من الزمن..
أقفلت كل الجامعات والكليات والمدارس الثانوية والإعدادية، وأخيراً عندما كنت هناك أقفلت رياض الأطفال أيضاً.
تلك هي الثورة الثقافية.. ذهبت إلى الصين في تلك الأيام، ورغم هذا كله كنت مرتاحاً.. مرتاحاً نفسياً وليس إلا، وما عدا هذا فقد كنت أتعذب وأتألم علي وطني، ورغم أنه لم يكن يوجد آنذاك لامبنى للسفارة ولاسكن ولاسيارات كما قيل لي في صنعاء، كنا خمسة أفراد، الخامس هو السكرتير الأول أحمد عبدالمعطي الجنيد أقدم موظف في وزارة الخارجية قعدنا في فندق بكين مايقرب من شهرين، ثم استأجرنا مقراً للسفارة وسكناً لرئيس البعثة، والحديث عن السفارة والسكن طويل جداً جداً.
ريتر بورج
هو أخطر جاسوس أمريكي إسرائيلي ظهر في تلك الفترة في الصين، تزوج بامرأة صينية، ثم بعد موت الزوجة الأولى تزوج بأخرى.
تدرج في الوظائف حتى توصل إلى أن يكون مديراً للإذاعة والتلفزيون كان خطيباً مصقعاً ومفوهاً لسنا في اللغتين الإنجليزية والصينية، ولما تأكد بعض الإخوة من السفراء العرب من خطورته، كانت إجابات المسؤولين الصينيين وماذا في ذلك؟
إن «ماركس» يهودي، ولكنه كان المؤسس للاشتراكية العلمية، وكان الرقم الثاني هو «إسرائيل ابتشاين» مؤلف كتاب «من حرب الأفيون إلى حرب التحرير» الذي ترجم إلى عدة لغات بمافيها العربية.
المهم أن هذا الجاسوس الخطير لم يكتشف إلا مؤخراً، في الصحف الحائطية والتي كان يشترك فيما بعد في تحريها الزميل العزيز صالح الدحان، ولكنه لايدري، أو لا يتذكر.
كان ريتربورج قد ذهب إلى الصين في الأربعينيات، واشترك مع الرئيس «ماوتسي تونج» في المسيرة الكبرى، التي قطعوا فيها حوالي «000،14 كيلو متر» سيراً على الأقدام وعاد وإذا هو جاسوس أمريكي إسرائيلي وقد اعتقل في عام 1969م، ومات في السجن كما قيل لي.
وخلال إقامتي في الصين حاولت أن أدفع بالصينيين إلى أن يرسلوا الخبراء، والمعدات لحفر الآبار، وإصلاح الطرقات، والتي منها طريق «صنعاء صعدة» وقد أثمرت هذه الجهود قبل أن انتقل من الصين.
ولكن قبل أن أتحدث عن كيف انتقلت؟ وكيف طلبت أن أتغير من الصين؟ فهو حديث طويل، لابدّ لي أن أتذكر بعض ذكرياتي هناك: ففي عام 1968م وأنا في الصين.. كان قد بدء السأم والملل يدبان إلى نفسي.. خاصة بعد سفر السفير العراقي المرحوم منير رشيد الكيلاني فقد كنا نقضي معظم الليالي في منزله مع أعضاء سفارته، وأحياناً عندي في المنزل.
بعد سفره لم يبق لي من سلوى سوى اليمنيين الثلاثة الذين كانوا يعملون مع الصينيين قبل مجيئي إلى الصين بعامين وهم «محمد الحيمي، صالح الدحان، عبدالقادر هاشم» أما محمد عبدالرزاق فقد كان متقوقعاً كانوا جميعاً مع زوجاتهم، أما أنا فقد كنت عزباً، بعد عودة زوجتي والأولاد، فضقت ذرعاً بالبقاء، رغم أني كنت محبوباً لدى الأوساط الدبلوماسية العربية والأجنبية وحتى الصينيين.. كانت السفارات العربية آنذاك قليلة جداً..كانت هناك ست سفارات فقط، وهي سفارات:« الجمهورية العربية المتحدة «مصر» العراق، سوريا، المغرب، الجزائر، اليمن» ثم تبعت منظمة التحرير الفلسطينية وقبل مغادرتي للصين بشهرين فتحت سفارة موريتانيا على حساب الصين كنا لانلتقي إلا لماماً، وذلك عندما تقام الحفلات الرسمية والشعبية لساعتين أو ثلاث ثم أعود إلى المسكن.. حيث الوحدة والوحشة.
ولا أنسى الصحفي السوري المشهور «عبدالرحمن أبو قوس» وكان يشغل آنذاك منصب الأمين العام لاتحاد الصحفيين الأفرو آسيويين وقد تعرفت إليه فور وصولي في فندق «بكين» محل إقامته الدائمة، حيث أقمت هناك أنا أيضاً في البداية لفترة، وقد أفادني كثيراً، وحدثني عن مجريات الأمور في الصين آنذاك.
وعندما انتقلت إلى السفارة والسكن الذي استأجرته في حي «سان ليتون» كان كلما وصل وفد عربي غير رسمي، لاسيما من الفلسطينيين الذين تلاحقت وفودهم..سواءً أكانت وفوداً عادية، أم صحفية، أو ماشابه ذلك، كان يقول لهم إذا أردتم أن ترتاحوا أو تأكلوا أكلات ممتازة فلن تجدوا غير السفارة اليمنية.. وقد أعطيته النور الأخضر بأنه إذا أراد أن يعزم أو يدعو أحداً فليدعه.. يتصلون بي فأدعوهم جميعاً..وهكذا.
وقد ذكرت آنفاً أنني أنشدت قصيدة الشاعر محمد أنعم غالب التي عنوانها «الطريق» أمام الوفد الفلسطيني، وهي تمثل معاناة اليمنيين والفلسطينيين.
في عام 1967م وأنا في الصين ولا أفاخر أرسلت مرتب شهر «250» جنيهاً استرلينياً تبرعاً للمجهود الحربي، كما تبرع اثنان من أعضاء السفارة وهما أحمد عبدالمعطي الجنيد وعبدالولي سليمان بمبلغ «100» جنيه استرليني كما دفعت «50» جنيهاً استرلينياً عن الزميلين محمد الحيمي، وصالح الدحان.
وقد أرسلنا تلك المبالغ برقياً عن طريق البنك اليمني للإنشاء والتعمير، وكنت أود أن تذاع تلك التبرعات، لا لأني أريد أن يذكر اسمي فأنا كما قال المثل البدوي:« حميد معروف، لابس حلة أو صوف» ولكن كنت أريد أن أشجع الآخرين على التبرع..سواءً كانوا سفراء أم تجاراً أم أفراداً.
ولكن مع الأسف كان الدكتور محمد سعيد العطار الذي تسلم المبلغ كما قال لي مشغولاً جداً، فقد كان أحياناً يطلع الجبال الرواسي مع وكيل وزارة الاقتصاد الأستاذ فتح الأسودي.
المهم..في ذلك العام بدأ السأم يدب إلى نفسي بشكل رهيب، فلم استطع معه صبراً.. خاصة بعد سفر السفير العراقي.
بعثت برسالة إلى الخارجية اليمنية،وإلى الدكتور محمد سعيد العطار وزميله أحمد عبده سعيد..حيث كان الدكتور العطار وزيراً للاقتصاد، ورئيس البنك اليمني للإنشاء والتعمير، وأحمد عبده سعيد وزيراً للمالية. والدكتور حسن مكي وزيراً للخارجية.. كتبت إليهم أطلب أن أتغير من الصين، فقد سئمت البقاء في الصين وقد أديت واجبي بمافيه الكفاية.. وهذه الثورة الثقافية هنا في الصين «أقضت مضجعي» وقد قلت لهم وكأنه تهديد، وبسذاجة ربما: إن لم تغيرني وزارة الخارجية حتى شهر يونيو 1968م فسوف آتي بدون طلب، أو بدون رخصة حتى ولو إلى «الرادع» السجن.
وهكذا جاء نقلي من الصين إلى اليمن ولم يكن يعرف الصينيون ولا الدبلوماسيون العرب والأجانب.. إنني أنا نفسي الذي طلبت الانتقال وكان طلبي مفاجأة لهم والله وتالله إني كنت محبوباً جداً، حتى السفارات التي كانت موجودة في الصين، والتي لاتتعدى «36» سفارة أقامت لي مايقرب من «22» حفلة وداع، مابين غداء وعشاء وهكذا.
أما حفلات الاستقبال فقد كانت قرابة «12» حفلة وأكبر حفلة أقيمت لي كانت من قبل السفارة المغربية.. فقد كانت تربطني بالسفير المغربي علاقة طيبة وحميمة.. وهناك قصة طريفة حدثت لي مع القائم بالأعمال السابق الذي أصيب بهوس، ثم رحلناه إلى المغرب وربما أكتب فصلاً صغيراً مستقلاً فيما بعد بعنوان «كيف تحولت إلى طبيب نفسي للقائم بالأعمال المغربي».
كما أقام لي حفلة كبرى أيضاً عميد السلك الدبلوماسي العربي والأجنبي المرحوم اللواء زكريا العادلي إمام تغمده الله بواسع رحمته، فقد ساعدني كثيراً وأنار لي الطريق في الصين..وقد اقترح علي قبل إقامة الحفلة بثماني ساعات أو ست أن أودعه بقصيدة، وكانوا يسمونني السفير الشاعر والسفير المبتسم والسفير الضاحك..الخ حاولت جاهداً إقناعه بأنني لست شاعراً وأنني حفاظة فقط..أبداً..أصر على أنني شاعر، ولا بد من قصيدة وداع.
المهم استطعت خلال تلك الساعات القليلة أن آتي بثمانية عشر بيتاً فقط وأنا أسمي هذا النوع من الشعر «حلمنتيشي» لأنه أقرب إلى النظم «ربما» وكم أنا أسف على أنني أضعتها، ماعدا هذه الأبيات القليلة التي أسطرها لكم:
يارفاقي في الدم والآلام اعذروني في ثغري البسام
مبسمي ضاحك وقلبي حزين يتنزى من الجراح الجسام
ليتني ليتني ومانفع ليت والأماني فوارس الأحلام
وقد تعين خلفاً لي في الصين الدكتور عبدالواحد الخرباش، والذي لم يقعد أكثر من عشرة أشهر..وعندما تعين الأستاذ محسن العيني «رئيساً للوزراء» غيره بالأستاذ عبده عثمان، بعد موافقة القاضي عبدالرحمن الإرياني..وقد ظل صاحب القلب الكبير، والذهن الواسع الشاعر والدبلوماسي عبده عثمان مايقرب من سبع سنوات سفيراً لدى الصين.
في هذه الأثناء حدثت حوادث أثرت في اليمن، سأحاول أن أمر عليها مر الكرام أهمها:
تلك المظاهرات التي قامت على السفارة الأمريكية، فقد أقفلت هذه السفارة، وكذا النقطة الرابع التي ساعدت اليمن أقفلت أيضاً، وذهب الأطباء والخبراء نتيجة الغوغائية والدهماء والمظاهرات والسياسة الخرقاء مماأدى إلى قطع العلاقات بيننا وبين الولايات المتحدة، كل ذلك كان قبل النكسة.
في الخامس من حزيران 1967م عندما حدث العدوان أو الضربة القاصمة لمصر وللعرب النكسة الرهيبة هذه النكسة أثرت على مصر عبدالناصر وعلى العرب، وحتى يومنا هذا مازلنا نعاني من بقاياها.
بعد النكسة والفجيعة..قرر الزعماء العرب عقد قمة في «الخرطوم» في السنة نفسها وقد حضرها من الجانب اليمني المرحوم المشير عبدالله السلال..وفيها قرر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر يرحمه الله سحب القوات المصرية من اليمن..وكان هذا مطلب الملك فيصل وآخرين..ولم يكن لليمن جيش مدرب قوي آنذاك..وكل اليمنيين الذين عاشوا المرحلة يعرفون ذلك.
في أوائل نوفمبر 1967م غادر المشير عبدالله السلال اليمن إلى العراق، وبعد رحيله بيومين أي في 5 نوفمبر 1967م قامت الحركة المعروفة والتي تولى فيها العلامة القاضي عبدالرحمن الإرياني رئاسة المجلس الجمهوري وعضوية الشيخ محمد علي عثمان والفريق حسن العمري.
ولما كنت حينها ما أزال في الصين، أترك كتابة تفاصيل هذه الحركة للكثيرين ممن عايشوها، وللصديق الصدوق العميد محمد علي الأكوع وهو أدرى بها من ألفها إلى يائها «كل الصيد في جوف الفرا» كما يقول المثل:
وكان ماكان..بريطانيا، فرنسا، أمريكا، ألمانيا.. كل هؤلاء ليسوا معنا..لأننا أسأنا علاقتنا بهم، وخاصة مع الولايات المتحدة وألمانيا الغربية التي اعترفت بنا مباشرة هي والولايات المتحدة.
تسلم القاضي عبدالرحمن الإرياني ذلك العملاق الذي يسير إلى الموت وهو يبتسم أمور الحكم في البلاد، وكانت اليمن تمر في أحلك ظروفها وأدقها، وأعتقد أن حصار صنعاء أو حصار السبعين يوماً قد أظهر حنكة القائد وصموده وبسالة الوطنيين الشرفاء واستماتتهم في الدفاع عن الثورة والجمهورية فقد حاصر الملكيون صنعاء، ليقضوا على الثورة والجمهورية، ويستأصلوا شأفتها.. كانوا يقاتلون بشراسة، ولم يتجمعوا بكثرة كما تجمعوا وقاتلوا أيام حرب السبعين يوماً عام 1967م.
لكن صمود رئيس المجلس الجمهوري وزملائه والقوى الوطنية الشريفة التي اتحدت اتحاداً عظيماً لم تر اليمن مثله أحبط ذلك الحصار، وبدد تلك الحشود.
وعندما حوربت الثورة والجمهورية من قبل الملكيين، وقد كتب عن ذلك الكثيرون، فر الكثير من الأبطال والضباط والقادة وبقي ذلك الشيخ الوقور القاضي عبدالرحمن الإرياني صامداً هو وزملاؤه أمثال: محمد علي عثمان والفريق حسن العمري، وغيرهما.
لقد صمدوا صموداً بطولياً رائعاً مع القوى الوطنية الشريفة التي قاتلت بشراسة واستماتة.. حتى انجلى الموقف بفك الحصار والنصر المؤزر.
لقد حاز الشعب اليمني إعجاب العالم..سواءً من العرب أو من غير العرب لأنهم صمدوا دون أية معونة خارجية أو مساعدة أجنبية إطلاقاً.
وهذه الحقبة الزمنية التي سطر فيها الشعب اليمني أروع بطولاته وملاحمه.. تكاد تكون أسطورية..فقد كتب عنها الكثيرون، ومازالت هناك كتابات لم تر النور بعد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.