في آخر أيام حُكمه، وعندما تبيَّن إفلاس النظام الحاكم ومنطلقاته النظرية والأيديولوجية التي شكلت شرعية «ثورية»، قام جعفر النميري بالانقلاب على تلك المنطلقات بزاوية قدرها 360 (ثلاثمائة وستون) درجة، وتبنَّى فجأة الشريعة الإسلامية كمنطلق نظري لشرعية حاكمة جديدة. وكان تطبيق «الشريعة» مبتسراً في تلك المرحلة، لايتجاوز مجرد قطع الأعناق، وبتر الأيدي، وجلد متعاطي «المريسة»، والبحث عن «الزُّناة»، أو من يجب أن يكونوا كذلك، في أزقة وزوايا الخرطوم وأم درمان الغارقة في الظلام، وكأن الشريعة ليست إلا مجموعة من العقوبات السادية ليس إلا. وقد اختلطت السياسة بتنفيذ الحدود وغيرها من عقوبات في تلك الفترة، فأصبح من الصعب التفرقة بين من يطبق عليه الحد أو العقاب لجريمة ارتكبها فعلاً، مع استيفاء كافة شروط تطبيق الحد، وبين من يطبق عليه الحد مثلاً، وهو في الحقيقة معارض سياسي للنظام، أو هو مجرد ضحية كان تطبيق الحد عليه من باب الإرهاب للبقية، وإثبات التوجه «الإسلامي» الجديد للنظام، دون أن يكون هناك جريمة بالفعل، في الوقت الذي كان مستحق العقاب والقصاص آمناً برعاية النظام ذاته، يحتسي خموراً مستوردة مباشرة من اسكوتلندا وبوردو، ويتقاضى عمولة نقل اليهود «الفلاشا» إلى إسرائيل عبر السودان، وغيرها من عمولات، ويراقص ذوات الشعر الأصفر والأحمر والأسود في قلب الخرطوم. وإذا كانت «إسلامية» النميري تلك الأيام مجرد غطاء لفساد سياسي واقتصادي معين، فإن «إسلامية» الترابي اليوم هي غطاء لطموحات خاصة لا علاقة لها بذات الشريعة، والنتيجة واحدة في كل الأحوال: القضاء على ذات الإنسان. وقبل فترة ليست بعيدة، سمعنا وقرأنا أن زعيماً عربياً قد وجد في الشريعة الإسلامية بغيته من أجل إصلاح أوضاع أضاعتها تلك المؤتمرات الشعبية ومؤسسات الجماهير ونصوص الكتب الخضراء، وهي الشريعة ذاتها التي كان الزعيم، بصفته مفكراً، ينتقدها ويحاول تبيان تهافتها المنطقي، ومحدوديتها التاريخية وكالعادة، كانت الشريعة لاتتجاوز هنا أيضاً سادية القطع والبتر والحز والرجم والجلد، مع ذات الاختلاط بين السياسة وتنفيذ الحدود والعقوبات. وقبل ذلك، وفي أم المعارك وقبلها، حوَّل صدام حسين اسمه إلى «عبدالله المؤمن»، وبحث لنفسه عن شجرة نسب توصله بالدوحة النبوية، وخطَّ «الله أكبر» على علم البلاد، وكأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي إرث عائلي يتنازعه هذا وذلك، أو مجرد شعار سحري، أو تميمة خارقة للعادة في أثرها، توضع على البيارق ساعة الشدة، وليست رسالة سماوية عالمية، ذات غايات إنسانية سامية لكل الأيام في كل الأزمان. وعندما دخلت وحدات «الطالبان» الأفغانية كابول، كان كل برنامجها السياسي والاجتماعي، تقريباً، يتلخص في منع الموسيقى وإلزام النساء بعدم العمل خارج البيوت، والرجال بإطلاق اللحى، و«البحث» عمَّن يمكن جلده أو رجمه أو بتر يده أو حز عنقه، حتى لو كانت الشبهات هي سيدة الموقف، وكأن شريعة الله قد تحولت، بل اختزلت، إلى مجرد عقوبات دموية بأي شكل ومهما كان المبرر، وكأن أفغانستان قد حلت كل مشاكلها في الداخل والخارج، ولم يبق إلا هذه الأمور. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن إيران، التي بالرغم من مرور عقود على انتصار ثورتها الإسلامية، فإنها لا تزال تتخبط ذات اليمين وذات الشمال، دون برنامج واضح ومحدد لرفع مستوى الإنسان فيها، وهو غاية الشريعة في النهاية، اللهم إلا العقوبات والمزيد من العقوبات، في الداخل، وتصدير العنف والاضطراب إلى الخارج، لعله يصرف النظر عن مشكلات ومعضلات الداخل المستعصية، والتي لا يمكن لمجرد العقوبات أن تحلها، بل هي تزيدها إشكالاً على إشكال. والغريب أن إيران أنتقدت توجهات الطالبان، رغم أن الحال في جوهره واحد، ولكن هي السياسة أولاً وآخراً.. وبعيداً الطالبان وإيران وغيرهم، تحولت الشريعة الإسلامية إلى شعار سياسي نفعي لكل أحد يريد أن يصل إلى مبتغاه بأسرع وقت ممكن، وبأقل جهد. وعندما يصل، لانرى سوى اختزال وابتسار الشريعة إلى مجرد عقوبات وأعمال عنف أصبحت هدفاً بذاتها، بسادية توحي بتلذذ مريب، وليست وسيلة لغاية كما هو ثابت في الشريعة ذاتها.. بل وأصبح التحدث بها وعنها، أي الشريعة، الوسيلة الأنجع للوصول إلى مكانة اجتماعية، وجاه ما كان يمكن الوصول إليه بالجهد الخالص والعمل الدؤوب، وإن كان المتحدث بها ورافع لوائها أجهل الناس بها، أو أقلهم عملاً بها في الخفاء، أو الاثنين معاً.. فهل هذه هي الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم؟ وهل هكذا تطبق الحدود التي ذكرها الله في كتابه؟ وهل هكذا كانوا ينظرون إلى الشريعة وتطبيقها؟ لقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يقارب السنوات العشر في المدينة، يؤسس دولة وسلطة من نمط جديد، في ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية في غاية الصعوبة، وبين أقوام حديثي عهد بالإسلام، فكان منهم من آمن اعتقاداً بقلب، ومنهم من آمن قسراً بسيف. وكانت جماعة المسلمين في مجتمع المدينة ممتثلة لأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون مناقشة وبحماس ليس غريباً على مجتمع جديد في طور التأسيس.. ومع ذلك كله، لانكاد نجد أثراً لبتر يدٍ أو رجم زانٍ أو زانية، أو جلد شارب خمر أو قطع عنق بغير حق، رغم وجود الزاني والسارق والشارب وغيرهم، لو كان كل الهم منصرفاً إلى التنقيب عنهم في الأزقة والجحور، وبناء على الشبهات مهما اتسعت. فقط حوادث معدودة يُضرب بها المثل على عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحريه الدقة في تنفيذ الحد والعقوبة، والتوقف عن ذلك فوراً إذا تبينت شبهة مهما كانت بسيطة، وفق قاعدة «إدرأوا الحدود بالشبهات»، وهي ذات القاعدة في القوانين الوضعية اللاحقة التي تقول: «إن الشك يفسر لصالح المتهم»، أو إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. ولعل في حادثة الغامدية أبلغ مثال على ذلك، وشارب الخمر الذي بعد أن صفع وضُرب بالنعال وغيرها ونحوها، سبه أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهاه النبي عن ذلك، وهو يقول ما معناه: لا تسبوه فإنه يحب الله ورسوله. كل ذلك يجري في مجتمع تحيط به المخاطر من كل جانب، ومحيط يجري فيه العنف بشكل طبيعي، كأسلوب من أساليب الحياة.. فقد كان همُّ الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، بناء المجتمع وليس البحث عمّن يعاقب، طالما أن الجرم لم يصل إلى مستوى تحدي أسس المجتمع جهاراً، أو استساغة الخطيئة من خلال عدم الاكتراث سواء أُمورست سراً أم جهراً، وليس كمدعي ملكية الشريعة هذه الأيام الذين يبحثون عمن يمكن تطبيق الحد عليه ولو بالمجهر، وذلك على حساب المشكلات الحقيقية للمجتمع، وما أفغانستان إلا مجرد مثال هنا. وكلنا يعلم أن عمر بن الخطاب «رضي الله عنه»، لم ينفذ حد السرقة في عام الرمادة، ولم يوزع أرض السواد على الفاتحين، ولم يمنح المؤلفة قلوبهم سهمهم من الزكاة، مخالفاً بذلك ظاهراً نصوصاً واضحة وصريحة وردت في هذه المسائل في القرآن الكريم، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وسنة خليفته من بعده.. وخرج بعض الباحثين والدارسين بنتيجة مؤداها أن عدم التزام عمر بالنص الصريح في مثل هذه الأحوال يفتح المجال للاجتهاد المطلق حتى مع وجود النص الصريح القاطع، وإن كان ذلك متعلقاً حتى بمسألة الحدود. والحقيقة أن ابن الخطاب لم يعطل الحدود أو النصوص، ولكنه وجد أن سياقها الذي كانت تأخذ معناها منه غير موجود، وبالتالي فلا مجال للتطبيق مع عدم توفر أركان التطبيق.. فالحدود، في التشريع الجنائي الإسلامي، شيء مثل أقصى العقوبة في القوانين الوضعية التي لا تطبق إلا حين يكون الجرم مشتملاً لكافة الأركان والشروط والأوضاع التي لا تجعل مجالاً للذهاب إلى ما دون الحد، ومثل هذه الأوضاع غالباً ما تكون نادرة، إلا إذا كان المجتمع نفسه قد وصل إلى حد كبير من التفسخ. فقطع اليد في حال السرقة مثلاً لايطبق هكذا جزافاً، وإنما هناك شروط وأركان وأوضاع لابد من توفرها كاملة لتنفيذ الحد.. وقد أسهب الفقهاء لاحقاً في وصف كل ذلك، وتحديده بدقة وبكل تفصيل، وإلا كان التعزير «التأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود، أي: هو عقوبة على جرائم لم تضع الشريعة لأيها عقوبة مقدرة، كما يعرفه عبدالقادر عودة، رحمه الله»، هو المتبع. لذلك فإن عمر لم يقطع أيدي الفتية في عام الرمادة، لا تعطيلاً للحد، ولكن لعدم توافر شروط تنفيذه، فكان العقاب منصرفاً في المقام الأول إلى مالك الفتية، حيث إنه أجاعهم ودفعهم بذلك إلى السرقة.. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن مسألة المؤلفة قلوبهم، إذ مع اختلاف السياق التاريخي والاجتماعي ونحوه «انتشار الإسلام في هذه الحالة وعدم الحاجة إلى مثل أولئك كي يتألف قلوبهم، وانتفاء صفة المؤلفة عنهم بالتالي»، اختلف محل النص، أما ذات النص فهو ثابت وباقٍ.. وفي حالة عدم توزيع أرض السواد، كان لابن الخطاب موقف، ونظرة ثاقبة، اتبع فيها «روح الشريعة» أو غايتها، ألا وهو إحقاق الحق ونشر العدل وتحقيق المصلحة العامة.. فإذا وزعت تلك الأراضي الواسعة على بضعة أفراد، حرمت الدولة من مورد لابد منه لتسيير الأمور، كما أن النتائج الاجتماعية الخطيرة لجعل الثروة احتكاراً للبعض قد تؤدي إلى انهيار دولة الإسلام جملة وتفصيلاً، أو اضطرابات سياسية داخلية كانت الدولة والمجتمع في غنى عنها، وذلك كما ثبت في الأيام الأخيرة من خلافة عثمان بن عفان «رضي الله عنه»، وما تبعها من أيام.. لقد قرأ عمر كل ذلك، وطبَّق مراد الشارع من النص عموماً، وليس نصوص العقوبات فقط، من خلال عدم البقاء أسيراً لسياق معين للنص، دون الأخذ في الاعتبار سياقاً آخر مختلفاً. أما المتمسحون بالشريعة هذه الأيام شعاراً وعنواناً فقط، فقد تحولت الشريعة على أيديهم إلى مجرد عقوبات لكل شيء وعلى أي شيء، لأغراض سياسية وغيرها، الله أعلم بها، وأصبح العنف سمة من سمات المجتمعات المسلمة في الوقت الحاضر، سواء العنف المتطرف من بعض الأنظمة القائلة بالشريعة الإسلامية، أو العنف المجتمعي المضاد، والقائل بشريعة إسلامية أيضاً، ولكنها تدعي الاختلاف، وإن كان الاثنان يلتقيان على أرض العنف والدم، وانتقائية معينة لنصوص مبتسرة، مفصولة عن سياقها تبرر العنف وسفك الدماء، وكل ذلك يتم باسم المقدس المشترك، رغم أنه بعيد كل البعد عما هو مقدس. ولو استعرضنا النشاط الفقهي المنتظم للقرون الهجرية الثلاثة الأولى، وهي قرون التأسيس التي يعتد بها في هذا المجال، بالإضافة إلى أنشطة فقهية متفرقة بعد ذلك، لوجدت بشكل عام أن هناك خطاً واحداً ينتظمها، على اختلاف مرئياتها واستنتاجاتها.. فالشريعة، وفقاً لذلك النشاط، إنما تدور حول ثلاثة محاور رئيسة: النص، والروح أو الغاية، والسياق. فالنص يمثل الجانب الثابت من الشريعة، أو مرجعية الشرع، وهو ما ورد في كتاب الله من أحكام للعمل بها غير منسوخة، وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من قول أو فعل أو تقرير، قصد به بيان الحكم الشرعي، وليست متعلقة به خاصة «مثل الزواج بأكثر من أربع زوجات»، أو متعلقة به كبشر، مثل ملبسه ومطعمه وتفضيلاته الخاصة وعادات قومه «انظر: محمد أبو زهرة، أصول الفقه، دار الفكر العربي، القاهرة، بدون تاريخ، ص 28-09».. ويفهم النص من خلال آليات اللغة التي ورد بها، اللغة العربية، بالإضافة إلى محوري الغاية والسياق. والغاية، أو روح الشريعة، هي فهم مقاصد الشارع من شرعه.. فالنصوص الثابتة إنما وجدت لغاية تعبدية، وهذه لا تغيير فيها، وغاية عملية في ذات الوقت.. وطالما أن الحياة العملية متغيرة وثرية في تحولاتها، فإن النص بذاته لا يغطي التفاصيل، ولكنه يبقى الإطار المرجعي لأحكام تفصيلية تستلهم روحه وغايته، ألا وهي مصلحة الجماعة في المقام الأول، وما يساعد على حسن حركتها وتجددها في هذه الحياة، وفي علاقتها مع غيرها من جماعات. أما السياق فهو المجال الذي تعمل فيه الأحكام، وهو متغير بطبعه.. وتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان دليل على إدراك الفقه لمكانة السياق في الفهم التفصيلي للنص وكيف يعمل.. وعندما غير الإمام الشافعي «رحمه الله»، من فقهه في مصر عنه في العراق، لم يكن متناقضاً معرفياً أو عملياً ولكنه كان مدركاً لآليات فهم النص، واختلاف المعنى التفصيلي بتغير السياق، دون الخروج على كليات النص ودلالاته اللغوية، بالاستناد إلى معرفة الغاية في إطار من السياق. ولن نستطيع فهم اختلاف فقه مالك أو أبي حنيفة أو ابن حنبل أو ابن تميمة، عن بعضه البعض، إلا من خلال اختلاف السياق الذي نشأ فيه فقههم، مع ثبات النص والاتفاق على الغاية.. ومن أكبر الأخطاء والأخطار التي نواجهها اليوم هي عندما نثبت نصوص هؤلاء القمم، الناشئة في سياق اجتماعي وسياسي وتاريخي مختلف، على حساب النص الأصلي في شموليته وتجريده، والمحاور التي كانوا يقيمون عليها فقههم «النص، الغاية، السياق»، فلا نحصل عليهم، ونفقد أنفسنا في ذات الوقت.