تسارعت التحرُّكات إقليمياً ودولياً باتجاه لملمة خلافات المحاور حيال الملف السوري لبلورة قاعدة تفاهمات لصياغة "تسوية" سلمية وسياسية للأزمة السورية. وعبر التعاطي السوري الإيجابي والمرن مع خطة دي نيستورا / الأممالمتحدة لتجميد القتال في حلب؛ عن نافذة انفراجات مهمة ليست بعيدة عن التفاهمات المنسقة ليتبعها دي ميستورا بدعوة أطلقها إلى "مفاوضات" شاملة بشأن الملف السوري.
معطيات مكثفة
أضحت "المبادرة الروسية"، كما أعلنتها جولة بوغدانوف الأخيرة في بيروت واسطنبول ودمشق، هي الآلية الأجد والأنشط فاعلية في الأثناء، وآخر الأخبار تؤكد أن واشنطن باتت، أيضاً، تتحرك في الاتجاه نفسه، بالنظر إلى معطيات لقاء السفير الأمريكي المفوض بملف سوريا ومعارضين سوريين في سويسرا على صلة بتحضيرات مؤتمر موسكو. كل ذلك يعقب زيارة بوتين الأخيرة إلى تركيا ومباحثاته مع أردوغان.
كانت دعوة ستافان دي ميستورا، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، الرامية إلى إطلاق عملية مفاوضات دون أية شروط مسبقة، بمثابة إعلان آخر بالمستوى الدولي إلى بداية مرحلة جديدة وإطلاق منفذ طوارئ سياسي بتفاهمات مسبقة.
تحصل التحرُّكات الروسية ورؤية الحل السياسي على دعم توفره تغيرات مهمة طرأت في المنطقة وتبعتها تغيرات في السياسات والقناعات مع ميل خليجي متزايد إلى تفويض القاهرة في الملف السوري؛ التي استقبلت وفداً سورياً رفيعاً مؤخراً (17 الجاري) برئاسة ابن عم الرئيس الأسد، على إيقاع جولة المسئول الروسي بوغدانوف في المنطقة، وتصريحاته اللافتة حول المبادرة الروسية لحل سياسي في سوريا.
وكانت صحيفة "الأهرام" دعت؛ في مقال قبل أيام، مصر لاستقبال شخصيات في النظام السوري، كما تستقبل المعارضة ليكون ذلك بمثابة الخطوة لإطلاق حوار بين الطرفين من أجل حل الأزمة السورية وتقريب وجهات النظر بين المواقف السورية المختلفة. الدعوة التي فهم منها مراقبون تلويحاً رسمياً بسيرورة تحرُّكات مشابهة فعلياً.
ووصل القاهرة (17 ديسمبر) وفد سوري برئاسة عماد الأسد رئيس الأكاديمية البحرية في اللاذقية، وابن عم الرئيس السوري بشار الأسد. وطبقاً لقناة الميادين "يلتقي الوفد، الذي لم تتأكد المعلومات حول هوية أفراده، عدداً من المسؤولين والشخصيات المصرية خلال الزيارة، التي تستمر عدة أيام. وصرَّحت مصادر مطلعة بأن الوفد وصل على متن طائرة سورية آتية من دمشق. ويضم خمسة أفراد لبحث تطورات الوضع في سوريا، على ضوء الموقف المصري الذي يؤيد الحل السياسي لأزمتها".
وفي وقت لاحق على تولي الفريق عبدالفتاح السياسي منصب الرئيس في مصر، سرت أخبار وتصريحات حول تبني مصر مبادرة باتجاه سوريا. ويعتقد مراقبون أن التحرُّكات الروسية تنطلق من خلفية لا تنفصل عن الدور المصري المفوَّض خليجياً.
وكانت زيارة وزير الخارجية الروسي لافروف إلى الرياض الشهر الماضي ولقائه العاهل السعودي، حلقة في سلسلة معطيات بنفس السياق.
قناعة عن "حاجة"
أكثر من كونها قناعة سياسية تتراكم في المنطقة لمصلحة حل سياسي ومخرج طوارئ من المستنقع السوري، فإنها باتت في واقع الحال "حاجة" ماسة؛ بعد تطاول أمد الحرب ونزيف الدم على أعتاب العام الخامس توالياً وتفجّر الظاهرة الإرهابية المتطرفة الأعتى والأكثر دموية (داعش، النصرة) من رحم الأزمة والحرب التي غذتها عوامل خارجية باتت هي نفسها مهددة بخطر النتائج العكسية التي أفرزتها التدخلات والتداخلات في توجيه الأحداث على الأرض وسياسياً.
وبينما بقي صمود الجيش والنظام والدولة في سوريا معبِّراً عن نفسه وعن تماسك الجبهة الداخلية يصعب اختراقه، فإن كافة أشكال الدعم وموارده التي توخَّت إنتاج جسم سياسي بديل في أوساط المعارضة باءت بالفشل وبقي شتات المعارضين تتوزعه وتتنازعه العواصم والمرجعيات الداعمة إقليمياً ودولياً، ولكل حساباته وأولوياته سبباً ونتيجة.
تحرُّكات المبادرة الروسية - "بوغدانوف"
وكان أكد الرئيس السوري بشار الأسد في (10 الجاري) "أن دمشق تتعامل بإيجابية مع الجهود الروسية لحل الأزمة السورية"، لدى استقباله، في دمشق، مبعوث الرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، "في إطار مساع حثيثة تقودها موسكو لوضع أسس حوار سوري سوري يخرج البلاد من عنق الزجاجة إلى استقرار طال انتظاره".
وقبلها بيومين (8 ديسمبر) بحث بوغدانوف، العائد من بيروت واسطنبول، وسفير دولة قطر لدى موسكو سعود المحمود، سبل إيجاد حل للأزمة السورية.
وقالت الخارجية الروسية، الاثنين 8 ديسمبر/ كانون الأول: إن اللقاء، الذي جاء بطلب من الجانب القطري، تطرق إلى العلاقات الثنائية بين البلدين، إضافة لتبادل الآراء حول مختلف المسائل الحيوية في منطقة الشرق الأوسط، ومنها التسوية السياسية للأزمة السورية.
وبحسب وكالة أنترفاكس الروسية قال بوغدانوف: "من المهم الآن أن تستأنف قوى معارضة بناءة في سوريا الحوار السياسي مع دمشق الرسمية في مواجهة خطر الإرهاب الدولي".. مضيفاً، أن أنشطة المعارضة لا يجب أن تكون ستاراً للإرهابيين بشكل أو بآخر". ومؤكداً، "أن موسكو أبلغت شركاءها، أكثر من مرة، أنها مستعدة لمواصلة العمل في إطار "روسياوالولاياتالمتحدةوالأممالمتحدة"، للتحضير لإنعاش العملية السياسية الهادفة إلى التسوية السلمية في سوريا".
وفي اليوم التالي (9ديسمبر) التقى بوغدانوف في موسكو وفداً من لجنة متابعة الحوار الوطني السوري لبحث تداعيات الأزمة وسبل إيجاد حل لها، وذلك في إطار سعي موسكو لإيجاد طريق للحل السياسي للأزمة.
وقالت وكالة الأنباء الروسية، إن لجنة متابعة الحوار الوطني بسوريا "بحثت، في مقر الخارجية الروسية، آخر المستجدات مع مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى الشرق الأوسط، وتم الحديث في الخارجية الروسية عما في جعبة المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا من أفكار، إضافة إلى تفاصيل عقد لقاء للمعارضة على اختلاف تشعباتها وذلك تمهيداً للحوار السوري - السوري على أسس جنيف".
وخلال زيارته بيروت، مطلع ديسمبر، التقى بوغدانوف عدداً من المعارضين السوريين ودار الحديث عن سبل دفع العملية السياسية التي تقودها موسكو لتسوية الأزمة السورية. حيث "تبادل مع كل من هيئة التنسيق وتيار بناء الدولة، وجهات النظر حول أطر الحل السياسي"، كما ذكرت "روسيا اليوم" في حينه. علاوة على سلسلة لقاءات عقدها المسئول الروسي مع معظم القادة السياسيين في لبنان طغى عليها الشأن السوري. كما التقى بمعارضين سوريين في اسطنبول.
المتغير الكوبي
إلى هذا التقى السفير الأميركي المكلف بملف سوريا "روبنشتاين"، يوم الجمعة، في سويسرا، المعارضين السوريين، معاذ الخطيب، وقدري جميل، كلاً على حدة، و"ناقشوا تحضيرات مؤتمر موسكو مطلع العام المقبل".
وإذا أخذ بعين الاعتبار رأي مراقبين ومحللين، فإن الانفتاح الأمريكي المفاجئ على كوبا، وإعلان الرئيس باراك أوباما ونظيره راوول كاسترو، عن إسدال الستار على أكثر من نصف قرن من الحصار الأمريكي والقطيعة مع كوبا، ليس بعيداً تماماً عن الانفتاح الأمريكي على المبادرة الروسية لسوريا قابله تجاوب كوبي للانفتاح على المبادرة الأمريكية للتقارب، وبدء صفحة جديدة من العلاقات بين البلدين: الولاياتالمتحدة، وكوبا الحليف الأبرز لروسيا في الجانب الآخر من العالم (الغربي).