في العام 1993 عدت من الخارج الى الحبيبة عدن ... وجدت الحياة فيها و العادات قد اختلفت و تبدبت كليا... ليس هذه عدن التي تركتها... ليسوا هولاء أبناؤها.... اصبحت غريبة بشعة معقدة مخيفة صاخبة... لا لا ليست كما تركتها بسيطة نقية بهيجة صادقة ... الكثير من الاشياء تجوب كالوباء تعتدي على شخصية الحبيبة عدن ....تجاهد في طمس صفاتها و حتى لهجتها المميزة... الكثير من المصطلحات الجديدة اصبحت تتداول في لهجة الناس و اختفت كلمات لطالما تميز بها ابناء الحبيبة!!! كثير من العادات الدخيلة ....و التي فقط تلبس رداء العفة و الطهارة ... لكنها لا تستطيع اخفاء قبحها ... حتى الناس في شواطئها غريبة.. جبالها تغتصب ببنايات عشوائية.. متنفساتها تغلق في وجه العوام... الحرية اصبحت مفقودة للناس في التجوال بحرية الى الاماكن النائية...فقد اصبحت ملكيات للقادمين الجدد.. كل ذلك و غيره الكثير..جعلتني مكدرا مهموما... فلم تكن تلك الوحدة هي التي حلمنا بها و تم غسل مخنا بها، في مدارسنا منذ الصغر... و لم تكن هي التي قراءنا عنها في صحفنا التي تصلنا الى المهجر و تأجج فينا الشوق و الحنين للعودة و العيش تحت ظلال نعيمها!! و مع ذلك فان موقف اجتماعي حدث، لا زال عالقا في ذهني حتى اليوم و لن انساه ما حييت !! موقف صدمني بشدة من ضمن مواقف كثيرة!! كنت مرافق بسيارة احد الاصدقاء و كنا نسير في الخط البحري خط الجسر!! كنا نسير بجانب الطريق الايسر و لكن ببطء فمر من جانبنا باص يقف في بابه شاب و هو يرتدي بدلة رجال المرور الكاكي بالاكمام البيضاء على ما اتذكر... اشار الينا بان ندخل الخط اليمين نظرا لاننا نسير ببطء... ربما لم يعد الكثيرون يتذكروا بان السيارات في الخط اليسار يجب عليها ان تسير بسرعة و الا فانها مخالفة!! و لكن رفيقي لوح بيده مبديا عدم اهتمامه و استمر بالسير مخالفا... وصلنا الى جولة ريجل حيث كان المرور الشاب في انتظارنا امرنا بالوقوف على جانب الطريق ... و لم يوقفنا قبلها في الخط السريع و لا في وسط الجولة!! بكل ادب طلب اوراق السيارة الملكية و الليسن.. اخرج رفيقي بطاقتة العسكرية، و قد كان ذو منصب في امن الدولة، و قال يغمز نحن رفاق!! و من لا يعرف فرجل امن الدولة كان له اولويات في اشياء كثيرة. . لكن الشاب الشجاع قال و بنفس الكياسة: بطاقتك العسكرية على عيني و راسي و لكن ما اريده هو اوراق السيارة!! ...الرشوة.... اخرج رفيقي دفتر لا اعلم ما هو... هل هو بطاقته الشخصية حينها او الملكية؟! و لكنه وضع بها ورقة نقدية ان كنت اتذكر جيدا فئة خمسة دينار حيث كنا لا نزال نتعامل بالعملتين!! قال الشاب: ما هذا؟! فقال رفيقي :العيد قادم حاجة للاولاد!! و هنا رائت الغضب على وجه الشاب و ربما نفس الغضب كان في صدري لاني كنت احاول اوقفه قبل تقديمه للرشوة!! و لكن نبرة صوته استمرت على نفس المستوى و قال:كمان تقدم لي رشوة؟! فامسك بما في يده من اوراق و قال لرفيقي: دور السيارة الى حوش المرور!! ...المحسوبية.... حوش المرور كان في الجهة الأخرى من الجولة.. و ما ان دخلنا حتى وصلنا على مدير كبير سمعت رفيقي يناديه ب الابيض تقريبا.. وقف الشاب يشرح القضية لذلك المدير الذي ظل مبتسما ثم اخذ الاوراق من يد الشاب و امره بالانصراف و سلمها لرفيقي. .. لقد شعر الشاب بتعاطفي معه ...و بالفعل كنت كذلك ...و زاد ذلك التعاطف حين رائت تعابير وجهة المحبطة بسبب موقف مديره و سخريته من عمله.. فارسل لي رسالة استنكار بتعابير من وجهة و عضه لشفتيه..و تقليب يديه... احرجني ذلك الموقف كثيرا... خرجت و انا اعاتب رفيقي غاضبا... كنت اعنفه لماذا يتصرف بهذة الصورة البشعة و اللا اخلاقية... ذكرته بالمبادئ... قال لي اصحي العالم اصبح يتعامل بهذة الصورة في كل مكان!! عندما عدت الى البيت كنت منكسرا محبطا... رديت على رسالة جاءتني من صديق ظل في تلك البلاد الاوربية حيث كنا ندرس حينما سألني فيها كيف لاحظت التغيير في عدن بعد الوحدة... قلت له افضل ان تبقى تقراء في الصحف و تحلم... لان الواقع صادم بكل معنى الكلمة... الفساد قريبا سيعم كل شئ.. لقد كنا نتوقع ان المبادئ و القيم و الانضباط و الادارة هي التي ستسود...ان الهير سيعم الجميع لكن العكس ما يحصل في الواقع!! قلت له لم ارى سوى حفنة من اللصوص و سماسرة اللعب بالأخلاق. .. قلت له ايضا... الوحدة التي تمت هي تقاسم الثروات بين الكبار و ليس للناس فيها اي مصلحة تذكر... صح النوم يا صديقي. .. فكل المؤشرات تدل على طوفان مدمر من الفساد قادم ليلتهم كل جميل... فكم هو مؤلم لاني كنت على حق!