في بداية عام 2003 دخلت روسيا للمرة الأولى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في حلف سياسي مع دول غربية حيث وقفت موسكو مع باريس وبرلين ضد العملية العسكرية الأميركية في العراق. ثم تمكنت القيادات الجديدة في أوروبا وأميركا من "رأب الصدع" الناتج عن الخلاف حول العراق بين أطراف الوحدة الأطلسية، ولم تصبح روسيا حليفا أمينا للدول الأوروبية الرئيسية. ومع ذلك تبقى الروابط بين روسياوألمانيا وفرنسا وثيقة إلى حد ما، وبالأخص في المجال الاقتصادي. وقد يكون شاهدا على ذلك أن يتوجه الرئيس الروسي الجديد فلاديمير بوتين إلى ألمانيا وفرنسا في أول زيارة خارجية له خارج الساحة السوفيتية السابقة. ويطرح هذا السؤال نفسه: هل ستصبح روسيا جزءا من العالم الغربي وهو ما حلم به الجيل الأول من الليبراليين الروس في مطلع تسعينات القرن العشرين وسعى إليه بوتين في مطلع الألفية الثالثة؟ وكان الاعتقاد السائد أن هذه المسألة تقررها موسكو إذ أن الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي فتحا باب العضوية فيهما أمام روسيا. غير أن الأمر اختلف مع مرور الوقت بمعنى أن الغرب شهد تحولاً ولم يعد هو الوحدة السياسية الواحدة حتى أن السؤال المطروح أصبح مغايرا.. هل ترى روسيا لها مصلحة في الاندماج في مجموعة الدول التي لم تتمكن من تحمل عبء "النصر التاريخي" في الحرب الباردة لاسيما وإن مركز السياسة والاقتصاد العالمي انتقل إلى آسيا؟ لا بد من الإشارة إلى أن لا أحد ينظر إلى روسيا بأنها دولة آسيوية وإن كانت ثلاثة أرباع أراضيها تقع في آسيا. ولا يمكن أن تحافظ روسيا على هويتها المميزة إذا اندمجت في الحضارة الآسيوية. وفي الحقيقة فإن روسيا أصبحت جزءا من الغرب وقتما ولدت ونشأت مع العلم أن ثلاثة أرباع سكانها يعيشون في شطرها الأوروبي. غير أن الهوية الأوروبية الغربية لا تجعل روسيا "مخفرا أماميا" للغرب الذي يمكن أن يدخل في مواجهة مع الصين مستقبلا. ولا يمكن أن تجعل روسيا نفسها مخفرا للعالم الغربي لاسيما وإنها لا تنتظر أن يهب حلفاؤها الغربيون الافتراضيون لمساعدتها عند الضرورة. ومن جهة أخرى، لم يعد الغرب يملك من الإمكانيات ما يمكّنه من مد نفوذه الاقتصادي والسياسي. ولعل الغرب ينظر إلى روسيا كأكبر إمكانية متبقية في هذا المجال وخاصة وأن روسيا ترتبط بنفس التربة التاريخية والحضارية التي ضربت أوروبا وأميركا جذورهما فيها. ونرى اليوم كيف أن العقبات التي كانت تعترض طريق اندماج روسيا في العالم الغربي على مدى الأعوام العشرين الماضية تنتفي وتندثر، وأبرزها الاتحاد الأوروبي الذي لم تكن قواعده تسمح له بالتقرب من روسيا. ويعاني الاتحاد الأوروبي اليوم تصدعاً وسيضطر في أية حال إلى تغيير نفسه. وهذا يعني تهيئة الفرصة لإقامة شيء ما يمكن ان تشترك فيه روسيا كدولة سيدة كبرى. كما أن تغييرات ستطرأ على العلاقة مع الولاياتالمتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) في المجال الأمني حيث سيحل ما يستجد من تهديدات محل إكليشيهات الحرب الباردة بقدر ما يتزايد الاهتمام بالأخطار الآتية من منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وبالنسبة للناتو ستدفعه أزمته الفكرية إلى إعادة النظر في أهدافه ومصالحه الأمر الذي سيمكّن روسيا من التخلص من خوف من هذا الحلف. إلا أن ما تقدم لا يعدو كونه مجرد تخمينات ناتجة عن افتراض أن اللاعبين الساسيين يتصرفون على نحو عقلاني في حين لا يمكن تجاهل أمثلة على الحماقة يضربها اللاعبون السياسيون الأساسيون في وقت يجتاز فيه العالم فترة انتقالية. وأهم ما يميز هذه الفترة هو أن الوجهة التي يتجه نحوها من يمر بالفترة الانتقالية مجهولة. ولا نعرف إن كانت الفترة الانتقالية تؤدي إلى ما هو جديد أم ما هو قديم مزود بالتقينات المتطورة العصرية. وبالتالي فإن كل شيء ممكن.