- عاجل بنك اليمن الدولي سيرفع قضايا ضد عدد من الاشخاص ويكشف عن أصوله وراس ماله الحقيقي ويمتلك 1.5 مليار دولار موجودات و46مليار رأس مال كأكبر بنك يمني    الحوثيون يقيلوا موظفي المنافذ ويجرونهم للسجون بعد رفضهم السماح بدخول المبيدات المحظورة    وزير إصلاحي الجنوب لا يمكن أن يتوحد مع نظام امامي في صنعاء    مصر تحصل على عدد من راجمات صواريخ WS-2 بمدي 400 كم    منجز عظيم خانه الكثير    سبب انزعاجا للانتقالي ...الكشف عن سر ظهور الرئيس علي ناصر محمد في ذكرى الوحدة    الهلال يُشارك جمهوره فرحة التتويج بلقب الدوري في احتفالية استثنائية!    اتالانتا بطلا الدوري الاوروبي لكرة القدم عقب تخطي ليفركوزن    في سماء محافظة الجوف.. حكاية سقوط حوثي.    محاولا اغتصابها...مشرف حوثي يعتدي على امرأة ويشعل غضب تعز    سموم الحوثيين تقتل براءة الطفولة: 200 طفل ضحايا تشوه خلقي    الكشف عن القيادي الحوثي المسؤول عن إغراق السوق اليمني بالمبيدات المحظورة    قيادي انتقالي: تجربة الوحدة بين الجنوب واليمن نكبة حقيقية لشعب الجنوب    "أهل شرعب أرق قلوباً و حسين الحوثي إمام بدعوة النبي إبراهيم"؟" حوثيين يحرفون احاديث الرسول وناشطون يسخرون منهم (فيديو)    ساعة صفر تقترب: رسالة قوية من الرياض للحوثيين    أول تعليق حوثي على إعلان أمريكا امتلاك الحوثيين أسلحة تصل إلى البحر الأبيض المتوسط    بمناسبة يوم الوحدة المغدور بها... كلمة لا بد منها    السفارة اليمنية في الأردن تحتفل بعيد الوحدة    شاب سعودي طلب من عامل يمني تقليد محمد عبده وكاظم.. وحينما سمع صوته وأداءه كانت الصدمة! (فيديو)    تغاريد حرة .. الفساد لا يمزح    وزارة الشؤون الإجتماعية والعمل تقر تعديلات على لائحة إنشاء وتنظيم مكاتب التشغيل الخاصة    بيب يُعزّز مكانته كأحد أعظم مدربيّ العالم بِحصوله على جائزة أفضل مدربٍ في الدوري الإنجليزي!    رئيس انتقالي لحج يتفقد مستوى النظافة في مدينة الحوطة ويوجه بتنفيذ حملة نظافة طارئة    إجتماعات عسكرية لدول الخليج والولايات المتحدة في العاصمة السعودية الرياض مميز    للوحدويين.. صنعاء صارت كهنوتية    الهجري يتلقى التعازي في وفاة والده من محافظي محافظات    سيلفا: الصدارة هدفنا الدائم في الدوري الانكليزي    مفاوضات إيجابية بين بايرن ميونخ وخليفة توخيل    اليابان تسجل عجزاً تجارياً بلغ 3 مليارات دولار    الحكومة اليمنية ترحب بقرار إسبانيا والنرويج وايرلندا الإعتراف بدولة فلسطين مميز    رونالدو على رأس قائمة منتخب البرتغال في بطولة أمم أوروبا    نافذون حوثيون يسطون على مقبرة في بعدان شرق محافظة إب    انقلاب حافلة محملة بالركاب جنوبي اليمن وإصابة عدد منهم.. وتدخل عاجل ل''درع الوطن''    أغادير تستضيف الملتقى الأفريقي المغربي الأول للطب الرياضي    إعدام رجل وامرأة في مارب.. والكشف عن التهمة الموجهة ضدهما (الأسماء)    اعلان القائمة الموسعة لمنتخب الشباب بدون عادل عباس    ورحل نجم آخر من أسرة شيخنا العمراني    مفاتيح الجنان: أسرار استجابة الدعاء من هدي النبي الكريم    بطل صغير في عدن: طفل يضرب درسًا في الأمانة ويُكرم من قِبل مدير الأمن!    ما بين تهامة وحضرموت ومسمى الساحل الغربي والشرقي    إحصائية حكومية: 12 حالة وفاة ونحو 1000 إصابة بالكوليرا في تعز خلال أشهر    الآنسي يعزي في وفاة الشيخ عبدالمحسن الغزي ويشيد بأدواره العلمية والدعوية والوطنية    الحوثي للاخوان: "اي حرب ضدهم هي حرب ضد ابناء غزة"!!!!    هل يمكن لبن مبارك ان يحدث انفراجة بملف الكهرباء بعدن؟!    أين نصيب عدن من 48 مليار دولار قيمة انتاج الملح في العالم    فيديو فاضح لممثلة سورية يشغل مواقع التواصل.. ومحاميها يكشف الحقيقة    وهم القوة وسراب البقاء    "وثيقة" تكشف عن استخدام مركز الاورام جهاز المعجل الخطي فى المعالجة الإشعاعية بشكل مخالف وتحذر من تاثير ذلك على المرضى    وفاة طفلة نتيجة خطأ طبي خلال عملية استئصال اللوزتين    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    اليونسكو تزور مدينة تريم ومؤسسة الرناد تستضيفهم في جولة تاريخية وثقافية مثمرة    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية: مَوَاطِنُ المَاءِ في اللُّغَة
نشر في الجنوب ميديا يوم 22 - 12 - 2012

لم تكن العربية لُغةَ أَقَلِّيَة، ولا لُغةً جامدةً، أو ثانويةً. كما أنها لم تكن لُغةً مَنْكوبةً، أو محدودةَ الاستعمال. دائماً كانت العربية لُغةَ تخييلٍ وإبداع، ولُغةَ فكر، ونقد ومُساءلَة.
مَنْ يَعُد للإنتاجات الرمزية لهذه اللغة السامية العريقة، سيكتشف ما تَوَفَّرَت عليه من غِنًى، وما تَمَيَّزت به من حيوية، وقُدْرَةٍ على الإضافة والابتداع. في الشِّعر، كما القصة والرواية والمسرح، وفي الكتابات الفكرية، التي غالباً ما تكون مشغولةً بالمضامين، أكثر من انشغالها بالشَّكل، أو بالأسلوب. كثيرون هم المفكرون، مِنْ مُختلف مراحل التاريخ المعرفي للعربية، من كانوا واعين بالسِّياق الجمالي لهذه اللغة، وما يفرضه بناؤها الأسلوبي والتعبيري، من استعمالٍ خاصٍّ لِلُّغَةِ، كَوْن الفكرة، لا يمكن أن تكونَ قَوّيَّةً، مُؤَثِّرةً، إذا لم يكن الجسم الذي تلبسه، مُحايثاً للرُّوح، ومُواكباً لها.
ما كَتَبَهُ أبوحيان التَّوحيدي، وبشكل خاص في كتابه 'الإشارات الإلهية'، هو ذهاب بالعربية إلى مستوًى عالٍ من التَّعبير، ومن التَّصوير، الذي بَدَا أن أبا حيان عرف كيف يستثمر مُمْكِنات اللغة التعبيرية، وما تُتِيحه مجازاتُها من أبعاد دلالية، لا يمكن إدراكُها، إلاَّ من قِبَل عارفٍ بهذه اللغة، مُتَذَوِّقٍ لها، يعرف مَوَاطنَ الماء في اللغة، وفق التعبير الذي كان الشاعريون العرب القُدامى يستعملونه للتعبير عن شِعْرِيَة العربيةِ، وتعبيرِيَتِها، بأساليب سائلةٍ، فيها سَلاسَة، وفيها ما يكفي من مرونة اللسان، وفصاحته.
لم أُرِد أن آتحدث عن الشِّعر، حتى لا يُقالَ، إنَّ للشِّعْر أسلوباً خاصاً، وهو نوع من مُرَاوَدَة اللغة، ومُراوَغَتِها، أو بتعبير كوهن، وبعض اللسانيين البنيويين، هي انزياح عن المألوف، وعن ' لغةالنثر!'، رغم ما سيتعرَّض له المفهوم من نقد، كونه يعتبر لغة الشِّعر، لغة ثانية، أو خارجةً من النثر. أكتفي بالإشارة لبعض الكتابات النثرية القديمة والحديثة، لِما في طيَّاتِها من شعرية، تُوازي الشِّعرَ نفسَه، وتَسْمُو بالعربية إلى درجة من التعبير، تصبح معها دلالة النص قابلةً للانشراح، وليست تعبيراً جافّاً جامداً بارداً، يذهب للفكرة، دون أن يعي ما لِلُّغَة، في سياقها الجماليّ، من تأثير على نفس الإنسان، وما يمكن أن تتركه من آثار في القاريء الذي يقرأ اللغة، وهو يقودها، وليس من يقرأ اللغةَ كما لو أنها هي التي تقوده، تأخذه إلى 'المعنى'، في ما يبقى 'المبنى'، معزولاً، وخارج متناوَل العين التي لا يكون بَصَرُها حديداً، أو تقرأ النص من خارج لُغَتِه.
لم يأتِ محمد بمعجزات، مثل معجزات سابقيه من الرُّسُل والأنبياء، لِيُثْبِتَ بها نُبُوَّتَه، أو لِيَظْهر بها عجز خصومه. كانت معجزة محمد كتاباً، كانت لُغَةً، وبياناً.
في صريح آياته، أشار 'القرآنُ' إلى ما في لغته من إعجاز، وراهَنَ، ممن اعتبروه كلاماً مثل أي كلام، أن يأتوا بمثله، بنوع من التَّحدِّي، مما يشي بغيبية هذا الكلام، وخصوصية تركيبه، الذي كان عبد القاهر الجرجاني، دَرَسَه، ليَخْلُص لنظريته المعروفة في 'النَّظْم'، في كتابه 'دلائل الأعجاز'.
هذا ما سيفعله غيره، ممن اهتمُّوا باستثنائية التعبير القرآني، من مثل الباقلاني في كتابه 'إعجاز القرآن'، وفيه حاول فصل القرآن عن الشِّعر، بتمييزه بين 'القَصْدِ' في قول الشِّعر، وبين ما ليس مقصوداً، مما جاء في القرآن من آياتٍ موزونة، مُقَفَّاةٍ.
ويمكن الإشارة، أيضاً، إلى كتاب 'مجاز القرآن' الذي خصَّصَه أبوعُبَيْدَةَ لِما في القرآن من مجازات، هي ضمن ما في عربية القرآن من شاعرية عاليةٍ، ومن تركيبات لغوية، تجعل من هذه المجازات تفي بشرط المعنى الإعجازي في النص ذاته، أي في وحدة بنائه، وطبيعة تعبيراته التي هي خارجَ ما كان أتَى به الشِّعر، أو أَلِفَه الناس في الشِّعر.
لم أذكر القرآن لأُعطي العربيةَ صِفَةً مقدَّسَةً، أو لأجعل منه نهاية العربية، أو ذِرْوَتَها، بل لِأُبَيِّن، أن هذا أسلوباً، وصيغة في التَّعبير، سَحَرَت الناس، وجعلت ما فيه من دعوة تصل إليهم، ب 'فتنةِ' قَوْلِه، و 'بَيانِيَتِه' التي هي 'سِحْرٌ'، بتعبير الرسول نفسه، و'إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرا'.
ستروي عائشة، أن الرسول كان كثيراً ما يُرَدِّد بيتَ طرفة بن العبد:
سَتُبْدِي لَكَ الأيَّام ما كُنْتَ جاهلاً وسَيَأتِيك بالأخْبارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ
كتعبير عما في قول طَرَفَةَ هذا من معنًى، وما فيه من بيانٍ، وحكمة. رغم أن الشِّعْرَ عَرَف تراجعاً مع الدَّعْوَة، ولاَنَ وضَعُفَ، لأنه لم يبق شعر مجاز، أو 'كَذِب'، كما كان الأصمعي قال في كلمته المعروفة 'أعْذَبُ الشِّعْر أكْذَبه'. الكذب هنا، هو ما تمَيَّزَ به الشِّعر من مجازات، وتخييل، وهذا ما كان قَبْلَ القرآن دفع أفلاطون لطرد الشُّعراء من مدينته الفاضلة، لأنهم، كانوا، في ظَنِّه، يُفْسِدُون أخلاق الناس، بما يقولونه من أشياء لا علاقةَ لها بالواقع، الذي يصير هنا معادلاً ل 'الحقيقة!'.
وقد أذهبُ لكتابٍ آخر، مُهِم، في هذا السياق، كان أوَّل من تَنبَّه له طه حسين، وهو كتاب أبي العلاء المعري، 'الفصول والغايات'، الذي كتبه أبو العلاء نثراً، أو بما يستعصي على النثر، كما يستعصي على الشِّعر نفسه، إلى الدرجة التي قيلَ معها إن أبا العلاء كان في كتابه هذا يُحاكي القرآن في أسلوبه.
العربيةُ، في هذه الأعمال، وفي غيرها مما نجده في كُتُب المرويات القديمة، وفي كتب لتاريخ والسِّيَر، مثل 'تاريخ الأمم والملوك للطبري' و 'والبداية والنهاية لابن كثير' و 'الكامل 'لابن الأثير، و 'مروج الذهب للمسعودي'، وفي كتاب 'الأغاني' لأبي الفرج الأصفهاني، و 'صبح الأعشى' للقلقشندي، الذي خصَّصَه للكتابة، ولِكُتَّاب السلاطين، وغيرها من الطقوس التي راقفت ظهور الكتابة عند العرب، و 'لسان الميزان' و 'أسد الغابةô'، وغيرها من المصادر القديمة التي لا يمكن حصرها، أو ادِّعاء حصرها، لأنها كتب، في أغلبها تتجاوز الأجزاء العشرة، وهي، في طيَّاتها تَتَكَتَّم على الكثير مما يمكن اعتباره تاريخاً لِجمَالِيَة اللغة العربية، وما شَهِدَه هذا التاريخ من تطَوُّر في استعمال المجاز، وفي تراكيب العربية التي خَرَجَت من هيمنة الأسلوب القرآنى، واكتفت بتخييل الإنسان، وابتداعه لعربيته، أي لأسلوبه. هذا ما دفع، ربما الذين وجدوا في 'الإشارات الإلهية' وفي 'الفصول والغايات'، نوعاً من 'الإعجاز' التعبيري، ليقولوا بفكرة محاكاة هذين الكتابيْن للقرآن.
كما أنَّ القرآنَ نفسَه، لم يَنْجُ من العلاقة بِلِسَانِ الآخر، مما كان انتشر، في التداوُل العام بين الناس، بحكم العلاقات الاقتصادية والتجارية التي فرضت وجود غير العربي، من الكلام، في ما هو عربي.
لغةُ القرآن، اسْتَجابت، رغم خصوصيتها التعبيرية، لِما كان سائداً، حفاظاً على التواصُل والتأثير، ما جعلها تكون حامِلَةً لآثار الأُمَم والحضارات الأخرى، مما أحْصَاهُ القدماء، قبل الحديثين، من ألفاظ 'دخيلة' على العربية.
هذا الغِنَى الذي حفلت به العربية، لا نجد له مثيلاً في غيرها من اللغات، ليس لأن العربية أفضل هذه اللغات، بل لأن طبيعة العربية، وسياقات تاريخها، كانت تذهب إلى هذا التنوُّع، بفعل تنوُّع وكثْرَة اللهجات، وما عَرَفَتْه العربية من تَوَسُّع في معجمها، وفي ُمرادِفاتِها، التي كان فيها 'الاتِّفاق' بِتبَنِّي مقابلات الكلمة، بما كان يوازيها عند القبائل الأخرى، ما سيسمح بهذا التَّوَسُّع والغِنَى الذي عرفته العربية، ناهيك عما أتى من خارج العربية ذاتها، مما سيكون عُنْصُر قُوَّة وإضافة، لا عنصر ضُعْف ونَقْصٍ.
سيكون للعمل الأخير لأدونيس 'ديوان النثر العربي'، بأجزائه الأربعة، دور كبير في إضاءة بعض ما أظلم من التاريخ الجمالي للغة العربية. فهو حرص على اختيار نصوص 'نثرية!' تقع في البرزخ بين ما نَعْتَبِرُه لغةً لِ 'النثر' وأخرى لِ 'الشِّعر'. ما يلتبس على القاريء، وما لا يمكن حَسْمُ تصنيفة، أو تجنيسه، مثلما يحدث في بعض كتابات الصُّوفية، مما لا هو نثر ولا هو شعر، ومثلما يحدث في كِتابَيْ كُلٍّ من أبي حيان التَّوحيدي، وأبي العلاء المعري.
ما يَعْنِينِي هُنا، في هذا السِّياق، تحديداً، هو هذا التشويش الأجناسي الذي تُحْدِثُه هذه النصوص، التي كان أدونيس في مقدمة الكِتَاب تركها مفتوحة على ما لم تصل إليه يَدُه، أو ما لا يدخل في منهجية اختياراته، وهو تشويش يُلْقِي بالقاريء في برزخ اللغة ذاتها، حين تتأَبَّى على النثر، كما تتأبَّى على الشِّعر، لتبقى طليقةً من هذا التَّشْقِيق الذي أُحْدِثَ في تسميتها، مثلما تروي أسطورة 'الحب' القديمة، عن فَزَع الإله زوس من قوة الإنسان في تَوَحُّدِه، الذكر الأنثى والأنثى الذكر، فقام بِشَطْرِهِما، وإبْعادِهِما، بالصورة التي لا يمكن أن يَحْدُثَ معها أي لقاء. الحُبُّ، في هذا السياق سيكون هو لِقَاءُ كل شِقٍّ بشِقِّه الآخر، كما سيتَبَنَّى ذلك ابن حزم في 'طوق الحمامة'.
أليس النثر والشِّعر، هما تشقيقٌ لِلُّغَة الواحدة، وخروج بها من أصلهما الواحد، الذي نجده في بعض الكُتُب المقدسة القديمة، كما نجده في بعض الكتابات التي بقيت خارجَ هذا التشقيق، بما فيها بعض ما نسَمِّيه 'قصيدة النثر'، أو ما هو داخِل في المعنى الذي ذهَبْتُ إليه، في مفهوم 'الكتابة'، كما في كتابِي 'حداثة الكتابة في الشِّعر العربي المعاصر'.
بهذا المعنى، يكون التراث المكتوب، هو دخيرة تعبيرية جمالية، يمكن استثمارها في إطار بلورة مفهوم جديد لتَطْوير اللغة، ولِما يمكن أن يَحْدُثَ فيها من تجديدٍ وإضافةٍ. فقط يحتاج عملٌ من هذا القَبِيل إلى بحث في جمالية اللغة، وفي تاريخ هذه الجمالية، التي يبدو، في نقرأه من نصوص، مما أشرتُ إليه، ومِمَّا لا يسعف المكان لذكره، أنها مُتَوَفِّرَة، وهي مِلْء اليَد، والعمل الدَّؤُوب العارف بماء اللغة، المُتَحَسِّس لسلاستها، هو ما قد يكون الطريق نحو هذه الجمالية التي تتكتَّم على صيرورة العربية، وعلى ما عَرَفتْه من انتقالات وإبدالات، في مجازاتها، وفي دلالاتها التي كانت تتوسَّع باستمرار، لكن في غفلة ممن لا يقرأون العربية بما فيها من ماءٍ وحَلاوَة.
ليس التراث، وَحْدَه، ما يمكن أن نَسْتَشِيرَهُ بشأن هذه الجمالية، وهذه الطاقة الإبداعية الموجودة في العربية، بل إنَّ النصوص الحديثة، هي تعبير عن هذه الجمالية، في سياق مُغايِرٍ لِلُغَة الأسلاف، ولاقتراحاتهم. فالشِّعر الحديث، بمختلف تياراته وتَوَجُّهاتِه، أفادَ العربية باقتراحاتٍ، لم تكن تَسْتَجِيبُ لمعايير الأساليب الموروثة، ليس في قواعدها، وثوابتها النحوية، كما قد يُفْهَم من هذا المعنى، بل في تنويع التراكيب، وتفجير العلاقة بين الدَّا والمدلول، أو بين اللفظة وما تعنيه، من خلال تَمَثُّلات جديدة لطبيعة المنطق الذي يحكم هذه العلاقات، أو يكون حَكَمَها، من خلال صيغ تتكرَّر، وفقَ ما تركه لنا ماضي العربية، مِمَّا لم يعد يستجيب لِمَا حَدَثَ، في العقل والخيال العَربِيَيْن، من انتقال، ومن تغيير في طريقة التفكير، وتدبير الصُّوَر التي بها تُبْتَنَى شعرية الصُّورة، خارج المعنى البيانيّ، الذي كان فيه المُشَبَّه تابعاً للمُشَبَّه به، أو هو ملازم له، حتى في حالة المُفارقَة والمُباعَدَة.
وهو نفس ما حدث في الروايات الفارِقَة، التي لا تُكْتَب بلغة استهلاكية يومية فضائحية، بقدر ما هي أعمال، حتى عندما تعمل في إطار اليومي، فهي تضعُه على تُرْبَة متحرِّكة، تصير معها اللغة، هي ما يبني العلاقات بين الدَّوال، لا من خارج معيار التَّبْيِين الذي يقتل صيرورة العمل، ويحكم عليه بالمباشرة، وهو ما كانت وَقَعَت فيه تجارب شعرية عربية، اسْتَغْرَقَتْها السياسة، والوقائع المباشرة، فكانت شعراً سطحياً، لم يستطع البقاء في أراضي الشِّعر الذي هو قراءة دائمة مُسْتَمِرَّة، لا تنتهي بمجرَّد الانتهاء من قراءة النص.
فدور الإبداع، هو الإضافة والتغيير، والتَّخَطِّي المُسْتَمِر، ولعلَّ في مواجهة اللغة ما يفضح هذا المعنى، كون اللغة، هي ما يتوجَّه إليه المبدع، دون مُسايَرة التعبيرات التي تعمل المؤسسات الثقافية، على تكريسها وترسيخها، ووضعها في قوالب، لا تقبل بغير ما تَرْتَضِيه هي من نسق، ومن استقرار.
ليست المدرسة هي من يخلق اللغة، ويبتدعها، وليست وسائل الإعلام، ولا مجامع اللغة العربية، أو المنظمات التابعة للمؤسسات الثقافية العربية أو الدولية، هي من تُقَرِّر في شأن اللغة، بل إنَّ اللغة تخرج من هذا التراكم الذي تصنعه الكتابات الإبداعية القَلِقَة، التي لا تطمئن للسَّائد. فالمتنبي، بما ابتكره من تمثُّلات جديدة، في العلاقة بين دوَالِّ العبارات ومدلولاتها، وما خَلَقَهُ من سياقات جمالية، غير واردة في الشِّعرية العربية الوسيطة، كان يكتب الشِّعر، أو يقوله، من خارج هذه المؤسسات. نفس الأمر كان فَعَلَه أبو تمَّام، الذي رَفَضَتْه الذَّائِقَة اللغوية، واعتبرتْه مُخَرِّباً للعربية، وما في كلامه، لا علاقةَ له بالعربية. أبو تمام، اليوم، هو أحد أهم شُعراء العربية، وهو الشَّاعر الخالِق المُبْتَكِر المُبْدِع، وهو ضمن من أخرجوا العربية من نومها الذي كانت شرَعَت في اسْتِحْلائِه.
حين ذهبتْ منظمة اليونسكو إلى تخصيص يَوعم عالميٍّ للغة العربية، إلى جانب لغات عالمية كبرى، هي الإنجليزية والفرنسية والروسية والصينية والإسبانية، فهي كانت على وعي بما تحتويه هذه اللغة في ذاتها من حيوية، وحركية، وأنها ليست لغةَ أقلية، أو لغة خارج العلم والمعرفة والتقنية. يعرف كل من يتقنون هذه اللغة، إلى جانب غيرها من اللغات الأخرى، أن العربية، لا تعاني مشكلة في قُدُراتها التعبيرية، ولا في نَحْت المفاهيم، وتوليد المصطلحات، بل إن المشكلة موجودة في النُّظُم العربية التي هي نُظُم تتكلَّم بلسان معطوب، ومعتوه. وتعمل على تثبيت العربية كلغة وطنية في الدساتير، لكنها في، الواقع، غريبة، منفية، لا يَدَ ولا لِسانَ لها. فالإدارات والمؤسسات الرسمية، لا تحترم هذا الميثاق، والدولة، لا تملك إرادة حقيقية في تثبيت العربية في المخاطبات الرسمية، ولا في واجهات المحلات التجارية، ولا في لوحات الإشهار، وغيرها مِمَّا تفرضه علينا الإعلانات من أخطاء لغوية، ليس في نحو الكلمة أو إعرابها، بل في تركيب الجملة، وفي القصْد من الدلالة. وفي هذا، في حدِّ ذاته، ما يفضح اختلال العقل والفكر الذي يكتب بِلُغَة بهذه الطريقة، أو بتفادي العربية، واستعمال حروفها للتعبير بالعامية، التي ليست هي للغة الرسمية، أو اللغة التي خرجَ منها اللسان العربي، رغم ما في الدَّارجة من مفردات وتراكيب، جاءت من العربية نفسها.
لم يعد مقبولاً تَهْجِين العربية وازدراؤها، بهذه الطريقة المنهجية المخدومة، فمن لا لسانَ له، لا وُجود له، فنحن نوجد باللغة، أو بما يصدر عنَّا من إشارات ورموز، وحين نكون بدون رموز، وبدون إشارات، فنحن نكون لاجئين في خِيام غيرنا، وفي أراضيهم، لأننا بدون لسان، وبدون فكر، وبدون عقل وبدون خيال.
لا أقبل أن أكون لاجئاً في أراضي الآخرين، فأنا لي لغتي، لي فكر وثقافة وخيال، كما أنني لا أرفض أن أكون في ضيافة ألْسُنٍ أخرى، وفي ضيافة ثقافات، تعَلَّمْتُ منها أشياء كثيرة، دون أن تسلبني إرادتي، أو تُعْطِبَ لِساني. فزواج أكثر من لسان، يُتيح خدمة هذه الألسُن، ويُطَوِّرُها، شريطةَ، ألاَّ يكون لِساناً، أو لغة مُحْتَلَّة من قِبَل لغة أخرى، أو تابعة لها، كحصانٍ أعمَى، كما في المَثَل الفارسي.
ما زِلْتُ أتعلَّم العربيةَ، وفي كل كتاب أقرأه، قديم أو حديث، أكتشف غِنَى العربية، وحيويتها وعُمْقَها. فأنا أستمع للعربية بطريقة خاصة، ما أقرأه من نصوص، ومن كتابات، تفرض عَلَيَّ البحث عن مصادر الماء فيها، مثل حَفَّاري الآبار، فهم لا يشرعون في الحَفْر، إلا حين يكونون مُتأكِّدِين من أن هذا المكان فيه طرَاوَةٌ، وأن ثمة عذوبة في المكان، لا بُدَّ من تَتَبُّعِها، لِيَنْبَثِقَ الماء من هذه البئر العميقة، المليئة بِذَهَبِ الكلام، وَعَسَلِه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.