بين مقادير موت يبكي، وينبض، وبكاء لا يموت، واغتراب في الحب، وحب يكشفه الغرباء ويرنو إلى الموت لينبعث في عالم الأمنيات.. بلور الشاعر سيف رسام نمطاً حداثياً لفلسفة الانتماء، وصراع كينونة الذات الإنسانية مع الواقع، ضمن علاقات معقدة ما كان ليختلقها لولا أنه رأى عقماً مستفحلاً في هوامش الواقع نفسه لا يرجى لها الانتظام في سياقها الفطري بغير تمرد على منطقها العقلاني الذي أضفى شرعية مكتسبة على وجودها.. في مجموعته (حطام وردة) لم يكن شاعرنا - سيف رسام- مجرد متمرد صغير على حياة تغفو على أكتاف أنين البؤس، وتملأ الحدقات بجنائز الأمنيات.. بل تعدى أيقونات الانفعال الوجداني، وحلبات الشكوى والتذمر الحسي إلى تمرد محترف حتى على سياق المعنى الشعري للمفردة ليعيد خلقها في قالب فلسفي بليغ، طوعها من خلاله إلى ما يريد وليس إلى ما تفرضه من مدلول.. إن هذا اللون من التفوق على الكلمة- ذاتها- هو الذي حمل الشاعر إلى استهلال العديد من قصائده بكلمة "الموت" من غير حذر من حالة التكرار التي قد تفرض نمطيتها بكثير من الملل، وتئد الانجذاب عند عتبات القصائد.. ورغم أنها كانت مجازفة، إلاّ أن الشاعر كان جريئاً بما فيه الكفاية ليحترف لعبة اللفظ والمعنى – ولكن- على هداية البناء الفلسفي للنص الذي يحرر المتلقي من صورة التجاذب العاطفي السريع التكوين ليضعه أمام الصورة الشعرية ذات الامتدادات الواقعية المتعددة المشاهد.. فاستهل قصيدته (مصافات) قائلاً: الثرى.. قلبك المر، هجر أنامله المتعبات على شاطئ الروح لكن لغة الموت ما لبثت أن تحولت إلى دعوة انتفاض على الواقع في مستهل قصيدته (بيان): دعونا.. نموت ريثما تستريح القبيلة ثم اتخذ الموت طابع أبدية البقاء – على عكس مدلوله- في مستهل قصيدته (تَغَضُّن): ونموت.. إلاّ الحزن في عينيك صحراء معلقة ونبض هامد الصلصال في مقل الجيوب وفي (بريق) كان الموت بوابة أمل مفتوح، وعشق عتيق يرنو بشفقته لأولئك الناس المتعبين ممن حمل الشاعر آلامهم: أحن.. لبوابة الموت للمطفئين شمس النهارات تحصدهم.. شهوة الجوع وتنفض أحلامهم من غبار القيامة.. صنعاء.. طال السجود بنا في عيون القصيدة.. ومع أن الشاعر طاف بين حنايا الموت في معظم قصائده إلاّ أنه في الوقت نفسه جسد ببراعة أبجديات الحياة اليومية بكل تفاعلاتها الإنسانية.. فالموت استوى كائناً، وموقفاً، وحلماً، ووجداناً، وظرفاًن ووطناً.. لذلك أمام تعددية الصورة رأى الشاعر ضرورة في تأمين المتلقي من الوقوع في شراك الخديعة البصرية التي قد يولدها التكرار اللفظي فيتسرب إلى موضع الإحساس البشري.. ومن هنا راح الشاعر يحتال على الموت نفسه، فألبس اللفظة – موت - أقنعة أبجدية مختلفة الألوان والإيقاعات، ليدسها في النهاية بين أبيات قصائده بمنطق(ثرى– جنائز- نعش- قبر- اغتيال- دفن – صلب – قربان – أرملة- عزاء).. وهي جميعاً ردائف للموت توزعت على القصائد كي تبقى فلسفة الموت هي اللازمة الشعرية التي ترسخ فلسفة الشاعر سيف رسام في قراءته لوجوه الحياة، وفي رسمه لأبعاد تفاعلاتها الوجدانية في ضوء القضية التي يحملها. وعندما كان الشاعر يريد تصعيد الموقف، والانفعال، وإعطاء المعاناة زخمها نجده يلجأ إلى ردائف الموت اللفظية، معززاً إياها بالصور الشعرية التي من شأنها تضخيم المعنى ليتفادى تجانب مفردات الفئة الواحدة، معتمداً على براعته في التنويع، وكسر الرتابة، والتحرر من قيد اللغة- كما هو الحال في قصيدته (تعالق): مروا.. على شجن .. من الضوء المعتق في خراب الزهر، وارتادوا جنائزهم.. مروا.. على ملل الخطيئة يعرجون دمي.. فقد جمع الشاعر بين (الضوء المعتق)، و(خراب الزهر)، و(جنائزهم)، ثم خلطها بالدم ليصنع الذروة، ويقف على رأس هرم المعنى الذي يبتغيه وسط حشد من الأحداث والشخوص ممن يتبادرون للأذهان ساعة تكالب الصور الشعرية مع بعضها البعض.. لكنه في قصيدة (إيماءة) ترجم تمرداً على الأسلوب النصي ذاته الذي حافظ على سياقاته منذ البداية.. وربما أراد الشاعر أن يثبت لنا أنه ليس بعاجز عن التحكم بعنان التماثل اللفظي داخل النص، فصار يقول: من يرتدي زنزانتي!؟ وأنا.. كموت ميت يهذي على قبر انتمائك.. وبتصوري أنه كان موفقاً للغاية في كسب التحدي بجمع (موت ميت)، ثم (قبر).. فكان أن أضفى على إحداها صفة الحياة ليلخص بذلك مجمل المدلول الجوهري لفلسفة قصائد مجموعته الشعرية (حطام الوردة) التي ما انفكت تجوب معاناة وطن صاحبت أسفاره إلى كل المحطات بأمنيات بدت قريبة للمحال- كما لو أنها من الأجداث- ظل الشاعر يصارعها، ويأبى أن يجاريها، حتى بلغ منه التحدي موضعاً أن يصرخ بوجه الواقع: يا موتاً.. خذ بدمي فأنا ما زلتك تستغفر.. من هذا الوطن العاثر في غرفة التحقيق .. مداك. ولم يكتف الشاعر بمخاطبة الموت لذاته، بل استرسل بأسلوبه الخطابي مؤكداً حقيقة الشكوى، فنجده في (خريف الرماد) يحدث الصاحب: كان يا صاحبي الفجر عنوان موتي؟! ولم يرتو العمر من ظمأ يابس أو كخطابه في (لؤلؤة) الذي يقترب فيه للتوسل: دعي الموت يعبرني آمناً، كي تنفنف غيبوبة المهد قرؤ تجاعيدها ثم يلوذ بنفسه إلى أقرب المقربين – الأب- سارداً تراث البؤس، والألم، وأوجاع يتحسسها في كل مكان، فيعتصره الحب الذي يحمله للوطن مزيداً من الأسى، ولا يجد غير البوح: على باب القصيدة يا أبي.. رحلوا وما جفت حوافر ضوئهم في القلب تقرأهم بلون نشيدك الوطني في الساحات والبارات فوق بيادة السجان ولم تكن معاناة الشاعر مجرد أمنيات مذبوحة لفرد مرهف الإحساس، بقدر ما هي هموم وطن يسكن هواجسه، ويغرقه بهوس التفكير بتجديد انبعاثاته، وتكفيف معاناته، وكسر الأطواق التي لطالما كبلت معصميه، وجرجرته الى حضيض الألم، ومن هنا وجدناه في (ثوابت) يقول: مدامعي .. سُرقت وخُيل لي اكتمال الروح مشرعة.. بنصف ردائك القروي تبحث عن (أنا) وأنا أنا.. يغتالني وطني.. فالموت الذي كابده الشاعر، وسافر بقصائده رافعاً لواءه ليس إلاّ واقع فقر مدقع يصفه في قصيدة (الفقر): ديكتاتور بليغ عيناه مصلوبتان على الأرض وقلبه معلق في السماء وهو وطن تقتله الأعراف والتقاليد، يصفه في (لؤلؤة): وطن.. يستحيضك بالعرف .. ما زال يقسم باللاّت أن مسيلمة آخر الأنبياء وخاتم أحزانهم ثم يعرف القبيلة فيه بأنها: أنثى.. لموت واحد هو الوطن فالشاعر يتوجع بمرارة من هذا الذي يسود الحياة في وطنه، حتى أنه عندما أراد أن يقف أمام مفردة (بلادي)، عرفها بأنها: التي تقدم أبناءها قرباناً.. لسيادة العرف وهو ايضاً وطن مغترب عن نفسه، وتراثه، ومنطق ما ينبغي أن يكون عليه، لم يجد الشاعر بداً من الانتفاض عليه في (تداعيات)، ولكن هذه المرة ليبث دهشته لله الخالق- كما لو أن الأمر أصبح خارقاً وفوق فهم البشرية: إلهي .. كل شيء.. بات يمحو تجاعيد الألفة الكلاب.. لم تعد تهاجم اللصوص والغرباء (حطام وردة) لم تكن مجرد مجموعة شعرية تتأرجح بين المفردات، أو الصور، بل كانت انتفاضة رجل متألق الإبداع والحس على واقع رآه كما الموت، وظل يلازمه في ترحاله بين فصول العمر، ومربعات المكان، ودوائر الزمن.. فصار ينفث في موته روحاً، وفي سكونه وجداناً، وفي يأسه أملاً.. ولكن وقع الكلمات يفيقها الواقع المرير، لتحشد معانيها وتعترف أخيراً، متوسلة: فهلاّ تنبت الأشلاء في قلبي؟ لأدفن ذكريات الأمس أنسى أن لي وطناً تسوّل في كتاب الريح..!