مازال ساستنا الجنوبيون ومنذ نوفمبر 1967 والى هذه اللحظة قابعين في صالة الترانزيت بانتظار رحلة الحجيج الأسطوري إلى صنعاء ، المدينة التي رسم لها هؤلاء من الصفات والمزايا مايوجب حشر الوطن في حقائبهم الموصدة التي يحملها هؤلاء منذ عقود في رحلة السباق التتابعي ، فما أن ينؤ كاهل أحدهم بما يحمل حتى يعقبه الآخر ، وما أن تغيًب مجموعة من مشهد السباق حتى تبرز أخرى لكن أفرادها أقل حظا من سابقيهم.... ظللنا منذ عقود في حقائب هؤلاء ... وليس لنا في صالة الترانزيت إلا الإنتظار القاتل ... ليس لوطننا السليب إلا ما للبضاعة الثمينة ما تستحق من عناية لإيصالها سليمة لمقصدها ... ليس لعيون أحلامنا من مدى للرؤية ( والرؤيا للأسف ) إلا مايرى ويبصر من ثقب حقيبة مهترئة على كتف (( س)) أو (( ص )) من هؤلاء ... ليس لسهم أمانينا من مدى للإنطلاق إلا المساحة الضيقة الفاصلة بين الجدران الأربعة ، لذا كثيرا ماارتدت سهامنا نحونا .... أمًا حملة الحقائب في رحلة السفر الأسطوري فكثيرا ما أصابهم الملل ليجدوا انفسهم مجبرين – ربما للتسلية وتبديد الوقت - على إطلاق سهام أمانيهم إلى صدور بعضهم بعضا لينكفئوا بعد ذلك على أنفسهم قابلين بقدرهم : فهم ليسوا أكثر من عتالين ليس إلا !! في صالة الإنتظار لا شي إلا مسماها : الإنتظار فقط واشغال المخيلة بتجميل لحظة الوصول المرتقبة والتغني بها ... في لحظة الإنتظار يؤجل كل شيء إلى مابعد الوصول .. في لحظة الإنتظار التي دامت عقود ومازال يعيشها البعض لا وقت للقيام بأي شيء إلا التأكد من سلامة البضاعة بين الحين والآخر وحراستها ممن يحاول إعادتها إلى المكان الذي يفترض أن تكون فيه ، ولم يتردد الحراس عن الفتك والتنكيل ومصادرة حياة من يحاول إعاقة الوصول أو حتى من مل عقود الإنتظار .
في فترة ما اشتط الطموح والجموح ببعضهم فأراد التخفف من الحمل وايصاله سريعا ... اسرج خيله واستل سيفه وانطلق متباهيا بقوته ساحقا من يقف في طريقه وكاد أن يصل .... ولكنه سرعان ماعاد من حيث أتى لأن فصول المأساة الملهاة تقتضي أن يصل البطل الماراثوني إلى نهاية المضمار ميتا كما في الأسطورة الأغريقية .. إذن لن يسمح له بالوصول ...
في فترة ما قدر لأحدهم الوصول إلى المحطة الحلم ولكنه بدأ رحلة العودة منذ لحظة الوصول .رحلة العودة تسير بخطى حثيثة الآن وكادت أن تصل .. وسنقع نحن الجنوبيين في خطأ قاتل إذا لم ننظر لعودة هادي والصبيحي إلى عدن من هذه الزاوية الواسعة التي تتيح رؤية المشهد بامتداداته التاريخية ، إذا لم ننظر للعودة بأنها إمتداد لعودات سابقة ، لان اليمنيين المتربصين بنا وآخرهم وأخبرهم الحوثي قد حددوا نطاق الرؤية المتاحة لنا وحصروها – في أحسن الأحوال – بحالة عودة الأبن الضال ، حتى حالة التشفي الرائجة في الخطاب السياسي الجنوبي ليس لها مايبررها مطلقا إلا إذا سلمنا بإن الحراك الجنوبي مجرد حالة شعبية لم تبلور مشروعها السياسي بعد .
الحالة السياسية في عدن بعد عودة هادي والصبيحي مختلفة تماما عن أي مرحلة سابقة : فهي ليست لنا وليست علينا .. ونحن معشر الجنوبيين ودون استثناء من يستطيع التحديد .
الحالة الراهنة في عدن تشبه إلى حد ما الحالة السائدة في منتصف القرن الماضي حيث حالة الصراع المحتدم بين مشروع اليمننة من جهة ومشروع الهويات الجنوبية المؤتلفة من جهة أخرى ..
الحالة الراهنة في عدن ملتبسة ومفتوحة على احتمالات عدة وسيكون لهادي وفريقه دور حاسم في ترجيح كفة أي من هذه الإحتمالات ، لذا لا يوجد متسع من الوقت لممارسة لعبة الدوران حول الهدف التي افقدت الجنوبيين توازنهم لأن المهمة الملحة حاليا هي الخوض في بحث المسائل الإجرائية لتحقيق هذا الهدف لأننا ان استوعبنا ذلك فسنجد (( وظائف وطنية شاغرة )) لن يقوى على الإضطلاع بها إلا هادي وفريقه ، أما اذا كانت الوظيفة الوحيدة الشاغرة هي (( الإلتحاق بالساحة وإعلان التوبة )) فعلى الثورة الجنوبية ومستقبل أولادنا السلام .
حالة الدوران كانت مكلفة للجنوبيين ، بل وكانت مملة للمراقبين الإقليميين والدوليين ، وما عاد لديهم الاستعداد للفرجة . فاجاني أحد كبير السن في حضرموت بتوصيف صادم لحالة الحراك – لا اتبناه أنا شخصيا ولكنه كان صادما ومؤلما بالنسبة لي عندما قال : انتم يا أصحاب الحراك اشبه بمجموعة (( ..... )) في الشارع تمشي على شكل زمر وجماعات وتصرخ بصوت عال وتقرع الأبواب بعنف وعندما يطل أصحاب المنازل ليعرفوا ما المطلوب تتوارى مجموعة ويتعارك آخرون على الحديث وإبلاغ الرسالة .. وفي الأخير ينفرد أثنان او ثلاثة ليبلغوا صاحب المنزل اعتذارهم عن ما يسمونه فوضى مقابل حصولهم على مكاسب شخصية .
إقلاق سكينة الجيران بالشكوى ، فعل لايمت للسياسة باي صلة وإن كانت مبررة من الناحية الإنسانية والإخلاقية ، لكن ما يهم هؤلاء الجيران ( الهانئون إلى حد ما ) هو إشراكهم في حل المشكلة . فهل نستطيع ذلك ؟
أتمنى من ساستنا تقديم مقترح عملي للحل يراعي الدور الخليجي المحوري ، ولا أعتقد أن يجد ساستنا افضل من الإقتراح بأن تكون مخرجات الاجتماع الخليجي في الطائف عام 1994 مرجعية أساسية للتفاوض وتذكير جيراننا الخليجيين بجهودهم السابقة عام 1994 .
لن نجد وسيلة آمنة للوصول إلى الدولة المستقلة إلا باشراك القوى الجنوبية كافة ..وطبعا فإن هادي وفريقه قوة سياسية لها حضور مؤثر على الأرض ، ولكن هذا الحضور المؤثر سيظل مؤقتا وعابرا مالم يحزم هادي أمره : هل عدن وجهة نهائية في رحلته الطويلة المضنية أم أنها محطة ترانزيت ؟ الأيام القادمة كفيلة بالإجابة .