يبتلعه المساء ، فيوغل في أحشاء الصمت ، ومن ذا الذي يستطيع فراراً إذا عسعس الألم داخل النفس ، وتوغَّلت الأحزان في حنايا الفؤاد ؛ يتآكل قلبه ، تتساقط أشلائه ، يتمزق صوته على حدود الزمان ، وما من مجيب .. تقوم جاهلية القرن الحادي والعشرين بوأد مشاعره وكرامته ، بينما يتجمد القوم متفرجين على طقوس صلبه "بقايا إنسانية" أبعد هذا الموت موتٌ آخر..؟ أين الملاذ....؟ يريد أن يفتح جناحيه ؛ ويهرب من ظمأه من حدود مشاعره ؛ ومن عرى أوجاعه ، يريد أن يحلق حيث لا أحد.. لا أحد أبدا. و وسط تلك البعثرة التي تنتابه ؛ لا يشعر بنفسه ، إلَّا وقضيب من النار الملتهبة يندفع في جوفه ، فإذا به يفتح فاه إلى حد التمزق ، ويصرخ بملئ صوته متقيأً بكلمة واحدة "لا".. وما كاد يغلق فمه وبيتلع الفضاء صوته حتى وجد نفسه محاطاً بعشرات (العلوج ببدلاتهم العسكرية وملامحهم الجافة كجفاف الصحارى ، ترافقهم في هذا الحصار الكلاب البوليسية الضخمة ، تمهيداً لاقتياده الى هناك). وعصبوا عينيه بمنديلٍ أحكموه عصبه ؛ صفدوه بالأغلال ؛ كتموا فمه بشريطٍ لاصق ؛ ومضو به إلى هناك. وهناك قام أحدهم بنزع قيوده ؛ وفتحت عيناه ، ليجد نفسه في مكتب فاخر .. يشغله ضابطٌ تتشاجر الغربان والنسور على كتفيه ، لتجد مكانا يكفيها .. وكان هناك من هو مثله "مأسوراً ، معصوباً ، مقيوداً" فُكَت أغلاله قبل صاحبنا بدقائق فقط . قام أحدهم بغمر إبهامه في سائل قاتم ، كئيب ، ككآبة أصحابه .. وجرَّ يده ؛ ألصقها على ورقة بيضاء ؛ وأخد يضغط عليها ، يحركها يميناً ويسارا ، حتى حصل على صورة كامله لبصمته .. في هذه الأثناء كان الضابط ذو الغربان الكثيرة يطابق بصمة المواطن الذي سبق صاحبنا إلى (هناك) مع بصمة كبيرة تحتل وحدها صفحة من الورق المقوى ، وقد كُبِّرت حتى أضحت واضحةً بكل تضاريسها ؛ وصاح الضابط بأحد العساكر مشيراً إلى المواطن ((إنَّه هو المتمرِّد....خذوه)) ثم التفت إلى صاحبنا ؛ وسحب رسم بصمتة الذي كان قد جف ، وطابقه مع "البصمة المكبَّرة نفسها" وصرخ "إنَّه المتمرِّد".. خذوه .. وإذا بالعسكري يتسمر في مكانه مصعوقاً مما سمعه . . . مذهولاً ؛ يتأمل وجه المتمرِّد -صاحبنا- ؛ صرخ الضابط ذو الغربان "تحرك ياعسكري" فالتفت نحوه ثم سأله وهو بين الدهشة والحيره يفتعل الأدب وفي جوفه بركانٌ يغلي ؛ عفواً ياسيدي القائد .. ألم تتطابق البصمة ذاتها مع المواطن الذي سبقه ؟ أجاب الضابط "وهو يتقمص ابتسامة إنسان يخفي فيها عواء كلبٍ مسعور" : نعم ... وماذا في ذلك ؟ و تطابقت مع بصمته .. فهو الآخر متمرد ..