عندما تقرأ لبعض الكتّاب، لا سيما المرموقين منهم، يصيبك اكتئاب وإحباط عميقان، وكأنهم يسدون عليك الطريق إلى الحرية، خصوصا وأن بعضا منهم لا يضعون حلولا ومعالجات واقعية للقضايا المطروحة في كتاباتهم. وعندما أحضر إلى ساحة الاعتصام "الإعجازي" بخورمكسر، تتلاشى من ذاكرتي كل ما كتبه ويكتبه أولئك النفر في مقالاتهم، وتتساقط نظرياتهم على واقع الميدان الحي في ساحة التحرير والاستقلال! هناك، في الساحة، كل يوم ترى وجوها جديدة لكهول ورجال وشباب أشداء، لفحت وجوههم شمس الجنوب، متكبدين عناء البقاء في خيامهم وكأنهم جنود على جبهة قتال شرس.. عندها فقط يتساءل المرء مع نفسه، لمَ هذا العناء، ولمَ تتقاطر هذه الجموع من محافظات الجنوب كافة بعشرات الآلاف، إن لم تكن مئات الآلاف، إلى هذا "المهرجان" الاعتصامي السلمي؟ ويتساءل أيضا، لمَ أتى هؤلاء البشر إلى عدن وقد تركوا أسرهم، وعائلاتهم، وأولادهم، وأراضيهم، وأعمالهم هناك، في مناطقهم النائية؟ هل جاؤوا للترفيه عن أنفسهم و"تخزين" القات داخل خيامهم، و"تجزيع" الوقت فقط، كما يدعيه أولئك الكتاب، أم أن هناك هدفا آخر؟ كما لم يتساءل أحد منهم، لمَ يحدث هذا؟ يتحجج هؤلاء الكتّاب بأن الساحة الحراكية لا يوجد فيها قيادة موحدة تضيء الطريق وتحمل مشعل التحرر لقيادة الجماهير، وطالما الأمر كذلك، فلا داعي لمثل هكذا اعتصامات عبثية، بل وينادي بعض منهم إلى حمل السلاح عند الحدود وإقامة البراميل هناك، متناسين أن الحراك الجنوبي إنما هو سلمي بحت حتى التحرير، فلو لم يكن سلميا، لما اعتصم الناس هناك، في الساحة!! إنني ومن هذا المنبر، أدعو أولئك الكتَاب إلى النزول يوميا إلى الساحة، والاختلاط المباشر بالمعتصمين، وتلمُّس معنوياتهم قبل الاستعجال في طرح نظرياتهم وكتاباتهم غير المنطقية عن اعتصامهم السلمي، وأتمنى أن أقرأ الحقيقة في سطوركم أيها الكتّاب المثقفين، مع أنني أرى أن لا خسارة في الاعتصام، ولا تذهب فيه الجهود هباء! بل، أن في الاعتصام فرصة كبيرة لاختلاط الجنوبيين القادمين من أصقاع الجنوب كافة، ومعرفة بعضهم لبعض، وتبادل الأفكار فيما بينهم والشعور الإنساني لبعضهم البعض، وهنا تكمن الحكمة! إنها الوحدة الجنوبية وألفة القلوب ووحدة الأحاسيس، ناهيك عما يشكله هذا الاعتصام من ضغط على حكومة الاحتلال، وما يعكسه لشعوب العالم في أن شعب الجنوب العربي لا يزال حيا، ولم يمت! صحيح أنه لا توجد قيادة واحدة للحراك الجنوبي السلمي ولكن، هذا لا يقف عائقا أمام وحدة القاعدة الشعبية، وفي أن تعتصم جماهير الجنوب في الساحة، منادية بالحرية والاستقلال! باختصار شديد، إن هذا الاعتصام "الإعجاز" الذي هبّت إليه الجماهير لأول مرة في تاريخ الجنوب النضالي بماضيه وحاضره، ناجح ولا غبار عليه، ودليل ذلك هو تلبية الجماهير الشعبية لنداء الوطن، وجملة الدعم المادي والمعنوي المقدم من الأطراف الجنوبية من الداخل والخارج، فلا يعتقدنّ أحد منكم، أن الحرية ستُنتزَع بين ليلة وضحاها ومن اعتصام واحد، وأن الهدف يمكن تحقيقه بسرعة البرق! إن انتزاع الحرية ونيل الاستقلال يحتاجان إلى نضال طويل ومرير، وإلى صبر وإيمان عميق بالقضية، وإلى تضحيات لا تقدّر بثمن، وهذه كلها قد تعلمها شعبنا في الجنوب العربي في أثناء مقاومته للاستعمار البريطاني، ولن يتخاذل الآن في مقاومته ضد الاحتلال اليمني البغيض، وإن تنوعت أدوات وأساليب تلك المقاومة...