رحلتنا هذه المرة ستكون في أعماق إحدى قصائد الشاعر الكبير الدكتور محمد عبده غانم وهي (أنشودة البدر) وهي واحدة من روائع القصائد التي تصف منظر البدر الساطع والمؤتلق ليلاً.. منظر البدر الساطع الوضاء الذي يطل من علياء سمائه.. منظر بديع يحرك كوامن النفس التي تعشق الجمال.. رؤية البدر وهو كلوحة برتقالية تتدلّى في السماء مشرقة, وضاءة , تخلق في النفس المتعة والبهجة والانس.. وتضفي على الكون سحراً ورونقاً.. كثير من الناس يجدون مع البدر ألفة وانسجاماً.. ولعل شاعرنا واحد منهم.. فشاعرنا يرى أن البدر له سحر أخاذ فضوء البدر يحيل الكون كله فردوساً يفيض بشلالات من النور الخافت الذي لايفضح الأشياء ولايعرّيها.. بل يلقي عليها غلالة شفافة تجعلها تحتفظ بجمالها ومحاسنها وخصوصيتها.. ضوء القمر الشفاف يضفي على الأشياء غموضاً محبّباً وفتنة خاصة.. وهذه هي الميزة التي دفعت بالكثير من الشعراء للتغزل بالقمر.. وصار للقمر بأطواره المختلفة نصيب الأسد من غزل الشعراء والعشاق والفنانين.. على عكس الشمس التي تفضح بضوئها القوي الأشياء التي كان يجب أن تكون مغلّفة بشيء من الغموض المحبب.. ليل جميل تأتلق نجومه في أقاصي السماء ويشرق بدره الوضاء على الجبال والتلال والبحار والسهول ويحولها إلى فردوس تتراقص البهجة في كل أنحائه.. ويبدو أننا بحاجة للتوقف عند هذه القصيدة.. لنرى كيف ذاب الشاعر في هذا المحيط الرائع من الجمال الليلي.. فراح ينقل لنا هذا المشهد البديع.. فيقول: أنت أضفيت على العالم سحراً من سنائك صار فردوساً وصار الناس فيه كالملائك وكأن الصخرة الجرداء في النور سبائك والحصى در وهذا الماء ديباج الارائك أي جمال بديع وأي سحر هذا الذي نراه.. إن البدر قد جعل الدنيا فردوساً جميلاً وليس مجرد مكان عادي.. إنه فردوس جميل.. تحوّل الناس فيه إلى ملائكة حتى الصخرة الجرداء الصماء كأنها وضوء البدر يغمرها سبيكة لامعة من الذهب والحصى المتناثر في كل مكان كأنه درر من الذهب اللامع النفيس.. حتى مياه البحيرات والأنهار بدت هي الأخرى وكأنها بسط من الحرير الناعم الشفاف.. لقد خرج الكون هنا عن طبيعته الأصلية.. وتحول إلى فردوس مقدس كل شيء فيه أصبح نفيساً وذا قيمة ويمضي الشاعر قائلاً ومخاطباً البدر: أين هاروت ليلقي أرضه تحت سمائك إيه يابدر وهل تنفع (إيه) في بقائك ليت هذا العمر قد كان قروناً من مسائك حب الشاعر للجمال جعله يتحسر على إسراع البدر في أفوله.. كما يتضح من المقطع السابق.. وحبه لمنظر البدر ولمتعته التي يحس بها والأنس الذي يملأ كيانه تمنى لو أن هذا الليل الجميل المؤنس يطول كثيراً ولاينتهي بل يمتد قروناً من الزمن.. وتزداد الحسرة مرارة حين يبدأ البدر يتوارى لتبدأ رحلة أفوله واحتجابه فيقول الشاعر: لاتولّ الوجه ما أقسى الليالي في جفائك يتجلّى عالم الخلد لعيني في ضيائك كم تناديني وكم يطربني صوت ندائك أنا من يفهم يابدر أعاجيب غنائك إن هذا الليل في قلبي لحن من بهائك ماجت الأرض به من طرب عند لقائك