سَقَى سَقَى تلكَ الربُوع الغمام واسبل عليها كلّ ماطِرْ يتميز شعراء الأغنية اليمنية عن غيرهم من شعراء الأغنية العربية بفرادة التصوير والتعبير.. فحتى شعر أغانينا العامية لا يخلو من سحر أخّاذ، فيصل إلى مرتبة تنأى به كثيراً عن الإسفاف والسقوط في لجّة التعبير المستهلك والألفاظ الساذجة المهترئة كما نلحظ ذلك في جزء كبير من الأغنية العربية.. فالأغنية اليمنية بشقيها الفصيح والعامي استطاعت أن تتبوأ منزلة رفيعة على مستوى الداخل والخارج .. وهذه بحد ذاتها قضية هامة بحاجة إلى وقفة مطوّلة.. غير أن هذه إلماحة سريعة تؤكد أصالة الأغنية اليمنية وعراقتها, فلو حاول الواحد منا تتبّع ملمح جمالي واحد للأغنية العربية سيجد المقارنة بينه وبين ما هو موجود في الاغنية اليمنية صعبة وبعيدة.. فالثراء وغزارة التنوع الفني والجمالي سمة من سمات الأغنية اليمنية يجعلاها في الصدارة على مر الأيام ويكسباها الخلود والبقاء.. تعالوا نرى كيف أخذ “الجبين” - مثلاً - مساحة من عناية واهتمام الشعر الغنائي.. وكيف أضفى على الجبين إشراقاً وألقاً وبهاءً.. ويطيب لي في كثير من التناولات أن أبدأ بالشاعر أحمد عبدالرحمن الآنسي لأنه واحد من أبرز كتّاب الشعر الحميني, فكلماته لها جرس يكاد برقته أن يلامس شغاف القلوب.. في بعض الأحيان نلجأ إلى إيراد مقطع يطول أو يقصر مع أن الشاهد يكون في أحد الأبيات وهذا نفعله لكي يتضح المعنى وتصل الصورة إلى ذهن القارئ كاملة وغير مبتورة.. فهذا مقطع من إحدى قصائد أحمد عبدالرحمن الآنسي يقول: نعم فهذا الرشا الفتّان ريم الخبا الغاني المشهور حكى جبينه قمر شعبان والليل حكى جعده المضفور ويقول في مقطع آخر: أبلج كمثل البدر في الاستواء طلعة جبينه في الدرية أدعج روى هاروت فيما روى عن مقلتيه البابلية وفي مقطع أخر يقول: يامن جبينك مع الغرّة ينوب عن القمر والغزال الشاقرة إنصاف صّبك عليك واجب وجوب فما سوى الوصل سلوة خاطرهأ أقسم بمن مثّلك تسبى القلوب إني أحبك محبة ظاهرة لقد حلّ في قلب الشاعر ظبي جميل يكاد- حتى البدر نفسه – يغار من جماله وكماله, ظبي صنعاء الذي في ساحة القلب قد حل وبني فيه أبيات, من جبينه أغار بدر السماء وهو أكمل منه في كل الأوقات. في المقطع الآتي يتمنى الشاعر أن يمنّ الله على ربوع الحبيب بالمطر والغمام الندية وأن يعمها الخير ومن أجل حبّه وشوقه لحبيبه الذي يقطن في هذه الديار فقد وزّع سلامه وتحياته لكل من فيها: سقى سقى تلك الربوع الغمام واسبل عليها كل ماطر وعمّ من فيها جزيل السلام وخص فتّان النواظر مَنْ غرّته مثل القمر في الظلام وللدرايا السود ضافر”1” على جبين أخجل بدور التمام ورد طرف الشمس حائر وهكذا تتوالى المقاطع جميلة ساحرة وإيقاعية يتمنى المرء أن يطيل معها التجوال إلى ذروة المتعة التي لا يمكن لها أن تنقطع عن قارئ يمضي قدماً في تجواله الهادئ في فراديس هذا الشاعر المبدع .. فهذا مقطع من إحدى قصائده يقول: أقسم بطلعة ذا الجبين الأغر ونون هاتيك الحواجب والمقلتين الساجية بالحور وبالمسالس والذوائب “2” كل القلوب العاشقة لك هدر جَمْعَة وهي عندك ذوائب “3” وفي المقطع الأخير يطل على الشاعر نور مشرق لا من القمر بل من نافذة خشبية واسعة واتساعها يكفي لتطلّ منه باهية المُحيّا فيقول: يا ناس لي خل قد أسفر بنور يبهر من الروشان صّبر”4” جبينه بحرف احمر يامن يصبّر”5” شجي ولهان والفنان القدير أيوب طارش يندهش كثيراً حين يرى الجبين وقد بدّد بنوره وإشراقه ظلام الليل الحالك فيصدح في أغنية “وامعلق بحبل الحُب” والحبين حين بدالي قلت ذا نور الاصباح في سواد الليالي في خدوده وصدره ورد قاني وتفاح سلسبيله دوى لي ويقول الشاعر المبدع أحمد فضل القمندان في إحدى قصائده: لقيت في المسقى غزال معشوق غزال أو قمري مذهّب الطوق جبين يتلألأ وجعد منذوق ورمح غساني يجي على الذوق لمه لمه يمسي الفؤاد مشقوق يا عود ماوردي ومسك منشوق وفي اغنيته الرائعة “يامنيتي ياسلى خاطري” يقول: جبين لك بيضاً هلالية وجعد أسود هنيدي رام رام نحنا عبيدك في الهوى جملة وانا أحبك ياسلام ونختتم هذه العجالة، بمقطع أثير إلى نفوس الكثيرين منا.. فكثيراً ما نردّده ولا نمل ترديده وغناءه.. والمقطع يقول: يا باهي الجبين كم مرت سنين وأنا في أنين ليلى من بحين من غيرك منى قلبي يطفّي لوعتي من ذا يشبهك ياذا أنت باشجاني تسيّل دمعتي هبْ عمري معك الهوامش: 1 الدرايا: جدائل الشعر المضفورة. 2 الذوائب: جمع ذؤابة وهي خصلة الشعر النافرة. 3 جمعه وهِيْ عندك ذوائب: أي قلوبنا جميعاً ذائبة من شدة عشقها لك. 4 صّبر جبينه: أي نقش جبينه، وهي عادة قديمة. 5 يصّبر: يواسي. [email protected]