الموهبة لا تموت، حقيقة أكدها عندليبا الغناء والتمثيل عبدالحليم حافظ وأحمد زكي، اللذان رحلا عن عالمنا فيما إبداعاتهما لا تزال حاضرة وبقوة. فالعملاقان الأسمران، ليسا مجرد مطرب وممثل تصادف ذكرى رحيلهما في الأيام الأخيرة من شهر مارس/آذار كل عام الأول 30 مارس، والثاني 27 مارس بل هما نجمان فوق العادة، الأول استمر الاحتفال بذكرى رحيله ما يزيد على الثلاثين عاما، والثاني تمر هذه الأيام ذكراه السادسة ومازال يُحتفى به كممثل فوق العادة، فحليم فاقت شهرته كل أبناء جيله ومن سبقه وتلاه، وممثل فوق العادة، شهد له الجمهور وكل النقاد، وأبناء جيله والجيلان السابق له واللاحق عليه، وإلى جانب هذا كله، تجد أن بينهما مساحات تشابه قد صنعها القدر، ربطت بينهما بدءا من عبقرية الأداء والموهبة التي تفرد بها كل منهما في مجاله، مرورا بتجسيد الثاني لحياة الأول بأحلامها وأوجاعها، حيث جسد هذه الأحلام والأوجاع في ذروة إحساسه بها، واقترابه من الموت، لدرجة أنه لم يكمل بقية مشاهد الفيلم الذي حلم به طويلا عن حياة عندليب الغناء، وانتهاء بمشهد النهاية المأساوي لكل منهما رغم تباعد الفترة الزمنية بين رحيلهما إلى ما يقرب من ربع قرن، مرورا بمشوار مليء بالعذاب والدموع ولحظات فرح ويُتم، ما ترك آثاره على شخصيتيهما إنسانيا، وفنيا. بالتأكيد ثمة أشياء قدرية خلقت بين عندليبي التمثيل والغناء مساحات تشابه، هكذا بدأ كلامه الموسيقار هاني مهنى، وأضاف: ربما في مقدمتها أنهما من أبناء محافظة واحدة هي الشرقية وكلاهما أصيب بالبلهارسيا، غير أن زكي خضع للمعالجة في توقيت مبكر، ما أسهم في شفائه تماما، بعكس حليم الذي لم تكتشف حالته إلا في توقيت متأخر ما أثر في صحته كثيرا، بل وعجل من كلمة النهاية مبكرا. كلاهما خضع لجراحة عاجلة على يد الجراح نفسه، فالذي عالج أحمد زكي في بداية الألفية الثالثة، هو نفسه الذي عالج حليم في السبعينات من القرن الماضي وأسهم القدر في اهتمامه بصحة زكي بعد أعوام على رحيل حليم وبالملابسات نفسها أيضا، رحب زكي بالعملية على الرغم من خطورتها مسلّما أمره ومصيره لله، وهو ما فعله العندليب أيضا، ما دفع الطبيب المعالج إلى التأكيد على تشابه شخصيتيهما واتسامهما بالشجاعة في هذا الجانب تحديدا. العندليب والبريء ويقول الناقد طارق الشناوي: لم يكن حليم "عندليب الغناء" مجرد مطرب عادي أمتع الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج بفنه، بل كان صورة حية شاهدة على عصر بأحلامه وانكساراته، بأيامه ولياليه، وربما هو السبب نفسه الذي جعل صناع المسلسل التلفزيوني والفيلم اللذين قدما عنه، يلحقون عبارة "حكاية شعب" في عناوين العملين، حيث ارتسمت في حنجرته أحلام وآمال أمة بأسرها، سيظل حليم وطنا وحياة ورحلة طويلة، وربما كان التشابه بين سيرته وحياته وأوجاعه، سببا في إصرار الفتى الأسمر على تجسيد هذه الرحلة. فلا شك أن هناك تشابهاً إلى حد التطابق، زكي هو "حليم"، ولكن "حليم" الحلم وليس الفيلم الذي لم يكتمل كما كان يحب ويتمنى، الفيلم الذي سيظل محفورا في ذاكرة السينما دائما وأبدا، ليس لكونه يرصد لحظة رحيل فنان لم يخطفه الموت في الواقع من قلوب محبيه، بل لأنه أيضا يرصد لحظة احتضار فنان كان مدرسة خاصة في الأداء، حتى أنه اختلط على المشاهد أحيانا إدراك طبيعة المشهد الذي يتحرك أمامه، وهل هو عن موت عبد الحليم حافظ أم عن موت أحمد زكي نفسه الذي دخل تاريخ السينما مع فنانين قلائل في العالم أسعفتهم جرأتهم تصوير موتهم بأنفسهم. يستحق النجم الأسمر أحمد زكي بجدارة لقب نجم الثمانينات والتسعينات، فهو عبقري الأداء كما وصفه الفنان عمر الشريف، ولو أنه تمكن من إجادة اللغة الإنجليزية، لحفر اسمه من نور في السينما العالمية. اسمه بالكامل أحمد زكي عبد الرحمن، من مواليد مدينة الزقازيق عام ،1949 تربى بعد وفاة والده وزواج والدته في رعاية جده ودخل المدرسة الصناعية حيث شجعه الناظر على التمثيل المسرحي، التحق بعدها بمعهد الفنون المسرحية وتخرج فيه عام 1973 وكان الأول في دفعته. كانت بداياته الفنية الحقيقية مع المسرح، فقدم أكثر من عمل ناجح مثل "هالو شلبي"، ثم "مدرسة المشاغبين" و"العيال كبرت"، بعدها خطفته السينما التي قدم فيها مجموعة من أهم الأفلام التي ستظل علامات فارقة في تاريخ السينما المصرية، منها: "أبناء الصمت، شفيقة ومتولي، عيون لا تنام، النمر الأسود، البيه البواب، زوجة رجل مهم، ضد الحكومة، الهروب، ناصر ،56 هستيريا، اضحك الصورة تطلع حلوة، الحب فوق هضبة الهرم، البريء، معالي الوزير، أيام السادات، حليم" وغيرها الكثير. أما عبد الحليم حافظ فاسمه عبد الحليم شبانة، ولد في فبراير عام 1929 في قرية "الحلوات" في محافظة الشرقية، توفيت والدته أثناء ولادته وتبعها والده بعد فترة قصيرة، فتربى يتيما في إحدى دور رعاية الأيتام، ظهرت موهبته الموسيقية مبكرا، وكان شقيقه إسماعيل شبانة أول من درّسه مادة الموسيقا. التحق بمعهد الموسيقا العربية في القاهرة عام 1941 ودرس آلة "الأوبوا"، قبل أن يشق طريقه نحو الغناء. سجل بصوته تاريخ أمتنا بتقلباتها الاجتماعية والسياسية والعاطفية، رصد بأغنياته صورة لعصر بكل أحلامه وانكساراته. قدم 56 أغنية وطنية وأدى دور البطولة في 16 فيلما سينمائيا آخرها "أبي فوق الشجرة" للمخرج حسين كمال. الفن والحياة والموت ويؤكد الملحن حلمي بكر أن حياة الراحل عبد الحليم حافظ تتشابه إلى حد كبير مع حياة الفنان أحمد زكي من حيث النشأة وحرمانهما من حنان الأب والأم معا، بالإضافة إلى وفاتهما التي جاءت في توقيت متقارب بعدما عانا من المرض، حتى إن آخر عمل لأحمد زكي كان فيلم "حليم"، فيالها من مصادفة عجيبة. أما عن التشابه بين حياة حليم وحياة زكي فيراه الناقد محمود قاسم، واضحا إلى حد كبير ويتمثل في نشأة كل منهما في محافظة واحدة، ومرورهما بظروف صعبة متشابهة، ليكون الرحيل المبكر بعد معاناة طويلة مع المرض نصيبهما أيضا. وبدوره تعامل الكاتب والسيناريست بشير الديك مع زكي من خلال أبرز أفلامه التي كشفت بوضوح لافت عن موهبته الفريدة، مثل "الهروب، ضد الحكومة، طائر على الطريق، وموعد على العشاء". ويقول: تعرفت من خلال هذه الأعمال على حقيقة موهبة هذا الممثل، وأنه من الوجوه التي تعشقها الكاميرا بل وتألفها جدا، وكان أحمد كريما ومعطاء جدا. ومن نوادر أحمد زكي التي يتذكرها بشير الديك أنه حينما عرض فيلم "السادات" في أحد المهرجانات وكان بشير الديك أحد أعضاء لجنة التحكيم فيها، ولم يحصل زكي على أية جوائز من هذا المهرجان فعلق زكي ساخرا: يظهر أن لجنة التحكيم "ناصرية". وفي هذا المجال يوضح بشير الديك أن أحمد زكي لم يمثل شخصية السادات بل قلدها بخلاف ما فعل في "ناصر 56" لأن أحمد عاش في شخصية عبد الناصر، تماما مثلما عاش داخل جلد العندليب عبد الحليم حافظ، وكان يشعر بأنه قريب منه جدا، لدرجة أنه كان يتوقع أن تكون النهاية نفس النهاية. (الخليج)