محمد المخلافي لم تكن ساحات البرلمان اليمني ولا ميادين النضال من أجل حقوق الإنسان آخر معارك أحمد سيف حاشد. فبعد سنوات من المواجهة السياسية والتوثيق الجريء لانتهاكات حقوق الإنسان، وجد نفسه في مواجهة عدو أكثر شراسة، وهو المرض الذي بدأ ينخر في جسده. كانت القاهرة محطته الأولى، حيث تنقل بين مستشفياتها لأكثر من عام يبحث عن علاج لمشاكل صحية عدة، بما في ذلك مشاكل في شرايين القلب والعمود الفقري، بالإضافة إلى اعتلال الأعصاب الطرفية واحتياجه لعملية جراحية في سقف الحلق. وتدهورت صحته بشكل ملحوظ. قرر الأطباء ضرورة سفره إلى الخارج لاستكمال العلاج، مما جعل السفر ضرورة حتمية. وهكذا بدأت رحلة جديدة، ليست أقل وعورة من سابقاتها، تحمل في طياتها ألم الجسد ومرارة الغربة، لكنها أيضًا كانت تنبض بوهج الأمل المتجدد. تقدم حاشد بطلب إلى الحكومة الشرعية للحصول على تأشيرة سفر للعلاج، كونه عضوًا في البرلمان، ومن حقه الحصول على هذه المنحة العلاجية. لكن الرد جاء صامتًا، كأنما أُغلق الباب أمامه، وكانت الإجابة إما صمت مطبق أو وعود عرجاء لا تُسمن ولا تغني من جوع. بقي في شقته بالقاهرة، يصارع المرض ويتردد على المستشفيات، لكن قلبه الكبير ظل ينبض بالحياة. كانت شقته بمثابة باب مفتوح للقادمين، وملاذًا للبسطاء الذين أحبوه. في شارع العشرين بالجيزة، حيث تتلاقح لهجات اليمن كأنها وطن مصغر، وجد بعض الدفء الذي حرمه منه المرض. هناك، بين الأصدقاء والضحكات التي تخفي الهموم، كانت الحياة تُعيد له بعض الأمل. رغم شحوب المرض، ظل حاشد ذلك العمود الذي يستند إليه أصدقاؤه، يزرع الأمل في قلوبهم ويستمع لهمومهم. كأن معركته الصحية كانت مجرد فصل آخر من فصول نضاله الطويل. بين ضرورة السفر وصخب الحياة اليومية في الشارع اليمني المصغر، عاش حاشد تناقضًا واضحًا: دفء الأصدقاء وقسوة المرض. لكن اليأس لم يجد مكانًا في قلبه. ومن بين الضباب، برزت يد الجالية اليمنية في نيويورك، برئاسة عبداللطيف الصايدي المعروف بكرمه وتعاونه. نظموا له رحلة علاجية إلى نيويورك، حيث استقبلوه في المطار، وقدموا له السكن. أخذوه في جولات سياحية عبر المدينة، محاولين إدخال بصيص من البهجة إلى روحه المثقلة بالمرض والغربة. ومع انتشار خبر وصوله، انطلقت سهام الحقد من قلوب وأقلام مريضة. اتهمه البعض بالعمالة، بينما افترى آخرون بأنه يسعى وراء منفعة شخصية. وتخيل بعضهم أنه يجني الدولارات، بل وصل الأمر إلى طلب وساطة منه للهجرة. كانت تلك الاتهامات طعنة نافذة في قلب رجل أنهكته المعارك حتى قبل أن ينال منه المرض. لكن أضواء المدينة التي لا تنام جلبت معها ظلالًا أخرى. سرعان ما تبددت صورة "الحلم الأمريكي" أمام واقع قاسٍ. وجد حاشد نفسه في دوامة النظام الصحي الباهظ والمزدحم، حيث انتظر شهرًا كاملًا في نيويورك – شهراً مليئًا بالقلق والألم – ليحصل فقط على تشخيص دقيق لمرضه. مثلت تلك الفترة كابوسًا يوميًا أمام رجل لم يجمع ثروة من نضاله. ولم تكن التحديات مادية فحسب؛ فاللغة كانت حاجزًا، والثقافة غريبة، والأسعار صادمة. ما يكفي أسبوعًا في القاهرة بالكاد يغطي يومًا في نيويورك. اضطر، تحت وطأة الظروف، لتقليل وجباته إلى وجبة واحدة في أحد المطاعم اليمنية، بل وتقليل جرعات دواء القلب إلى جرعة واحدة بعد تناول الوجبة، مما تسبب في مضاعفات صحية أرهقته. وفوق كل ذلك، اتخذ قرارًا بالبحث عن عمل، سعيًا لتأمين لقمة العيش ومساعدته في رحلة العلاج، مؤمنًا بأنه سيغير من نفسيته ويجنبه الإحراج.