خبير اقتصادي: قرار مركزي عدن بنقل قرات بنوك صنعاء طوق نجاة لتلك البنوك    فشل ذريع لكريستيانو رونالدو السعودي.. كيف تناولت الصحف العالمية تتويج الهلال؟    بالصور.. قاعدة الدوري الأمريكي تفجر غضب ميسي    مبابي يطارد بيريز في احتفالية الليجا    كوابيس كشفت جريمة مرعبة: فتاة صغيرة تنقذ نفسها من القتل على يد شقيقها والامن يلقي القبض على الاب قاتل ابنه!    تحت إشراف مركز الملك سلمان.. «البلسم»تحتفي بفريقها بعد إجراء 191 عملية قلب مفتوح وقسطرة تداخلية ناجحة في الأسبوع الأول من الحملة الطبية باليمن    "أطباء بلا حدود" تنقل خدماتها الطبية للأمهات والأطفال إلى مستشفى المخا العام بتعز مميز    عدن.. ارتفاع ساعات انطفاء الكهرباء جراء نفاد الوقود    بمشاركة «كاك بنك» انطلاق الملتقى الأول للموارد البشرية والتدريب في العاصمة عدن    إب .. وفاة أربع طفلات غرقا في حاجز مائي    مراكز ومدارس التشيّع الحوثية.. الخطر الذي يتربص باليمنيين    التوظيف الاعلامي.. النفط نموذجا!!    المركز الوطني لعلاج الأورام حضرموت الوادي والصحراء يحتفل باليوم العالمي للتمريض ..    المبعوث الأممي يصل إلى عدن    مصرع وإصابة 20 مسلحا حوثيا بكمين مسلح شرقي تعز    وفاة أربع فتيات من أسرة واحدة غرقا في محافظة إب    مقتل "باتيس" في منطقة سيطرة قوات أبوعوجا بوادي حضرموت    مصادر سياسية بصنعاء تكشف عن الخيار الوحيد لإجبار الحوثي على الانصياع لإرادة السلام    لهذا السبب الغير معلن قرر الحوثيين ضم " همدان وبني مطر" للعاصمة صنعاء ؟    لو كان معه رجال!    أبناء القبطية ينفذون احتجاج مسلح أمام وزارة الداخلية الحوثية للمطالبة بضبط قتلة احد ابنائهم    مفاجأة وشفافية..!    "هذا الشعب بلا تربية وبلا أخلاق".. تعميم حوثي صادم يغضب الشيخ "ابوراس" وهكذا كان رده    فوضى عارمة في إب: اشتباكات حوثية تُخلف دماراً وضحايا    عاصفة مدريدية تُطيح بغرناطة وتُظهر علو كعب "الملكي".    الدوري المصري: الاهلي يقلب الطاولة على بلدية المحلة    الحوثيون يطورون أسلوبًا جديدًا للحرب: القمامة بدلاً من الرصاص!    القوات الجنوبية تصد هجوم حوثي في جبهة حريب وسقوط شهيدين(صور)    أفضل دعاء يغفر الذنوب ولو كانت كالجبال.. ردده الآن يقضى حوائجك ويرزقك    بلباو يخطف تعادلًا قاتلًا من اوساسونا    إطلاق سراح عشرات الصيادين اليمنيين كانوا معتقلين في إريتريا    بعد فوزها على مقاتلة مصرية .. السعودية هتان السيف تدخل تاريخ رياضة الفنون القتالية المختلطة    شاهد:ناشئ يمني يصبح نجمًا على وسائل التواصل الاجتماعي بفضل صداقته مع عائلة رونالدو    أطفال غزة يتساءلون: ألا نستحق العيش بسلام؟    الاحتجاجات تتواصل في الحديدة: سائقي النقل الثقيل يواجهون احتكار الحوثيين وفسادهم    بالفيديو...باحث : حليب الإبل يوجد به إنسولين ولا يرفع السكر ويغني عن الأطعمة الأخرى لمدة شهرين!    المبيدات في اليمن.. سموم تفتك بالبشر والكائنات وتدمر البيئة مميز    هل استخدام الجوال يُضعف النظر؟.. استشاري سعودي يجيب    سلطة صنعاء ترد بالصمت على طلب النائب حاشد بالسفر لغرض العلاج    توقعات بارتفاع اسعار البن بنسبة 25٪ في الاسواق العالمية    اليمن يرحب باعتماد الجمعية العامة قرارا يدعم عضوية فلسطين بالأمم المتحدة مميز    قل المهرة والفراغ يدفع السفراء الغربيون للقاءات مع اليمنيين    القيادة المركزية الأمريكية تناقش مع السعودية هجمات الحوثيين على الملاحة الدولية مميز    أمين عام الإصلاح يعزي رئيس مؤسسة الصحوة للصحافة في وفاة والده    مثقفون يطالبون سلطتي صنعاء وعدن بتحمل مسؤوليتها تجاه الشاعر الجند    هناك في العرب هشام بن عمرو !    قوات دفاع شبوة تضبط مُرّوج لمادة الشبو المخدر في إحدى النقاط مدخل مدينة عتق    هل الموت في شهر ذي القعدة من حسن الخاتمة؟.. أسراره وفضله    اكلة يمنية تحقق ربح 18 ألف ريال سعودي في اليوم الواحد    في رثاء الشيخ عبدالمجيد بن عزيز الزنداني    بسمة ربانية تغادرنا    بسبب والده.. محمد عادل إمام يوجه رسالة للسعودية    عندما يغدر الملوك    قارورة البيرة اولاً    ولد عام 1949    بلد لا تشير إليه البواصل مميز    وزير المياه والبيئة يبحث مع اليونيسف دعم مشاريع المياه والصرف الصحي مميز    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التجربة الصوفية.. طريق المعرفة 2-2
نشر في الجمهورية يوم 21 - 01 - 2010

من أهم ما تتميّز به التجربة الصوفية، بما هي تجربة استجلاء معرفي للحقيقة، أنها تقوم على أساس من الربط بين المعرفة ومختلف النشاطات التي يسلكها الإنسان في علاقته بالعالم، مما يجعلها تجربة معرفية وحياتية في آن واحد.
ونظراً لما تعرض له مفهوم “الفناء” من جراء الفهم الخاطئ لدى البعض ممن درج لديهم أن الفاني يتقمص روحاً علوية مفارقاً بشريته، أو أن الفناء حال مفارقة سلبية للناس وللحياة، فإنه يجدر بنا تفهم المسألة في حقيقة معناها الحيوي.
يقول الكلاباذي (ت:380ه): “وليس الفاني بالصعق ولا المعتوه، ولا الزائل عنه أوصاف البشرية فيصير ملكاً أو روحاً ، ولكنه ممن فني عن شهود حظوظه”(18) ومعنى هذا أن الفناء ليس سوى تحرر الذات في علاقتها بالعالم من دوافع الغريزة والمنفعة، وهو ما يتلازم مع تصاعد حضورها الروحي. ولهذا يقترن مفهوم “الفناء” لدى الصوفية بمفهوم “البقاء”، على نحو يقضي باستحالة الفصل بينهما، فحال الفناء عن النفس هو من وجه آخر حال بقاء بالحق؛ إذ يرون أن الإنسان في ظاهره على صورة خلق، وفي باطنه على صورة الحق(19)، وهذا يعني أن فناء الذات ليس سوى خروجها من علائق القيمة العنصرية المتعلقة –في دوافعها المصلحية ونوازعها الشخصية- بتكوينها الحسي الذي هو على صورة خلق ، وحضورها مع الأغيار بحيوية جوهرها الروحي الذي هو على صورة الحق. “فالباقي بالحق الفاني عن نفسه، يفعل الأشياء لا لجر منفعة إلى نفسه، ولا لدفع مضرة عنها، بل على معنى: أنه لا يقصد في فعله جر المنفعة ودفع المضرة، قد سقطت عنه حظوظ نفسه ومطالبة منافعها، بمعنى القصد والنيّة”(20). والفناء بهذا المعنى لا يقتصر على ما يتعلق بدوافع الرغبة والمنفعة فحسب، بل يشمل كل مكونات الشخصية حسياً وعقلياً وثقافياً، في تعلقها بمعاني القيمة السكونية، بمعنى أن الذات في حال الفناء تتحرر من كل ما يتعلق بمعلوم سابق، بما في ذلك ما يحصل لها في أحوال وجدٍ مضت، بحيث تبقى بما هي عليه كينونتها الروحية في واقع الحال التي هي فيها، وفي إطار هذا المعنى يأتي قول صاحب اللمع: “ومعنى الفناء فناء صفة النفس، وفناء المنع والاسترواح إلى حال وقع”(21)، وقول الجنيد (ت: 297ه): “أوصيك بقلّة الالتفات إلى الحال الماضية عند ورود الحال الكائنة”(22). وهنا ينبغي أن نتساءل هل يعني هذا تعطيل كل هذه العناصر من وظائفها الحيوية في علاقة الإنسان بالعالم؟ وإذا كان الأمر كذلك فبأي معنى يمكن أن يكون ثمة تواصل بين الذات والعالم؟ هنا ينبغي أن نتفهم ماذا يعنيه البقاء بحيوية الجوهر الروحي.
وأول ما ينبغي في هذا الشأن هو أن لا نتصور الروح قابعة في مكان معين من الذات فالروح هي قوام الحياة لكل خلايا البناء العضوي في الإنسان حساً وعقلاً، وليس ثمة من خلايا الكيان الإنساني ما يحيا بدون الروح، كما أن الروح لم تكن لتعبر عن نفسها بدون الحس، فالروح ليست نقيض الحس، كما أن الحس ليس نقيض الروح. ومن ثم فإنه لا ينبغي أن نتصور أن قيام أي من الروح أو الحس يتعارض مع قيام الآخر. الروح هي حياة الحس، والحس هو شكل الروح ولهذا يقول السراج: “مادام في العبد روح وهو حي لا يزول عنه الحس، لأن الحس مقرون بالحياة والروح”(23)، ويقول عمرو بن عثمان المكي (ت: 291ه): “من قال إني لم أجد حساً عند غلبات الوجد فقد غلط لأنه لم يدرك فقد المحسوس إلا بحس”(24). والذي ينبغي أن نتفهمه هنا هو أن الجانب الحسي يتكون من عناصر متعددة كالعين والأذن واللسان والأنف، وكل عنصر من هذه العناصر له صفته العنصرية الحسية التي يتحدد بها مجال عمله على نحو لا يتعدى المجال العملي لعنصر آخر، فالأذن بطبيعة وظيفتها العنصرية مجالها السمع ولا يمكن أن تتعداه إلى النطق أو إلى الشم، والأنف بطبيعة وظيفته العنصرية مجاله الشم، ولا يمكن أن يتعداه إلى البصر أو السمع... وهكذا بقية الحواس. كما أن كل عنصر من هذه العناصر لا يتأثر في فاعليته ببقاء العنصر الآخر أو بزواله، فقد تتعرض الأذن للمحق، فيفقد الإنسان حاسة السمع فحسب دون أن يؤثر على حاسة البصر مثلاً أو غيرها من الحواس الأخرى. وهذا على خلاف الجانب الروحي الذي تمَّحي فيه حدود الفصل بين الصفات العنصرية. فالروح بها حياة كل عناصر البناء الحسي والعقلي في كينونة الذات؛ وإذا انطفأت الروح تكف كل العناصر عن العمل ويكف الإنسان عن الحياة.
ومن هنا فإن حال الفناء بما هي حال بقاء للذات بحيوية الجوهر الروحي لا تقوم على إلغاء القوى الحسية، والعقلية والخبرات، والمكونات الثقافية في الذات، وإذا كان منطق العقل يختفي، فإن هذا لا يعني إلغاء المعلومات العقلية وتعطيلها إلغاءً وتعطيلاً كلياً. يقول الغزالي: “فالعلوم العقلية غير كافية في سلامة القلب، وإن كان محتاجاً إليها”(25) وكذلك الخبرات، والمكونات الثقافية هي الأخرى لا يتم إلغاؤها، بل إنها تظل ذات أهمية في رفد الجانب الروحي. يقول القشيري: “فمن لا ورد له في ظاهره لا ورد في سرائره”(26) ويقول: “فكل من ازدادت وظائفه ازدادت من الله لطائفه”(27). وإذاً، ما يتم في حال الفناء هو أن الذات تنتقل في علاقتها بالعالم من مجال المواجهة الحسية والعقلية، في حدودها الضيقة، إلى مجال أعمق وأوسع وأغنى، مجال جوهري كلي. فالمكونات الثقافية، والخبرات، والتجارب السابقة، إذ تكف عن أن تعمل بوصفها معلوماً سابقاً يعيق الذات عن أن تتجاوز معلومها السابق، والقوى الحسية والعقلية، إذ تكف عن أن توجه الإدراك توجيهاً حسياً ومنطقياً صرفاً، فإنها جميعها، تعتمل في حركة وجود حيوي واحد حر، هي حركة الجوهر الكلي الذي يسمى بالجوهر الباطن أو الروحي. حيث تمّحي نقطة الفصل بين الشعور واللاشعور، أو لنقل بين الشعور الواعي والشعور اللاواعي؛ وحيث تتمازج صفات الحس، فلا تعود أي من الحواس تختص بوظيفتها الحسية المحدودة، بل تسري صفاتها بعضها في بعض، فتسمع العين، وتنطق الأذن، ويشاهد اللسان، حتى ليستدعي مدرك الحاسة الواحدة مدركات جميع الحواس في آن واحد، ذلك أن الذات، بحسب هذا التصور، تعود إلى بساطتها(28) فلا تظل تواجه العالم بقواها الحسية فحسب ولا بخبراتها فحسب، ولا بمكوناتها الثقافية فحسب، ولا بما تمليه عليها دوافع الغريزة فحسب، ولا بمفهوماتها العقلية فحسب؛ وإنما تواجه العالم بما هي جوهر كلي واحد، هو الذي يسمع، وهو الذي يبصر وهو الذي يتصوّر، بكلّيته الواحدة، حيث “تصير كل شعرة منه سمعاً، وكل ذرة منه بصراً، فيسمع الكل بالكل، ويبصر الكل بالكل”(29) وحيث تكون قد “امتزجت الأعمال القلبية والقالبية وانخرق الظاهر إلى الباطن والباطن إلى الظاهر”(30) ولهذا يقول الجنيد: “إذا فني الفناء عن أوصافه، أدرك البقاء بتمامه”(31) ويقول: “الفناء استعجام كلك عن أوصافك، واستعمال الكل منك بكليتك”(32).
وفي ضوء هذا المعنى لفكرة “الفناء” تتضح أهمية ما يرتبط بها من مسميات، كالنشوة والانخطاف والغيبة والسكر، وغيرها من المسميات التي تحمل معنى الغياب عما تتبدى به الأشياء في العالم الخارجي، من معاني القيمة العنصرية التي تفصل بعضها عن بعض، فالصوفية إذ يؤكدون أن “الفناء” لا يعني تعطيل قوى الحس والعقل، والخبرات وإلغاءها؛ يؤكدون في الوقت نفسه أن ما يصاحب هذه الحال من الانخطاف والسكر والغيبة والجذب، لا يعني المفارقة القطعية والغياب التام عن العالم، وإنما يعني الغياب عما ترتبط به الأشياء في وضعية نظامها الظاهري والمألوف من معاني القيمة العنصرية التي تفصل الأشياء بعضها عن بعض على نحو ثابت. يقول الكلاباذي: “السكر هو أن يغيب (العارف) عن تمييز الأشياء ولا يغيب عن الأشياء”(33) بحيث نفهم أن ما يتم في حال “الوجد” بما هي حال “فناء” من تحرر القوى الحسية والعقلية من قيود اختصاصاتها الوظيفية المحدودة ، ودخولها في غمرة الحركة الجوهرية الكلية للذات؛ يصاحبه تحرر العالم في إدراكنا له، من قيود القيمة السكونية المرتبطة بالأشياء في وضعية نظامها الظاهري والمألوف. حيث تدخل الأشياء في حركة تآلف حيوي حر تتعانق فيها الأطراف والمتفرقات على نحو يستجيب لنداءات العالم الكلي الباطن من الذات في احتضانه لأسرار الحقيقة المطلقة. وهو ما يتطلب، إلى جانب العناصر السابقة، قوة الخيال.
الخيال
لم يلق الخيال، من قَبْل، ما لقيه لدى الصوفية من التقدير وسمو المكانة، فقد نظروا إليه على أنه أعظم ما أوجدته القدرة الإلهية. يقول ابن عربي: “ما أوجد الله أعظم منه منزلة، ولا أعم حكماً، يسري حكمه في جميع الموجودات والمعدومات، من محال وغيره، فليس للقدرة الإلهية فيما أوجدته أعظم وجوداً من الخيال”(34).
وكلمة “الخيال” تتخذ أكثر من معنى لدى الصوفية وبخاصة لدى ابن عربي، فالخيال في توسطه بين النَفَس الإلهي وصور الممكنات، على النحو الذي تظهر به الوحدة على صور الكثرة المتفرقة، يسمى بالخيال المطلق(35) ومن ثم فإنه يتخذ أهميته بوصفه ملكة إدراكية لدى الإنسان تتوسط بين العالم الباطن من الذات الإنسانية وتحققات الوجود في العالم الخارجي على نحو تظهر فيه صور الكثرة المتفرقة في العالم الخارجي على صورة الوحدة الباطنة في الذات. وهو ما يسمى بالخيال المتصل، وبتعبير ابن عربي: “القوة المتخيلة في الإنسان وهو الخيال المتصل”(36).
ويتخذ الخيال، في مفهومه العام، أهميته في علاقة الذات بالعالم، من حيث هو حسٌّ باطن بين المعقول والمحسوس(37) وهو بخاصيته هذه يجمع بين الإطلاق والتقيد، فقد جمع الخيال بين الإطلاق العام الذي لا إطلاق يشبهه، فإن له التصرف العام في الواجب والمحال والجائز... كما أن له التقيد الخاص المحض، فلا يقدر أن يصور أمراً من الأمور إلا في صورة حسية قد أخذها من الحس(38).
وهنا ينبغي أن نلاحظ ما نجده لدى الشيخ الأكبر، إذ يفرق بين نوعين من الخيال أحدهما منفصل والآخر متصل، فالأول في تقيده بالمادة الحسية يتقيد بما هي عليه في مظهرها الثابت وإن كان يضفي عليها صوراً روحانية متنوعة كأن نتخيل عدة أمور على صورة شيء بذاته أما الآخر وهو المتصل فإنه يتقيد بالمادة من حيث يشكل منها موضوعه المتخيل فحسب، وهو بهذا يخرجها من وضعيتها الثابتة التي يرتبط بها الخيال المنفصل.
وبوسعنا أن نتفهم هذه المسألة من خلال ما يقدمه لنا ابن عربي في طرحه للفرق بين الخيال المتصل والخيال المنفصل، والعلاقة بينهما. يقول الشيخ الأكبر: “الخيال وله حالان: حالة اتصال، وهذه الحال له بوجود الإنسان وبعض الحيوان، وحال انفصال، وهو ما يتعلق به الإدراك الظاهر منحازاً عنه في الأمر نفسه كجبريل في صورة دحية.. فالفرقان بين الخيال المتصل والخيال المنفصل أن المتصل يذهب بذهاب المتخيل، والمنفصل حضرة ذاتية قابلة للمعاني والأرواح فتجسدها بخاصيتها لا يكون غير ذلك، ومن هذا الخيال المنفصل يكون الخيال المتصل، والخيال المتصل على نوعين: منه ما يوجد عن تخيل ومنه ما لا يوجد عن تخيل كالنائم”(39).
ومفهوم الخيال المتصل يعني في إطار فهمنا العام للتجربة الصوفية، أنه يتصل بما هي عليه الذات في واقع وجودها الكلي الباطن المتغير باستمرار. أما في حال انفصاله فإنه يرتبط بمعلوم متعين في الذهن أو في العالم الخارجي بحيث نتخيل أمراً معقولاً أو غيبياً على صورة هذا المعلوم المتعين بوصفه كياناً مستقلاً بذاته غير متأثر بما هي عليه الذات المدركة في واقع وجودها النفسي الباطن. وهذا هو معنى قول الشيخ الأكبر: “هو ما يتعلق به الإدراك الظاهر منحازاً عنه في الأمر نفسه” وتزداد المسألة وضوحاً بما يقدمه الشيخ الأكبر في تمثيله للخيال المنفصل بتخيل “جبريل” في صورة “دحية”، فحين يتم تخيل “جبريل” على صورة “دحية” فإن الخيال يظل يتعلق بصورة “دحية” المعلومة، لدى الذات المتخيلة، بوصفها حقيقة موضوعية قائمة بذاتها غير متأثرة بما هي عليه الذات في عالمها النفسي الباطن، ولهذا نجد أن “المنفصل حضرة ذاتية قابلة للمعاني والأرواح فتجسدها بخاصيتها لا يكون غير ذلك”. ومعنى هذا أن الخيال المنفصل بوصفه معلوماً متعيناً قائماً بذاته يقبل المعاني الروحية والمعنوية ويجسدها بخاصيته هو في استقلاليته عن الذات، وليس بما يتناغم مع باطن الذات المتغير باستمرار. فهذا هو ما يقوم به الخيال المتصل ولهذا نجد أنه – أي المتصل- يذهب بذهاب المتخيل. ذلك أن المتخيل، في حال الخيال المتصل، هو صورة العالم الباطن من الذات، وبحكم تغير هذا العالم الباطن من حين إلى آخر، فإن صورته التي يتصل بها الخيال المتصل تذهب مع كل حركة تغيّر تطرأ على هذا العالم النفسي الباطن. فصورة هذا العالم التي قد يكون الخيال المتصل تعلق بها في وقت سابق قد ذهبت، والصورة التي يتصل بها، في لحظة الآن، في طريقها إلى الذهاب. والخيال المتصل، في تأثره بما هي عليه هذه الصورة في تغيّرها، يظل يذهب بذهابها. بحيث نفهم أن حركة التغير المستمر في واقع الوجود النفسي الباطن من الذات ينشأ عنها حركة تغيّر مستمر في الخيال المتصل بهذا العالم.
وحين يقول ابن عربي: “إن من الخيال المنفصل يكون الخيال المتصل”، فإن هذا يعني أن الخيال المتصل، في تجسيده لصورة العالم الباطن المتصل به، يأخذ مادته الحسية مما يقدمه له الخيال المنفصل من صور الموجودات المتعينة في الذهن أو في العالم الخارجي، وهو –أي الخيال المتصل- في أخذه مادته من الخيال المنفصل لا يظل يتقيّد بما هي عليه المادة في استقلاليتها عن الذات، وإنما يحرر هذه المادة مما تتقيد به، في انفصالها عن الذات، ويعيد تأليفها بما يتناغم مع صورة العالم الباطن من الذات. وبهذا فإنه يوحّد بين الكلي والجزئي، والروحي والمادي، والمطلق والمحدود، واللامرئي والمرئي، في حركة تضايف جدلي على مستوى الذات والعالم، يتشكل من خلالها الجزئي والمادي والمحدود والمرئي، بما ينفتح بنا على آفاق الكلي والروحي والمطلق واللامرئي.
وكما يقول ابن عربي في النص السابق فإن الخيال المتصل. “على نوعين، منه ما يوجد عن تخيّل، ومنه ما لا يوجد عن تخيل كالنائم” وكما يبدو فإن ما يوجد عن تخيل هو ما يحصل في حال الوجد بما هي حال فناء عن المستويات السطحية من الذات، وبقاء بحيوية الجوهر الروحي. بحيث نفهم أن حركة تصاعد الحيوية الروحية في حال الوجد، هي في الوقت ذاته حركة تصاعد حيوي للخيال المتصل. أما “ما لا يوجد عن تخيل كالنائم” فيتمثل في رؤيا الأحلام التي تحصل في حال النوم، وهو في الحالين يتصل بما هي عليه الذات في واقع وجودها النفسي الباطن.
وفي ضوء ما تقدم نستطيع أن ننظر إلى التجربة الصوفية على أنها تجربة تأمل ذاتي حر يعتمد على الاستبطان والتخيل في علاقة تواصل جوهري بين الذات وتحققات الوجود في العالم الخارجي، وهو نوع من العلاقة تتحرر فيه الذات من علائق المعنى السكوني للوجود (الكون والحياة) في وضعية نظامه الظاهر والمألوف، لتتغلغل في أعماق الموجودات، حيث تدخل مع موضوعها في غمرة وجود واحد يضمهما معاً في حركة تناغم حيوي حر يصبح فيه الموجود مجلىً لأسرار الحقيقة بقدر ما يشف عنه، في تناغمه مع أسرار الذات وكوامنها الخفية، من حيث هي عالم نفسي باطن دائم التغير. ولهذا ارتبط مفهوم الأحوال لدى الصوفية بفكرة التغيّر والتبدّل في واقع العالم النفسي الباطن من الذات في تأثرها بما يطرأ عليها في علاقتها بالعالم الخارجي. يقول الغزالي: “والحال منزلة العبد في الحين فيصفو وقته، وقيل هو ما يتحول فيه العبد ويتغيّر مما يرد على قلبه، فإذا صفا تارة وتغيّر أخرى قيل له حال”(40)، وسئل “ذو النون المصري” عن العارف فقال: “كان ها هنا فذهب”(41) ومعنى هذا كما يقول صاحب “التعرف”: “أنك لا تراه في وقتين بحالة واحدة”(42)، ويقول القشيري: “التلوين صفة أرباب الأحوال... وصاحب التلوين أبداً في الزيادة”(43). وعند هذه النقطة تتضح أهمية الالتقاء بين فكرة الباطن وفكرة السفر في التجربة الصوفية، حيث يجدر بنا أن نشير إلى أنه إذا كان الصوفية يسمون التصوف بعلم الباطن، فإنهم كذلك يسمونه بعلم السفر. يقول الغزالي: “والسفر سفران: سفر بظاهر البدن عن المستقر والوطن إلى الصحارى والفلوات، وسفر بسير القلب عن أسفل السافلين إلى ملكوت السماوات؛ وأشرف السفرين السفر الباطن، فإن الواقف على الحالة التي نشأ عليها عقب الولادة الجامد على ما تلقفه بالتقليد من الآباء والأجداد لازم درجة القصور، وقانع بمرتبة النقص”(44).
ومعنى هذا أن التجربة الصوفية تظل تضعنا في حال مجاوزة مستمرة للمعلوم السابق، مما هو موروث ومما هو قائم، على مستوى المعرفة، كما على مستوى الحياة.
إنها تجربة كشف مستمر، وتوهج مستمر، تجربة سفر معرفي لا حدود له، سفر في الذات، وسفر في الكون، في وقت واحد، كلما انفتح سرٌّ بدا مرتبطاً بأسرار أبعد وأعمق؛ لذا يبدو الصوفي، على الدوام قلقاً، منخطفاً، شاطحاً، لا يقر له قرار، يفتتح عوالمه ليتجاوزها، تدهشه حين يعانقها لأول مرة، فيظل يخلقها المرة بعد المرة، ليعيش دائماً في المدهش المفاجئ. وكما يقول السهروردي: “التصوف كله اضطراب، فإذا وقع السكون فلا تصوّف”(45).
الهوامش:
(18) الكلاباذي: التعرف لمذهب أهل التصوف، 131، دار الكتب العلمية، بيروت 1400ه/1980م.
(19) انظر: ابن عربي، فصوص الحكمة، ج1/ 55، حققه: أبو العلاء عفيفي، ط2، دار الكتاب العربي – بيروت 1980م.
(20) الكلاباذي: التعرف لمذهب أهل التصوف، 124.
(21) السراج: اللمع، 417.
(22) المصدر نفسه، 335.
(23) المصدر نفسه، 553.
(24) المصدر نفسه، 424.
(25) أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3/17.
(26) القشيري: الرسالة، ج1 /217.
(27) المصدر نفسه، ج1 /217.
(28) انظر عاطف جودة نصر: شعر عمر بن الفارض، 297، وكذلك انظر عبد الخالق محمود: شعر ابن الفارض في ضوء النقد الأدبي الحديث، 80-81.
(29) السهروردي: عوارف المعارف، حاشية إحياء علوم الدين للغزالي، ج1 /220.
(30) المصدر نفسه، ج2/26.
(31) السراج: اللمع، 285.
(32) المصدر نفسه، 285.
(33) الكلاباذي: التعرف لمذهب أهل التصوف ، ج1/220.
(34) ابن عربي: الفتوحات المكية، ج3 /508.
(35) المصدر نفسه، ج2 /311.
(36) ابن عربي: المصدر نفسه.
(37) المصدر نفسه، ج3/377.
(38) المصدر نفسه، ج3/ 377.
(39) المصدر نفسه، ج2/311.
(40) الغزالي: الإملاء عن إشكالات الإحياء، حاشية إحياء علوم الدين، ج1/62.
(41) الكلاباذي: التعرف لمذهب أهل التصوف، 138.
(42) المصدر نفسه، 138.
(43) القشيري: الرسالة، ج2 /506.
(44) الغزالي: إحياء علوم الدين، ج2 /217.
(45) السهروردي: عوارف المعارف، حاشية إحياء علوم الدين للغزالي، ج1 /291.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.