أول ما خلع من ملبس قبعته التي اتخذت لها شكل القمع. اتجه نحو المرآة بوجهه المطلي يتفرسهُ كمن يراهُ لأول مرة أو بالأحرى يتفرس دموعه المنزلقة من بين الألوان، تنساب لها حتى ذقنهُ المستديرة لتستقر أخيراً في حضنه تبلل سروالهُ الواسع بلونيهِ الأخضر والأصفر. حاول جاهداً زرع البسمة على ثغور عابسة فلم يفلح، استطاع سلب أنظارهم الحيرى، تابعوا حركاته البهلوانية بدهشة وإعجاب. أراد إدخال السعادة إلى قلوبهم النازفة وكسر حاجز الألم الذي فصل ما بينهم. إنها المرة الأولى التي يلمس بها تمازج الإحباط بالحسرة، حاول سدى اختراق سبيل انتحاري يؤدي إلى الهلاك. لامَ وجودهُ في قسم الأمراض السرطانية في أحد مستشفيات المدينة الكبيرة. ما الذي أتى بهِ، ولماذا هناكَ بالذات؟ كم كان اعتقادهُ خاطئاً عندما ظنّ أن الضعف يتملك أولئكَ الصغار الكبار. دهش برؤيته العزيمة تتصدر جباههم الشاحبة، رفضوا بصرامة الاستسلام لمرض خبيث فتّاك. لم يعد أي مظهر حياتي يجذب انتباههم لكثرة ما مرّ عليهم من مآسٍ. ظهر أمامهم كقزم متوسل، حركاته المُتقنة المُدربة زادتهُ ضعفاً وإحراجاً. يئس من استمالتهم ففقد شخصه المضحك ليتحول إلى مُهرّجٍ حزينٍ باكٍ. لأول مرة لا يحظى بالتصفيق، وكأنهم تحولوا إلى أصنام تفقد الشعور والشّعر، أي مستحيل يمكنه إرجاع قهقهاتهم وضحكاتهم الطفولية!؟ تزعزعت داخلهُ نية المغادرة مهزوماً أمام أولئكَ الجبارين فرأى أنه من الضروري بناء جسر يكون حافز الوصول إليهم. أزال أصباغ الوهم عن وجهه الكئيب، خلع ثيابهُ الفضفاضة واستسلم لبكاء تعدى حدود الصمت بكثير، همّ الرجوع إليهم حيث ينتظرون يشاطرهم أحزانهم ويشاركهم الترقب، لكن المفاجأة أكبر من التصوّر وأعظم. التصفيق يخترقُ الأركان البيضاء، والصدى يهز النوافذ المحكمة حيثُ تساهم أخيراً الأيدي النحيلة والأكف الهزيلة بإرجاع البسمة إلى ثغر المهرج الباكي، تمسح الدموع بأناملها عن وجنتين بائستين تحملان نظرات مشدوهة خجلة.