الحج ركن من اركان هذا الدين العظيم ،انبثق من عقيدته الراسخة السامية المتصلة بخالق السموات والارض ،قال عليه الصلاة والسلام :(بني الاسلام على خمس :شهادة الااله الا الله ، وان محمدا رسول الله، واقام الصلاة وايتاء الزكاة ،والحج، وصوم رمضان) (متفق عليه) ففي هذه الايام المباركة من شهر ذي الحجة من كل عام ، تتوجه قلوب المسلمين وعقولهم، ويتوافدون من كل فج عميق امين بيت الله الحرام ومناسك الحج ، قربة الى الله العلي العظيم ، معظمين شعائره ، ذاكرين اسمه في ايام معدودات ، ملبين ومكبرين بصوت واحد نابع من قلب ايماني واحد : ( لبيك اللهم لبيك ، لبيك لاشريك لك لبيك ، ان الحمد والنعمة لك والملك ، لاشريك لك ) و(الله اكبر –الله اكبر الله اكبر ولله الحمد –) يلبسون ثياب الاحرام بيضاء ناصعة ، نقية من اي دنس ، ويسيرون في موكب واحد يؤدون المناسك حول البيت وفي المسعى وفي عرفة ومزدلفة ومنى !! وفي هذا الموضوع لانريد ان ندخل في موضوع الاحكام الشرعية المتعلقة بهذه الفريضة من حيث الاعمال والاقوال والمناسك وشروط الاستطاعة وغير ذلك من الاحكام ، انما نريد ان نقف على بعض الدلالات والعبر التي تنمي وتعزز الجانب النفسي عند المسلم وسنتناول هذا الموضوع من عدة زوايا : الاولى : الرحمة الالهية في موضوع التوبة النصوح وارتباط ذلك بنسك الحج ، الثانية: معاني عظيمة في مناسك الحج والثالثة فؤايد عظيمة في رحلة الحج ، اما الزاوية الاولى وهي : الرحمة الالهية الواسعة ، وقبول التوبة من عباده المؤمنين ؛ فان الله عز وجل جعل من اسمائه الحسنى وصفاته العليا ( الرحمن الرحيم ) ؛ قال تعالى : ( ورحمتي وسعت كل شيء) الاعراف 156 ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( ان لله مائة رحمة ، انزل منها رحمة واحدة بين الجن والانس والبهائم والهوام ، فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها ، واخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة ) رواه مسلم وقد جعل الحق تعالى الحج موسما عظيما للتوبة النصوح والرجوع الى الله تعالى ؛ فجعل الحج المبرور مكفرا للذنوب والخطايا ، يرجع منه المسلم كيوم ولدته امه ، قال عليه الصلاة والسلام : ( والحج المبرور ليس له جزاء الا الجنة ) رواه البخارى فالمسلم الذي يعزم على الحج يعزم على التوبة النصوح اولا فيقبل على الله عز وجل بقلب منفتح ، راغبا اليه سبحانه ، وراغبا عمن سواه من كل مظاهر الدنيا وزينتها وبهرجها ، راجيا عفوه وصفحه سبحانه وتعالى ، وآملا في قبوله في عباده المؤمنين الصالحين ، وفي نفس الوقت عاقدا العزم على ترك كل الذنوب والخطايا بكافة اشكالها والوانها ، سواء اكانت فعل المحرمات ، ام التقصير في الواجبات والفرائض !! والمسلم الذي يعزم اداء هذه الفريضة العظيمة يبرئ ذمته من حقوق العباد قبل ان يضع رجله في الراحلة قاصدا بيت الله عز وجل ، لان حقوق العباد لاتسقط الا بالمسامحة او بالاداء ، وبغير ذلك تبقى معلقة في الذمة ، وتدخل صاحبها نارجهنم والعياذ بالله لانها من الكبائر ، قال تعالى : ( ان تجتنبوا كبآئر ماتنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ) النساء 31 وليست الكبائر كما يتصور البعض من المسلمين السبع الموبقات فقط وهي ماوردت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام : ( اجتنبوا السبع الموبقات ، قيل يارسول الله وماهن ؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله الا بالحق ، واكل مال اليتيم ، واكل الربا ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه مسلم فهذه هي اكبر الكبائر وليست جميع الكبائر ، قال الامام الشوكاني في تفسيره : اخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار او غضب او لعنة او عذاب ) فتح القدير 1\854 فالمسلم الذي يريد حجا مبرورا بحق وحقيقة ،ويريد ان يعود كما ولدته امه او كالثوب الابيض الخالي من اي دنس ، فان عليه اولا ان يعزم على اداء حق الله وحق الناس ، وان يقبل على الله بقلب سليم ، ويتوب عما سلف توبة نصوحا غير اسف على دنيا فانية او متاع زائل اخذه بغير حقه ، ويبحث عن الواجبات الشرعية التي قصر فيها وخاصة مايتعلق بامة الاسلام ، واعادة الحكم بما انزل الله تعالى ، لانه اوجب الواجبات ويترتب على تركه او التقصير فيه اثم عظيم ! اما الزاوية الثانية في هذا الموضوع فهي : المعاني العظيمة التي يتعلمها المسلم اثناء رحلة الحج في المناسك واول هذه المعاني العظيمة مايتعلق بالطواف بالبيت الحرام ، حيث يتذكر المسلم عظمة الله عز وجل ، لان هذا البيت هو بيت الله في الارض ، وقد بنته الملائكة ، وهو اول بيت وضع للناس كما ورد في قوله عز وجل : ( ان اول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ) ال عمران 96 فعندما ينظر المسلم الى هذا البيت ويرى كيف يطوف الناس حوله مع انه حجارة صماء لاتضر ولاتنفع ، يتذكر كيف تطوف ملائكة السماء بالبيت المعمور وتطوف بالعرش ، فيستشعر المسلم عظمة الخالق جل جلاله ، ويستشعر معنى الطاعة والانقياد له سبحانه ويتذكر كيف ان الملائكة العظيمة تهلل وتسبح بحمده سبحانه ليل نهار لاتفتر ابدا، وهي تطوف بالعرش الكريم ! ومن المعاني العظيمة في الطواف اجتماع قلوب المسلمين من كل لون وجنس على هذا النسك في دائرة واحدة ، في مكان واحد يرددون نفس الكلمات والمعاني ، في تمجيد الله عز وجل ، وهذا مدعاة لتذكر معنى وحدة الامة رغم كل دعوات الفرقة والتفريق التي تصيبها ، ومن معاني الطواف ايضا تذكر معنى الذنوب ، وماتفعله في القلوب وذلك عندما ينظر المسلم الى الحجر الاسود ويتذكر قصة هذا الحجر وكيف سودته ذنوب العباد بعد ان نزل من الجنة ابيض من اللبن الصافي ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ( نزل الحجر الاسود من الجنة وهو اشد بياضا من اللبن ، فسودته خطايا بني ادم ) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ، ويتذكر ايضا ان الذنوب تسود قلب الانسان كما سودت الحجر الاسود ، عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال : ( ان العبد اذا اخطا خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فاذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه ، وان عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه ، وهو الران الذي ذكر الله ، ( كلا ، بل ران على قلوبهم ماكانوا يكسبون )) اخرجه الترمذي وقال حسن صحيح ومن معاني الطواف كذلك النظر الى المسلمين وقد تجردوا من كل شئ من زينة الدنيا ، وصاروا بلون واحد ، وبلباس واحد هو لباس الاحرام ، لافرق بين عجمي او عربي ولابين فقير او غني ، الجميع حالهم واحد في ظل رحمة الله تعالى وعبادته ! اما الوقوف بعرفة فان فيه معاني عظيمة ايضا تتمثل اولا في تذكر معاني المحشر والمنشر حين يقف الناس في صعيد واحد بين يديه سبحانه ينتظرون الحساب ، ويتذكر المسلم ايضا معاني الوحدة لهذه الامة التي يحاول حكام المسلمين تفريقها حتى في هذا المكان بتخصيص مكان لكل بلد على حدة ، لاتختلط مع الاخرين ! والاصل ان يختلط المسلمون جميعا عربا وعجما ليعرفوا انهم امة واحدة من دون الناس ، ويسمعوا همومهم وقضاياهم والمخاطر التى تحيط بهم كامة واحدة ، ويتشاوروا في كيفية حل هذه القضايا ، فالاصل في المسلم في هذا النسك ان يختلط مع المسلمين ولاينحصر في خيمة واحدة ، ومن المناسك ايضا رمي الجمار في ثلاثة مواضع : العقبة الصغرى ،والوسطى ، والكبرى ، وان لهذا النسك دلالات ومعاني عظيمة في اعلان الحرب على الشيطان بعد ان ادى المسلم اغلب مناسك الحج من طواف وسعي ووقوف بعرفة ومزدلفة ، واول هذه المعاني هو : عصيان الشيطان ، واعلان الحرب عليه وعلى اتباعه واشياعه من بني البشر ، مستعينا بالله عز وجل الزاوية الثالثة في هذا الموضوع هي فوائد عظيمة في رحلة الحج هذه : 1-فريضة الحج تذكر المسلمين على وجه الارض بفرضية الخلافة الاسلامية وفرضية العمل لها ، فعندما ينظر المسلم ويرى هذه الجموع من المسلمين ويتفكر في حالها ، كيف فرقها الكفار الى اعراق ودول ، وانسوها انها امة واحدة من دون الناس بامر المولى عز وجل في قوله : ان هذه امتكم امة واحدة وانا ربكم فاعبدون ) الانبياء 92 وبعمل رسولها عليه الصلاة والسلام استجابة لمعنى هذه الاية ، حيث وحدها في دولة واحدة في المدينةالمنورة ، وقال وهو يكتب وثيقة المدينة ( الموادعة) ( امتي امة واحدة من دون الناس ) وقال ( المسلمون تتكافا دماؤهم ، ويسعى بذمتهم ادناهم ، ويرد عليهم اقصاهم ، وهم يد على من سواهم ، الا ، لايقتل مسلم بكافر ، ولاذو عهد في عهده ) رواه ابوداود والنسائي فالذي اوصل الاسلام الى كل هذه الشعوب ، من الاتراك والفرس والافارقه والمغول والاوربيين ، وغير ذلك من اجناس والوان شتى هي دولة الاسلام ، وجيوش الفتح التى انطلقت من عقر هذه الدولة ترفع راية الاسلام ، وشعار الله اكبر ، فاصبحت كل هذه الاعراق في ظل دولة واحدة ، من غانا جنوبا الى فرغانا شمالا ، ومن جاكرتا شرقا الى طنجة على المحيط الاطلسي غربا ، ثم تفرقت هذه البلاد كما كانت قبل الاسلام ، وتبعثرت الى دويلات في ظل غياب دولة الاسلام ، فالخلافة فرض تقوم به كل الفروض على وجه الارض بما فيها فرضية الحج هذه التي يؤديها المسلمون من كل حدب وصوب من اقطار المعمورة ، فالاصل في هذه الفريضة ان تؤدى في ظل خليفة المسلمين كما كان يحصل في عهد الخلفاء الراشدين ، حيث كان الخليفة هو امير الحج بنفسه في اغلب الاحيان ، او يبعث اميرا نائبا عنه اسمه امير الحج !! ولو القينا نظرة سريعة على اعداد المسلمين المحرومين من اداء هذه الفريضة لراينا انهم بالملايين ، ومنهم من يموت وفي نفسه شوق لاداء هذا الفرض العظيم ، ولم يستطع الى ذلك سبيلا بسبب العراقيل والموانع السياسية التي يضعها الحكام امامهم !! 2- الحج رحلة ايمانية عظيمة تشحن صاحبها بالتقوى ، والعزيمة على عدم الرجوع الى الذنوب بعد ان حباه الله بالخلاص منها ، لذلك خاطب الحق تعالى الحاج العائد الى موطنه بعد رحلة الحج بقوله : ( فاذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم اباءكم او اشد ذكرا ) البقرة 200 اي فليكن الله في قلوبكم في المناسك ، وعظموه في جميع الاحكام كما عظمتموه في المناسك فكثير من الناس ينشرح صدره ويعود الى رشده بعد هذه الرحلة العظيمة وقد تحقق منها الخير الكثير له بالايمان والتقوى والعمل الصالح ، نساله تعالى ان يكرم امة الاسلام بخليفة يجمع شملها عربا وعجما في خلافة راشدة على منهاج النبوة انه سميع قريب واخر دعوانا ان الحمدلله رب العالمين 13\10\2012م 27ذي القعدة 1433ه