انهيار وافلاس القطاع المصرفي في مناطق سيطرة الحوثيين    "استحملت اللى مفيش جبل يستحمله".. نجمة مسلسل جعفر العمدة "جورى بكر" تعلن انفصالها    فضيحة تهز الحوثيين: قيادي يزوج أبنائه من أمريكيتين بينما يدعو الشباب للقتال في الجبهات    الهلال يُحافظ على سجله خالياً من الهزائم بتعادل مثير أمام النصر!    مدرب نادي رياضي بتعز يتعرض للاعتداء بعد مباراة    خلافات كبيرة تعصف بالمليشيات الحوثية...مقتل مشرف برصاص نجل قيادي كبير في صنعاء"    في اليوم ال224 لحرب الإبادة على غزة.. 35303 شهيدا و79261 جريحا ومعارك ضارية في شمال وجنوب القطاع المحاصر    الحوثيون يتكتمون على مصير عشرات الأطفال المصابين في مراكزهم الصيفية!    رسالة حاسمة من الحكومة الشرعية: توحيد المؤتمر الشعبي العام ضرورة وطنية ملحة    الدوري السعودي: النصر يفشل في الحاق الهزيمة الاولى بالهلال    الدكتور محمد قاسم الثور يعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقه    الطرق اليمنية تبتلع 143 ضحية خلال 15 يومًا فقط ... من يوقف نزيف الموت؟    منظمة الشهيد جارالله عمر بصنعاء تنعي الرفيق المناضل رشاد ابوأصبع    الحوثيون يعلنون إسقاط طائرة أمريكية MQ9 في سماء مأرب    السعودية تؤكد مواصلة تقديم المساعدات والدعم الاقتصادي لليمن    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن في محافظة إب    بن مبارك يبحث مع المعهد الملكي البريطاني "تشاتم هاوس" التطورات المحلية والإقليمية    مسيرة حاشدة في تعز تندد بجرائم الاحتلال في رفح ومنع دخول المساعدات إلى غزة    رئيس مجلس القيادة يناقش مع المبعوث الخاص للرئيس الروسي مستجدات الوضع اليمني مميز    المطر الغزير يحول الفرحة إلى فاجعة: وفاة ثلاثة أفراد من أسرة واحدة في جنوب صنعاء    مليشيا الحوثي تنظم رحلات لطلاب المراكز الصيفية إلى مواقع عسكرية    تستضيفها باريس غداً بمشاركة 28 لاعباً ولاعبة من 15 دولة نجوم العالم يعلنون التحدي في أبوظبي إكستريم "4"    بيان هام من وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات من صنعاء فماذا قالت فيه ؟    بعد أيام فقط من غرق أربع فتيات .. وفاة طفل غرقا بأحد الآبار اليدوية في مفرق حبيش بمحافظة إب    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    تهريب 73 مليون ريال سعودي عبر طيران اليمنية إلى مدينة جدة السعودية    تدشيين بازار تسويقي لمنتجات معيلات الأسر ضمن برنامج "استلحاق تعليم الفتاة"0    شاب يمني يساعد على دعم عملية السلام في السودان    الليغا ... برشلونة يقترب من حسم الوصافة    أعظم صيغ الصلاة على النبي يوم الجمعة وليلتها.. كررها 500 مرة تكن من السعداء    الخليج يُقارع الاتحاد ويخطف نقطة ثمينة في الدوري السعودي!    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    مأرب تحدد مهلة 72 ساعة لإغلاق محطات الغاز غير القانونية    مبابي عرض تمثاله الشمعي في باريس    العليمي يؤكد موقف اليمن بشأن القضية الفلسطينية ويحذر من الخطر الإيراني على المنطقة مميز    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا لكرة القدم للمرة ال15 في تاريخه    النقد الدولي: الذكاء الاصطناعي يضرب سوق العمل وسيؤثر على 60 % من الوظائف    رئيس مجلس القيادة يدعو القادة العرب الى التصدي لمشروع استهداف الدولة الوطنية    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    600 ألف دولار تسرق يوميا من وقود كهرباء عدن تساوي = 220 مليون سنويا(وثائق)    وعود الهلآّس بن مبارك ستلحق بصيف بن دغر البارد إن لم يقرنها بالعمل الجاد    المملكة المتحدة تعلن عن تعزيز تمويل المساعدات الغذائية لليمن    وفاة طفل غرقا في إب بعد يومين من وفاة أربع فتيات بحادثة مماثلة    سرّ السعادة الأبدية: مفتاح الجنة بانتظارك في 30 ثانية فقط!    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    وداعاً للمعاصي! خطوات سهلة وبسيطة تُقربك من الله.    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة نقدية تصحيحية لقرن من نظريات وممارسات الطب العقل- نفسي
نشر في التغيير يوم 17 - 03 - 2016

عندما يتناول الانسان موضوعا علميا فانه يحسن به ان يبدأ بما هو معلوم وثابت ولا شك فيه، وأن ينطلق من هناك مستخدما المنطق والتجريب، لأن ذلك من شأنه أن يقيه من الشطح والانسياق مع الخيال الى عوالم التيه كما حدث لمؤسس مدرسة التحليل النفسي سيجموند فرويد ونظيره يونغ ومن لف لفهما. وما الهذا، والانا، والانا الأعلى، والهو،
وتسميات كثيرة أخرىالا بنات الخيال الجامح المندفع.
الانا الأعلى هو ما نسميه الضمير طبقا لفرويد الذي يقول "انه على امتداد فترة الطفولة المديدة التي يجتازها الفرد الناشئ ويكون اعتماده في اثنائها على والديه تتشكل في أناه، كما بضرب من الترسب، هيئة خاصة تكون بمثابة امتداد للتأثير الوالدي. هذه الهيئة هي الانا الأعلى. وبقدر ما ينفصل الانا الأعلى عن الانا او يعارضه، يشكل قوة ثالثة لا مناص للانا من ان يعمل لها حسابا. ويعد صحيحا كل تصرف يصدر عن الانا ويلبي مطالب الهذا والانا الأعلى والواقع معا، وهذا ما يحدث حين يفلح الانا في التوفيق بين هذه المطالب المتباينة."(فرويد مخطط التحليل النفسي ص 10).
وهذا كله خيال في خيال، والواقع ان ما نسميه الضمير، على سبيل المثال لا الحصر، ليس الا آلية كف منشؤها الذاكرة لحمتها وسداها الخوف الذي يمنعنا من ركوب المخاطر المهددة للحياة سواء كانت مصادرها بيئية او اجتماعية أو وعيدا دينيا. وسيتضح لنا ذلك بجلاء حين ننتهي من قراءة هذه الاطروحة.
جمع العلماء والاعلاميون العلميون كما ضخما من الملاحظات والافلام التسجيلية حول الجوانب المتنوعة من طبيعة وسلوك الكائنات الحية، وأصبح معلوما وثابتا ان تكوينها وسلوكها محكومان بهدفين رئيسين هما حفظ الذات وحفظ النوع. وهذان الهدفان الرئيسان يتمظهران في الدوافع الغريزية التي تندرج في خدمتهما، فليس في الحيوان غريرة عدوانية لمجرد الاعتداء دون سبب من حفظ الذات أو حفظ النوع (الصغار والقطيع)، او القتل لمجرد القتل،أوالافتراس دونما حاجة ناشئة عن جوع،او الاغتصاب الجنسي دونما حاجة للتناسل وهلم جرا. فالحيوان يشعر في بيئته الطبيعية بالرضا ونشوة الحياة بإطاعة دوافعه الغريزية دون تزيد أو تفنن، لان السبل كلها مفتوحة أمامه وليس فيها عوائق مصطنعة كما هو الحال في المجتمع البشري.
في مقالة للدكتور إيريك فروم عالم النفس وفيلسوف علم الاجتماع ترجمتها ونشرتها في كتابي "من الثقافة العالمية" قام بإلقاء أضواء هامة على النشوة التي يحصل عليها الإنسان من ممارسة العنف حيث يقول: " إن مبدأ الالتذاذ بالعنف والسيطرة المطلقة على الأشياء والبشر لا يقتصر أبداً على مجال الإثارة الجنسية وحدها. فالمدرس الذي يهين أو يضرب أو يرعب تلميذه، وحارس السجن الذي يفرغ جام غضبه بإهانة وتهديد سجين لا حول له ولا قوة، والممرضة التي تفعل الشيء ذاته، بأسلوب موارب، بالمريض الذي لا يستطيع الاحتجاج لأسباب اجتماعية أو جسدية، والشخص الذي يضرب كلبه بلا رحمة إن لم ينفذ أوامره – كل هؤلاء إن هم إلا بعض الأمثلة على الالتذاذ بالعنف الذي ليس في حد ذاته جنسي الطابع. وغالباً ما يظهر الالتذاذ بالسيطرة الكاملة نفسه في صورة رغبة ملحة في تعذيب شخص ما، إذ أنه لا تكاد توجد طريقة أكمل للإحساس بالسيطرة المطلقة من إجبار شخص على معاناة الألم في الوقت الذي يكون فيه عاجزاً عن الرد أو الدفاع عن نفسه ضد المعتدي.
والالتذاذ بالعنف التدمير لا يتخذ دائماً أشكالاً بديهية كالتعذيب بل قد يتمظهر في العمل على خنق إرادة الآخر أو عفويته أو حريته. وهذا النوع من التدمير والعنف عادة ما يعقلن نفسه بالإدعاء بأنه ذو دوافع حسنه أو حتى بالقول أن دافعه هو الحب. وهناك نوع شائع من هذا المرض يسمى مرض "الاغتصاب والنهب والتدمير". وأعني به المرض الذي يظهر في سلوك الجنود المنتصرين في الحرب، سواء في الحروب القديمة أو في الحروب المعاصرة، وذلك عندما يسمح لهم ولو لوقت قصير بممارسة سلطة مطلقة على الشعب المهزوم. وهنا لا يكون اغتصاب النساء تعبيراً عن الرغبة الجنسية بل تعبيراً عن الرغبة في السيطرة المطلقة. وكذلك الحال أيضاً فيما يتعلق بالسرقة أو بتدمير ما لا يمكن حمله من أغراض. وبعبارة أخرى فإن خصائص الالتذاذ بالتدمير عبارة عن شعور بالقوة المطلقة ورغبة في التعالي على محدودية الوجود الإنساني حتى ولو ليوم أو بعض يوم. "
ويضيف فروم " إن من أحد الأسباب الرئيسية لتكون الالتذاذ المرضي بالعنف والتدمير، هو وجود شعور عميق لدى الفرد بانعدام الحيوية والملل والسلبية إزاء نمط حياة رتيب يصبغ الحياة باللون الرمادي في أعين الكثيرين. والشخص العاجز من هذا النوع يكون غير مبدع سواء في التفكير أو في المشاعر أو في العلاقات الشخصية أو في الأدب أو الفن. ويجد متعته في الأمر الوحيد الذي هو مضاد لمعجزة خلق الحياة، ألا وهو تدميرها. وصحيح أن مقدرة الإنسان على المساهمة الإيجابية في بناء الحياة تتطلب منه امتلاك القدرة الجنسية على الأقل، إن لم يمتلك القدرة على الشعور بالمحبة، كما تتطلب منه النشاط والمشاركة والاهتمام عندما يتعلق الأمر بالمساهمة البناءة في جوانب أخرى من جوانب الحياة. أما التدمير فإنه لا يتطلب إلا مسدساً أو سكيناً أو يدين قويتين. فهذا الضال يجد سعادة قصوى في إيهام نفسه بأنه السيد على الحياة التي لا يتمكن من الإمساك بها والمشاركة فيها بإيجابية. وهذا النوع من التدمير يتميز بمشاعر بدنية عارمة يشترك فيها الجسد كله، وذلك ما يجعله قابلاً للخلط بينه وبين الإثارة الجنسية. والحال أنه ليست كل إثارة بدنية عارمة إثارة جنسية وإن كان من الممكن مزجهما بسهولة".
وعن النظريات التي حاولت تفسير العنف يقول " أسهم فيه المحللون النفسانيون الفرويديون الذين لم يتبعوا فرويد في تصوراته، ولكنهم استنبطوا وجود ميول تدميرية لدى الإنسان. ويشاطرهم لورنز فكرتهم حول الميول التدميرية، ولكنه يربطها بتصورات تقول بأن العنف الموروث لدى الإنسان يرجع إلى عملية التطور التي انتقل بها الإنسان من عالم الحيوان (أي أنه دارويني في هذه النقطة بالذات). وحسب المحللين النفسانيين ولورنز، فإن العنف يتكون تلقائياً وبصورة عفوية في الجهاز العصبي وينمو ويتراكم، ولذلك يجب التعبير عنه لكي لا ينفجر فجأة حتى بدون قصد من الشخص. والعنف من وجهة النظر هذه لا يحتاج إلى إثارة أو استفزاز. وإنما ينشأ تلقائياً ويبحث حتى يجد تلك المثيرات التي تعطيه الفرصة للتعبير عن نفسه."
ويضيف فروم " والمشكلة الأساسية في الفكرة القائلة بأن العنف دافع ينمو تلقائياً وعفويا،ً تكمن في التفاوت الكبير الملاحظ في مقدار العدوانية لدى الأفراد والمجتمعات. وتشير الأدلة الإكلينيكية والأنثروبولوجية إلى أن هناك أناساً ومجتمعات لديهم مقدار ضئيل من العدوانية والسلوك التدميري، سواءً ما كان منهما موجهاً نحو الذات أو نحو الغير. كما تشير الأدلة أيضاً إلى أن هناك أفراداً ومجتمعات يتصفون بقدر عالٍ من العدوانية والنزعة التدميرية. فإذا كانت العدوانية دافعا مثلها مثل الجوع والرغبة الجنسية، فإن هذه الفروق الكبيرة في درجات العدوانية والنزوع إلى التدمير لا يمكن تفسيرها. إضافة إلى أن الاعتبار البيولوجي الخالص للحجة السالفة يضعفها عند مقارنة الرغبة الجنسية بالنزوع إلى التدمير. فمن الناحية العلمية (الثيلولوجية) فإن الفطرة تهتم ببقاء الجنس البشري وانتشاره، ولذلك يمكن فهم كون الرغبة الجنسية رغبة قائمة ودائمة. ولكن الميل إلى التدمير من ناحية أخرى ليس له إلا وظيفة دفاعية حفاظاً على الذات عند تعرضها للعدوان. ولذلك فإن تصور أن هذا النوع له نفس طابع الرغبة الجنسية يفتقر إلى المصداقية من الناحية البيولوجية. ولابد من ذكر أن الدراسات الجسمعصبية تشير إلى أن مراكز العدوانية تقع في الجزء الأسفل من الدماغ الذي يمكن تحديده، ويوازنه مركز كبح. ولذلك فلا يمكن أن تنشأ فيه مشاعر عدوانية ذاتية التغذية تنمو تلقائياً وتتزايد حتى تنفجر كما طرحته النظريات المذكورة أعلاه.
أما التصور القائل بأن العنف والميل إلى العدوان لدى الإنسان ناشئ عن أثر تطويري في عملية ارتقاء الإنسان من عالم الحيوان، تنقضه حقيقة أن الثدييات وخاصة القردة العليا هي أقل من الإنسان عدوانية ونزوعاً إلى التدمير بكثير. ففي أوساطها لا وجود تقريباً لأي عملية قتل لفرد من الجنس ذاته، كما أنه لم يلاحظ في سلوكها قتل لمجرد القتل لأعضاء الفصائل الحيوانية الأخرى".
المعلوم والثابت
1- يولد الكائن الحي مزودا بمعرفة وقدرة موروثة على التصرف الصحيح، منذ لحظة ولادته او انبثاقه، تساعده على البقاء حيا في الظروف البيئية الملائمة. وبعض انواعه يتبلر او يتحوصل او يبيت بياتا شتويا بانتظار الظروف الملائمة ليستأنف نشاطه. كما يستطيع بعضها ان يتطور كما هو الحال في الفيروسات والبكتيريا ليقاوم المواد المهلكة التي تطرأ على بيئته، في قدرة مذهلة من السيطرة على جيناته الخاصة واحداث تغيير فيها.
2- الكائنات الحية كلها كائنات اجتماعية وذلك نتيجة تكاثرها أيا تكن طريقة التكاثر، وهي تملك قدرة موروثة على التواصل ضمن نوعها، وتتضمن وسائل تواصلها الصوت والسونار والمواد الكيميائية والنبضات الكهربائية والتخاطر. ففي الأسماك ما يتحرك في تجمعات تضم الألوف بحركة منسقة موحدة، ومن الحشرات ما يعيش في مجتمعات شديدة التنظيم كالنحل والنمل.
3- يولدالكائن الحي مزودا بقدرة موروثة على الملاحظة والانتباه والتركيز وهي المهارات المطلوبة للتعلم ومن ثم اختزان ما تعلمه في ذاكرته واستحضار ما تعلمه عند الحاجة. تستوي في ذلك الأسماك والقشريات والحشرات والزواحف والطيور والثدييات وان كانت تتفاوت مهارات التعلم فيما بينها في الدرجة. وربما كانت تلك القدرة مما تتمتع بها الفيروسات ووحيدات الخلية والنبات أيضا.
4- يولد الكائن الحي بجهاز عصبي مكون من مركز هو الدماغ واعصاب منتشرة في الجسم متصلة به، وهذا المجموع له مهمة وحيدة هي حفظ حياة الكائن، وهو مبرمج، ان صح التعبير، على أداء هذه المهمة في إطار التحكم بوظائف الحس بكل أعضائه، عبر ميكانبزمات كيميائية وكهربية منسقة. وقد اعتقد الناس الذين امتلكوا الوعي ان الجهاز العصبي منقسم الى قسمين هما: لا ارادي وارادي، وهو خطأ ناشئ عن ربط حركات الأطراف بما يسمونه الإرادة، وربط حركة الأعضاء الحيوية في الجسم بالقسم اللا ارادي من الجهاز العصبي.
والحال انه تقسيم مصطنع ولا أساس له الا الوهم المحض. وتدل مراقبة سلوك الحيوانات العليا ان قدراتها في التعلم مندمجة مع قدراتها الموروثة لحفظ الذات، وهي تستخدم ما تتعلمه في تعزيز قدرات حفظ الذات، عن طريق اللعب والتصارع والوثب والعدو بحيث يعمل جسمها بأقصى كفاءة ممكنة اتاحها لها تكوينها الفيسيولوجي، إضافة الى ما تؤديه المعارف المكتسبة من التعلم كآلية كف تمنعها من التعرض لمخاطر بيئية مثل خوض صراعات خاسرة او التردي من شواهق او الوقوع في نيران تصادفها...الخ.
والحيوانات ما عدا بعض الداجنة منها لا تعرف القلق والاكتئاب المرضيين الذي يعاني منهما الانسان ما لم تتعرض الى مؤثرات ومواد في بيئتها اوفيالاسر والاحتجاز في ظروف سيئة فيصاب دماغها وجهازها العصبي بالتلف.
ولكن وظيفة الكف هذه،والتي تعني فيما تعنيه الخوف،والتي تزيد من مداها قدرة الانسان على التعميم ومن ثم الامتناع عن التعرض للتجارب، تعزز ظاهرة الكسل عند الانسان الذي تمكن من تامين طعامه واحتياجاته الأساسية عن طريق ابداعاته كتدجين الحيوان والزراعة والصناعة، الامر الذي يحول بينه وبين تطوير امكانياته البدنية فيصاب بأمراضوآفاتمنها السمنة وماينتج عنها والضجر وغيرها، وهو ما تشاركه فيه الحيوانات الداجنة التي ييسر لها الانسان احتياجاتها دون ان تبذل جهدا لتحصيلها.
وعلى ذلك فان الجهاز العصبي عند الانسان موحد وتظهر وحدته هذه في ردود أفعال الانسان في المواقف الطارئة حيث يختفي الكف وتظهر القدرات. ومن المعروف ان كل تدريب بدني يتلقاه الانسان يصبح جزءا من قدراته الموروثة التي تظهر عند الحاجة وكأنها أفعال انعكاسية، مثل حركات المصارعة والملاكمة والفنون القتالية بمختلف أنواعها، وكذا قيادة الآليات والطبع على لوحة أحرف الحاسوب، وما ينتج عن التدريب العسكري من تلافي الإصابة بالشظايا عن طريق الانبطاح وغير ذلك.وليس عبثا ان مدارس الفنون القتالية الشرقية تركز على التكرار المستمر والاسترخاء وتمارين التنفس والتركيز التأملي الذي يؤدي الى طرد الشكوك والوساوس ويشيع في الانسان الثقة بالنفس. بل ان التفكير المنطقي والقدرة على حل الأسئلة العويصة قدرة تكتسب بالممارسة والانشغال فتنضم بدورها الى القدرات الموروثة لتصبح تلقائية، تماما كالقدرات البدنية المكتسبة التي ذكرناها للتو.
الهذا والهو والأناوالأنا الاعلى
انطلق فرويد من فرضية تقول بان الحياة النفسية وظيفة لعضو بدني هو المخ او الجهاز العصبي، وان هذا الجهاز مؤلف من اقسام عدة. ويطلق فرويد على أقدم هذه الأقسام اسم الهذا؛ وهو يتضمن كل ما يحمله الكائن الإنساني معه عند ولادته، وفي المقام الأول الدوافع الغريزية الصادرة عن التنظيم البدني والتي تجد في الهذا اول نمط من أنماط التعبير النفسي. وانه يطرأ على شطر من الهذا تطور يجري فيه قيام تنظيم خاص يصبح وسيطا بين الهذا والخارج، ويطلق فرويد على هذا الوسيط اسم الانا، وينسب اليه مهمة حفظ الذات والتحكم في الحركات الارادية، والسيطرة على الدوافع الغريزية اما بالإشباع او الارجاء او الرفض. وبهذا الانشطار يتحول الهذا الى الهو المتوحش في مواجهة الانا العاقل، أي صورة من مستر جيكل ومستر هايد كما في الرواية الشهيرة. ثم يتخلق الانا الأعلى وهو عبارة عن الضمير الذي يتكون بفعل تأثير الوالدين والمجتمع ومن ثم يكبح الانا ويوجهه الى ما يرضي المجتمع. (فرويد – مخطط التحليل النفسي ص 8، 9، 10)
وفرويد كاتب متدفق مسترسل بتميز بخيال واسع، أشبه ما يكون بكتاب روايات الخيال العلمي.
يقول برتراند رسل "يمكن لكل معرفة سيكولوجية ان تعرض دون ادخال "الانا". زد على ذلك انالانا كما تعرف، لا يمكن ان تكون شيئا الا حزمة من الادراكات، وليست "شيئا" بسيطا جديدا. ولا يترتب على هذا فقط اننا لا يمكننا ان نعرف ما اذا كان ثمة "أنا" بسيطة أم لم يكن، وان الانا باستثناء كونها اشبه بحزمة ادراكات،لا يمكن ان تدخل في أي جزءمن معرفتنا، وهذه النتيجة هامة في الميتافيزيقيا، من حيث كونها تتخلص من آخر استخدام باق "للجوهر".
المجتمع الإنساني الحديث
أدى تطور السلطة في المجتمع الى حد المراقبة الفعالة والصارمة، والعقاب الذي لا هوادة فيه لكل خروج على القوانين وضعية كانت أو دينية والتي تحدد علاقة الانسان بالمجتمع ومؤسساته وافراده، الى جعل الانسان مقيدا الى حد كبير، وأصبح الطريق الى حياة طيبة،ضمن قيود المجتمع ووفق شروطه، محدودا ومزدحما لا يتمكن من سلوكه الا اقلية محظوظة، وبخاصة مع تنامي اعداد البشر، وسهولة إطالة اعمار الضعفاء بدنيا وعقليا ومواهبا، ومن ثم تضاؤل الاصطفاء الطبيعي والجدارة بالحياة التي كان يوفرها. ومن هنا صار الشعور بالإحباط والخوف والضجر ظاهرة عامة،مع ما تؤدي اليه البيئات المزدحمة في المدن من تجاهل للتربية البدنية التي هي عامل أساس في تكوين انسان سليم قوي، فانتشرت الاعصبة المرضية وظواهر الاختلال النفسي انتشار النار في الهشيم.
كنتيجة لذلك اتجه الناس الى وسائل بديلة للتنفيس والخروج من الحصار الخانق، فلم يجد الكثيرون في مجتمعات، تصالح افرادها مع أجسادهم ولا يسمحون بالحد من حرياتهم في التصرف بها كيفما شاءت اهواؤهم، الا الاتجاه الى ما أتيحلهم من التوسع في ممارسة العلاقات الجنسية وتعاطي الخمور دون موانع، وتوسعوا في سبل الاثارة والنشوة من الرياضة الى المسابقات المختلفة وممارسة الرياضة البدنية، والبحث العلمي والاكتشاف المثيران للإنسان بطبيعتهما، والاتجاه الى الادب والفن والعمل الاجتماعي التطوعي. ومن لم تساعده ملكاته ومواهبه لجأ الى المخدرات الممنوعة المحفوفة بالمخاطر الصحية التي تغيب الوعي، والتوسع في ممارسة الجنس سعيا وراء النشوة والرضا.
أما في مجتمعات أخرى تمنع الانفلات الجنسي وتحتقر الادب والفن، ولاتشجع المبادرات والعمل الخلاق وتفرض قيودا كثيرة على حرية التعبير،ومن جهة أخرى تعاقب بشدة متعاطي المخدرات والخمور فقد أصبح العنف البوليسي فيها بديلا يحظى بالشرعية ، ولذلك نجد هذه المجتمعات تحكمها أنظمة متسلطة لاتراعي قوانين ومعايير حقوق الانسان، وينتشر فيها كذلك العنف الديني والإرهاب المنطلق من مبررات وذرائع دينية،لتصبح كلها طرقا الى تنفيس الإحباط، ووسيلة الحصول على الشعور بالنشوة التي يهبها الجسم للمنتصرينفي ممارسة العنف،كمكافأة رئيسة على النجاح في تحقيق رغباته وكحافز قوي للتكرار، اذ ان الصراع العنيف جزء أساسي من وسائل الكائن الحي لحفظ الذات وحفظ النوع.
ولذلك فالنشوة والسعادة تعقب الانتصار في الصراع والنيل من الخصم المزعوم بأي شكل، او عند تحقيق ما يدخل في دائرة حفظ الذات والنوع من قريب او بعيد، مباشرة او مداورة، ولذلك تنتشر جرائم الاعتداء على النفوس والأموال واستهداف العناصر الضعيفة كالنساء والأطفال والمسنين، وتتشكل المنظمات الاجرامية لترويج الممنوعات وارتكاب كل ما يجرمه القانون،وذلك يرينا بالضبط سبب الشعبية الكبيرة التي تحظى بها أفلام الاثارة والعنف كعامل تعويضي عن طريق التماهي،وهو نفسهسبب الشعبية الكبرى لألعاب الفيديو العنيفة في كل المجتمعات الانسانية.
اما المستعدون في المجتمعات الإنسانية لغض النظر عن الموانع الدينية في المسائل الجنسية فيلجأون الى التوسع في ممارسة الشذوذ الجنسي الذي تسهل ممارسته بسبب كون الموانع القانونية التي تحرم الاختلاط بين الجنسينلا تشمل اختلاط افراد الجنس الواحد. كما تنتشر بينهم الانحرافات الجنسية الأخرى، كالسادية والمازوشية والنيكروفيليةوالفيتيشية ...الخ.
ومن الثابت والمعلوم ان أسباب الشذوذ و بعضالانحرافات الجنسية جينية، في الأساس الا ان انتشارها بسبب الأوضاع الاجتماعية أوسع. وهو ما يوجب البحث حول احتمال حدوث التغير الجيني نتيجة للممارسة.
الامراض النفسية والعلاج الاحدث
طبقا لمجلة العلوم أكتوبر 2010 فان ما نعرفه تاريخيا هو ان الأطباء من جميع الاختصاصات تقريبا كانوا يحاولون دائما استقصاء الأسباب الكامنة خلف الداء الذي يصيب مرضاهم قبل ان يقوموا بوضع خطة علاجية من شانها إزالة المشكلة من جذورها. الا ان الحال لم تكن كذلك في الماضي عندما كان الامر يتعلق بالأمراض العقلية او السلوكية نظرا لعدم توفر الوسائل القادرة على اكتشاف أسباب عضوية لها. وهكذا، فقد ظل الأطباء لأمد طويل يعتقدون ان هذه الامراض لم تكن سوى امراض عقلية، ويصفون للمصابين بها علاجا سيكولوجيا، والمعالجة السيكولوجية هي المعالجة الكلامية الغير الدوائية التي يتلقاها المريض على يد المختص بها.
اما اليوم فان وسائل البحث العلمي المتوفرة، القائمة على أسس البيولوجيا الحديثة والعلوم العصبية وعلم الجينوميات قد اخذت شيئا فشيئا تدحر النظريات السيكولوجية الصرفة التي سادت وحدها نحو قرن من الزمن (قرن فرويد ونظرائه)، وتستعيض عنها بأساليب علاجية جديدة للأمراض العقلية.
هناك عدد كبير من الامراض التي كانت تدرج تحت عنوان الامراض العقلية قد تم اليوم الاجماع على ان لها سببابيولوجيا كالتوحد والفصام والاكتئاب والوسواس القهري وحتى اضطراب الكرب التالي للصدمة يمكن ان تكون هي أيضا من اضطرابات الدماغ الفيسيولوجية.
لقد مكنتنا تقنيات التصوير المعاصرة من رسم خرائط للدماغ الحي، بحيث صارت قادرةعلى رصد الخلل الذي يطرأ على النشاط الوظيفي في المحطات المختلفة للدماغ أو في شبكة اتصالاتها. بهذه التقنية أصبحناقادرين لأول مرة على دراسة الاضطرابات العقلية انطلاقا من الفرضية القائلة انها تنشأ على أرضية اضطرابات تصيب شبكات اتصالات محطات الدماغ المتباعدة، أو تنشأ في بعض الحالات على خلفية خلل في تنسيق العمل في محطات دماغية تعمل عادة على نحو متزامن بعضها مع بعض. ويمكن تشبيه محطات الدماغ التي تعمل معا لإنجاز عمليات ذهنية طبيعية، بمجموعة من الدارات الكهربائية التي إذا اختلت وظيفتها يمكن ان تحرض عددا من الاضطرابات العقلية، كما تشير نتائج البحث العلمي الأخيرة.
وختاما فان الرسم البياني أو الخارطة الخاصة بكل اضطراب عقلي زعزعت اركان الطب النفسي، واحدثت تحولات عميقة بداخله، وفتحت ابوابا امام مزيد من التشخيص التجريبي للأمراض العقلية، وزودتنا بطريقة تفكير معمقة في أسباب هذه الامراض، وفتحت آفاقا جديدة أمام المساعي الرامية الى تطوير أساليب علاج أكثر فعالية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.