كثر المنتقدون لي من الاهل والاصدقاء وزادت تعليقاتهم واعتبروا ان هناك سوء تدبير مني عندما لم اقضِ الاّ ساعة واحدة في مطار شيكاغو وهي الساعة التي انتظرت خلالها الرحلة الداخلية الى روتشستر نيويورك قضيتها مع من استقبلونا وهذا ما اشرت اليه في مقالي السابق ( صدى نشيد"قال الجنوبي" على ضفاف مضيق البوسفور)..وأشاروا بان ذلك التصرف قد اغضب الجنرال وأحزن والدتي .. هم لم يدركوا بانني كنت بزيارتي الى تركيا قد استنفذت كل ايام إجازتي وان ظروف عملي لن تسمح لي بالبقاء حتى يوم واحد في مدينة شيكاغو ..لذا قررت ان اكفر عن خطأي وأمارس الاعتذار بزيارة مفاجئة اسميها زيارة وفاء وطاعة واقدم بذلك شي من بر الوالدين وان تكون في عطلة نهاية الاسبوع .. لقد سعدت والدتي بهذه الزيارة ورحب بي الجنرال .. ثم قال لي: 'أتدري أننا منذ ساعة لقائنا فيك وتوديعنا لك في مطار شيكاغو وانا لم استوعب كيف خذلك جمال المفردات و غزارة بحور اللغة العربية في ان تصيغ شكراً لمن اهتموا بكم وسهلوا زيارتكم .. وكيف لم تسعفك البديهة في ان تطلبهم ان ياتوا لزيارتنا حتى تردوا لهم شي من الجميل فالحياة لن يكتمل معناها الى بممارسة مبدأ الأخذ والعطاء .. سيما وقد تواضعوا واكرموكم بمجاملة عظيمه قلبوا فيها الحقيقه واعتبروا أنكم انتم من فَسحهم . قلت له: لا ياسيدي انا لم أنسَ ان اعلق على مقولتهم هذه .. قال لي: اذاً فرج همي! وقل لي كيف كان ردّك عليهم؟".. لقد شكرتهم ياسيادة الجنرال على هذا الاعتراف واكدت لهم عن قناعتي بان ما قالوه هو الحقيقه بلحمها ودمها ووعدتهم باننا سنكرر الزيارة الى اسطنبول في العام القادم حتى نفسحهم مرةً اخرى وبثقة عالية أخبرتهم بانهم سيقضون الأجمل في زيارتنا القادمة لهم .. وتظاهرت للجنرال بانني جاد فيما أقوله وان هذا كان محتوى كلمات الوداع . كنت ادرك بانه لن يستسيغ مطلقاً هذا الأسلوب وهذا الرد مع من أحسنوا ضيافتنا .. ولكنني حرصت ان ارفع درجة حرارة النقاش مع الجنرال . رد قائلاً : عليك ان تحمد الله في أنني لم أكن حينها بجانبك ؟".. ثم استرسل بالحديث وفيه نبرة عدم الرضا.. عليك ان تعرف بان الحياة ليست فقط قراءة وكتابة او حقن إبر وعمل مناظير وليست تشخيص حالات مرضيه انها فن التعامل بين البشر والتواضع والتقدير .. للأسف انت بتعبيرك هذا اثبت بانك ركيك في التعامل مع الناس وفي لباقة الحديث وفي اظهار التواضع والتعبير عن أهمية وجمال ما يعملوه الناس في حياتنا .. بالله عليك كيف سمحت لنفسك ان تطلق هذا التصريح ؟؟ فبدلاً من ان تشكرهم تحملهم جميل وتدعي بانك قد فَسحتهم ؟.. هُنا .. ادركت أن درجة سخونة الجنرال وصلت اقصاها .. حيث واصل حديثه ولكن الآن بصوت مرتفع:" إذاً قُلْ لي ماذا تعلمت من هذه الزيارة ؟؟".. سؤال لم اتوقعه والسبب هو انني كتبت وقلت كل ما عندي عن الزيارة ..لذا أصابتني لحظات فيها رهبة الوقوف وانا الضابط البسيط أمام هيبة الجنرال وهو ساخن المزاج .. .. فتحاشيت الخوض في تفاصيل سطحية لن تشفي رغبته .. فيعيد ما قاله لي يوماً ووثقته في منشوري السابق ( حوار ساخن مع الجنرال) حينما قال لي : "أنك سطحي في تحليلك فأنت لم تلامس الاّ قشور الحقيقة "
خلال تفاعلي الطويل مع الجنرال تعلمت بانه يحب فن الاقتصاد والتقنين في الكلمات والعبارات .. وهذا يُرهقني كثيراً لأنني لا أجيد هذا الفن .. فأنا حتى أوصل فكرتي عليَّ أن أحشد الكثير من الجُمل والعبارات وهذا في وجهة نظره نوع من الترف اللغوي بل أحياناً يوصمه بأنه تكلف و حشو. .. لذا تظاهرت بأنني انشغلت بطباعة تعليق على صفحة تلفوني وأنا ادرك بأن ظَاهِرَة الادمان بالكتابة في وسائل التواصل الاجتماعي يكرهها الجنرال على الرغم من انها اصبحت مستشرية يمارسها الكثيرون منا، أي انها وللأسف اصبحت مقبولة اجتماعيا .. فالجنرال دائما ينصح أبنائي ان يتحاشوا ما أمكن ممارسة تلك العادة التي فرضتها وسائل التواصل ، اذ يخشى أن تفقدهم فن التعامل مع أفراد المجتمع بالكلام الحي وتبادل المشاعر الإنسانية الحقيقية وليس الالكترونية .. ادرك الجنرال حيرتي فهذا ليس من طبعي وانا الضابط الجنوبي ان أتجاهل الجنرالات الحقيقين ..هنا اقصد جنرالات الجنوب، أي جنرالات زمن الشموخ والكبرياء او ما أسميه انا (الزمن الجميل) .. لذا استرسل بالحديث قائلاً:"يابني أنت تتحدث عن وطنك الأول بحب وبفخر وأيضاً بحرقه بسبب جروح الوطن ومعاناة الشعب لكن من وحي تلك الزياره ووصفك لها سأقول لك بأن للأتراك تاريخهم الذي يفتخرون به ولنا تاريخنا الذي نفتخر فيه ..لقد علمتنا احداث الحياه بأن يوماً لك ويوماً عليك ويوماً لا لك ولا عليك .. في القرون القديمة وتحديداً في القرنين السادس عشر والسابع عشر ستقرأ بانهم بوحدة قياداتهم واخلاصها، خاصة في عهد سليمان الاول (القانوني ) صنّعوا واحدة من اعظم أمبراطوريات التاريخ انتصاراً واستعماراً، وستقرأ في ما يليها من صفحات كتاب التاريخ الإنساني بانه وبسبب سوء تدبير قياداتهم واستشراء الخلافات وتضارب المصالح اصاب الفساد جسد الامبراطورية حتى وصفت في نهاية القرن الثامن عشر بالرجل المريض. لكنهم في نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي تعلموا من دروس وعبر التاريخ فتجنبوا تكرار اخطاء الماضي وتبنوا وطوروا كل إيجابي يزخر به تاريخهم ففي الزمن الحاضر قوة ووحدة القيادة التركية وسموها فوق المصالح الشخصية وتغليب مصلحة الوطن والشعب على كل المصالح هو ما دفعك اليوم لتزور و تصف صرحاً جميلاً من الحضارة والاستقرار الأمني والتسارع الاقتصادي، وبذات الوقت تبكي ونبكي جميعاً وطننا الجريح واختلاف قياداتنا وتشرذمنا .. إذاً عليك ان تقول من وحي هذه التجربة بأن هذا ما يحتاجه وطننا .. فبعض قيادتنا غير موحدة ومتذبذبة تجهل التكتيك ولا تمتلك استراتيجية واضحة المعالم.. أنه من المؤلم أن أقول لك باننا اقصد شعب الجنوب العربي قبلنا بشرعية القيادة لأنها فرضتها الظروف وتعقيدات المشهد السياسي ونتائج حرب اكتساح الجنوب لكن ما يجعلني أستشيظ غضباً هو أنه رغم تحقيق المقاومة الجنوبية البطلة المدعومة بعاصفة الحزم وإعادة الامل الإنتصار، ما زالت تلك القيادة تقبل بالانهزام والهروب وتؤمن بأنها بذلك تحقق انتصاراً على اعدائنا من القيادات الشمالية السنحانية -المُرانية تلك التي تشبثت بالأرض حتى تُمارس دورها في القيادة فمنحت وتمنح اتباعها الإصرار والصمود على الرغم من فظاعة ظلم وخطأ أهدافهم الاستعمارية الغير مشروعه .. أتدري أيها الضابط حتى الجيوش العظمى تنكسر وتنهزم عندما ينهزم او يهرب قائدها ..
في السبعينيات والثمانينات من القرن الماضي كانت تجربتنا في الجنوب توصم بالفريدة والآن اعاد ابطال عدن تميزها وفرادتها عندما انتصرت المقاومة الجنوبية في ظل انهزام ما نسميه بالقيادة الشرعية. ألم أقل لك بأننا بحق بلد الصمود والتميز والفرادة والمفاجئات؟؟ وأننا نملك تاريخاً يحق لنا ان نفتخر فيه وندرسه للاجيال القادمة ..
اذا اعتمدنا على القيادات التي تهاب العودة للوطن فلن نصنع انتصاراً حقيقياً لأهدافنا المشروعة ولن نصنع حضارة مثل تلك التي وصفتها فشتان بين القيادتين ..حتى ابناء السعودية والخليج نزلوا يشاركون في القيادة ويقاتلون على الارض ويحاربون حربنا ويستشهدون وقيادتنا الشرعية تخاف من رطوبة وحر شمس عدن . في تجربتي الطويلة اعترف بان حتى مشاعري قد تصلبت ففي الخمسينيات، خسرت الإخوة وابناء العم في فتن قبليه غير مبررة وفي مرحلة الكفاح المسلح خسرت الكثير من رفاقي في القطاع الفدائي وبعد الاستقلال خسرت الرفيق بعد الآخر في معارك خارجيه وداخليه وفي مقدمتهم رفيقي الأول سالمين واعترف بأنه كان ولا يزال يحزنني فراقهم لكن هذه المرة شعرت بحزن يكاد ان يسحقني، كيف يقاتل ويقتل ابناء الخليج والسعودية على الأرض اليمنية والقيادة الشرعية لم تبرح الفنادق الوثيرة؟؟ . . لكن ما أتمناه هو ان تتحقق وحدة صف المقاومة الجنوبية وكل التيارات العسكرية والاطياف السياسية التي آمنت باستعادة الارض والكرامة الجنوبية وان يلتف الشعب حول تلك القيادة فيد الله مع الجماعة ومع الحق. كانت رحلتك جميلة يقول الجنرال، وصفت فيها درجة حُب من التقيت بهم للوطن والهوية ولمورثنا الشعبي .. وكيف نسجتم علاقات صداقة واخلاص ومودة وقلت لي بانك ستحتفظ بهم اصدقا أبديين .. أتدري لقد تعلمت في حياتي بان الصداقة التي نسمُوا فيها فوق المصالح الشخصية الضيقة هي التي يُكتب لها الصمود والبقاء .. وأنتم هناك لم تجمعكم المصالح حتى تفرقكم المصالح ايضاً .. هل فهمت ؟؟".. كان فهمي لما يقصده يشوبه الضبابية الى الدرجة الذي شعرت حينها وكأنما انا تلميذ في الابتدائية، فحتى أهرب من الاجابة لزمت الصمت وتظاهرت بانني اُجمع أفكاري .. لكنه هنا تحاشى إحراجي وانا في ضيافته فاسترسل بالحديث قائلا:" ما أريد ان أقوله هو ان على الكل من اجل مستقبل الوطن ان يحاكي تلك التجربة الانسانية البسيطة جداً والمحدودة وأن نطبقها في علاقتنا مع الوطن أي أن نتحد نحن ابنا الوطن ونتحاب مثلما اتحدتم وحبيتم بعضكم ونتكاتف جميعاً ونترفع عن الذات والمصالح، هكذا فقط سنقضي على المبدأ الخاطئ ( الغاية تبرر الوسيلة) وأقصد بالغاية السلطة كطريق للكسب والفيد.. والوسيلة هي التآمر على بَعضنَا وعلى أفضلنا فتاريخنا المعاصر يؤكد بان نتيجة ممارسة ذلك المبدأ الخاطئ هو شق الصف الوطني وانعدام الثقة وضياع الوطن. ألم أقل لك بان علينا ان نأخذ العبر من تاريخنا كما فعلت قيادات من زرت أرضهم. هل سألت نفسك لماذا قدموا لكم ابنا الوطن في المهجر التركي كل هذا الاهتمام؟؟".. ثم واصل حديثه قائلاً :"كل من وصفتهم في منشورك هم نماذج من الكثيرين من ابناء الوطن الذين وبسبب فساد وظلم النظام شدوا رحالهم بحثاً عن عيشٍ كريم ، فتحدوا الصعب واعتلوا سلم النجاح في المجال التجاري.. وهم كما وصفتهم كرام وأوفياء ليس فقط لك ولكن لابناء الوطن أينما كانوا في الوطن أو خارجه والماضي القريب يشهد على ذلك ..لكن سلوكهم هذا يؤكد بأن اهتمامهم بكم تجاوز الواجب .. انهم أيها الضابط الجنوبي والطبيب العسكري يدركون ان بِنَا الوطن والنظام لن يأتي الاّ ببنا الانسان ففي اهتمامهم قد عبروا عن شئين اثنين .. الاول: هو ممارستهم تكريم المتعلمين من ابنا الوطن الذين تنكر لكفاءتهم نظام المستعمر الفاسد ففضحوا بنجاحاتهم حيثما حلوا في كل أقطار العالم ظلم النظام ودرجة فساده وتهميشه للكوادر الجنوبية.. والثاني: هو أن هذا التصرف يعكس قناعات كل المخلصين للوطن الذين يؤمنون بأن بِنَاء الأساس المتين الذي عليه يشيد أمن وحضارة الوطن لن يأتي الاَّ بمشاركة حملة الشهادات العلمية والاقتصادية والسياسية الذين يملكون الخبرة والكفاءات ومقومات القيادة والتاريخ النظيف والمشرف.. وانه على القيادة الشرعية او القيادات الجنوبية الفاعلة على الارض ان تستوعب تلك الحقيقة وتؤمن بها وتطبقها حتى وان تعارضت مع مصالحهم .
هل فهمت الآن لماذا تحولت تركيا الى بلد يستقر وينجح فيها من ظلمتهم أنظمة أوطانهم الفاسدة، واصبحت بلد السياحة والاستثمار و النجاح السياسي والاقتصادي؟؟".. ثم اختتم أفكاره واستنتاجاته بان قال "الان عليك ان تتعلم اللغة العربية ..لقد أخجلتني ! أنا لا أريد أن اسمع بعد اليوم بأن لغة الوطن الأول وأساس الهوية التي تتحدث عنها قد غادرتك . هل فهمت ؟؟". وقفت من مقعدي أديت واجب التحية للجنرال وبصوت عال (نعم فهمت يا سيادة الجنرال ) حتى أثبت بأنني ما زلت أفقه قواعد الضبط والربط العسكري الجنوبي وحتى لا يكتشف نقاط ضعفٍ أخرى لَدَيَّ.