في نهاية عام 1939 جاءت الرحالة البريطانية فريا ستارك إلى عدن في إطار مهمة رسمية - إعلامية واستخباراتية- كلفتها بها حكومة بلادها. وحالما وصلت إلى عدن، تمّ تعيينها مساعدة لستيوارت بيراون، مدير مكتب الإعلام. ولتسكينها تمّ تخصيص غرفتين من مبنى المكتب، الذي يطل على منظر بانورامي للميناء في منطقة التواهي، قدّمه التاجر الفارسي فرامروز، دعما حربيا للحكومة البريطانية، التي مكنته - بفضل حمايتها- من جمع ثروته في هذه السواحل المكتظة بالقراصنة كما تقول ستارك. ومن أبرز المهام التي كان على فريا ستارك الاضطلاع بها في عدن: الإشراف على توزيع النشرة التي يعدها المكتب، ومراقبة الأفلام الواردة، وإعادة صياغة الأخبار وترجمتها إلى العربية، وبثّها بالراديو ومكبرات الصوت في مختلف ساحات عدن. وقد ضمّنت فريا ستارك كتابيها (الشرق هو الغرب East is West)، و(غبار في مخالب الأسد، سيرة ذاتية 1939-1946 Dust in the Lions Paw )، أفضل رصد للأحداث اليومية التي شهدتها مدينة عدن خلال السنة الأولى من الحرب العالمية الثانية. ومن المعلوم أن معظم أجزاء الكتاب الثاني تتكوّن من مزيج من الرسائل التي بعثتها المؤلفة إلى أقاربها وأصدقائها في مختلف أنحاء العالم، ومن اليوميات التي ذكرت أنها انتظمت في تسجيلها طوال سنوات الحرب. كما رصدت فريا ستارك في هذين الكتابين مشاعر الناس الساكنين في عدن تجاه الانتكاسات التي مُنِيت بها فرنساوبريطانيا خلال تلك الفترة، وأكدت أن سكان المدينة كانوا يشعرون بالخطر منذ بداية الحرب، إذ أنهم مقتنعون بأن إيطاليا ستدخل الحرب إلى جانب ألمانيا، وأن ذلك يعني قيام القواعد الإيطالية في القرن الإفريقي بشن غارات على مستعمرة عدن البريطانية. وذكرت أيضاً أنّ كثيرا من سكان عدن قد سارعوا في مغادرة المدينة حتى قبل دخول إيطاليا الحرب في العاشر من يونيو 1940. كما قامت السلطات البريطانية نفسها بترحيل معظم الأطفال والنساء البريطانيات قبل ذلك التاريخ، وكتبت: "وكان العرب في عدن قلقين على أسرهم، ويتساءلون عمّ إذا كانت لحج ستظل آمنة، وفضَّل كثيرٌ منهم السفر إلى الهند". وأضافت أنها ومديرها ستيوارت بيراون وضعا مجموعة من منشورات التوعية والتحريض، وقاما ببثها في مختلف الساحات ومراكز الشرطة في مدينة عدن. ونجد صدى تلك الأحداث في مذكرات المحامي محمد علي لقمان (رجال وشئون وذكريات Men, matters and Memories (، الذي كتب في الحلقة الرابعة والستين منها: "في العاشر من يونيو من عام 1940، انضمَّ موسيليني إلى الحرب، إلى جانب هتلر، وبذلك انضمت الفاشية إلى النازية، في محاولة للسيطرة على العالم. وكنت قبل أيّام قليلة، أرسلت أسرتي إلى لحج، حيث ساعدني السلطان عبد الكريم في استئجار بيت طيني محاط بملحق ضخم بدون بوابة، لكن الأمن جيدا بنسبة 100%، ولزمت عدن مع ابني علي، الذي كان مسئولا عن النشرة اليومية لمكتب الإعلام. وفي ليلة إعلان موسوليني الحرب، كنت جالسا بالقرب من المذياع، واستمعت إليه يتوعد ويهدد باللغة الإيطالية من محطة باريس الإذاعية. وجاءني السيد ستيوارت بيراون يطلب مساعدتي لإذاعة الأخبار من مكبرات الصوت من مركز شرطة كريتر. وقد نبّه الناس إلى أنْ يتوقعوا المعاناة والمحن، وأن يكونوا أقوياء في مواجهة الأضرار. وقد تمّت محاصرة المواطنين الإيطاليين في عدن خلال ساعة واحدة بعد إعلان الحرب وتمّ التحفظ عليهم". وقد توقعت فريا ستارك في بداية الحرب العالمية أن تقوم إيطاليا بقصف مستعمرة عدن، وهذا ما حدث فعلا حينما أعلنت إيطاليا الحرب على بريطانيا العظمى وفرنسا في العاشر من يونيو من عام 1940. وفي نهاية شهر يونيو 1940، كتبت فريا ستارك أن الغارات الإيطالية على ميناء عدن أصبحت منتظمة، وتحدث في الغالب أثناء الليل، أو عند الفجر. وأدت الغارات إلى تحطم زجاج نوافذ المباني، بما فيها المبنى الذي يقع فيه المركز الإعلامي. وتقول إن منطقة (الهلال) التجارية في التواهي غدت شبه مهجورة، و"هيمنت حالة من الهلع على المدينة، وجعلت السكان يتهافتون على شراء المواد الغذائية، والبضائع الأخرى من المحلات التجارية التي شرعت في التخلص مما لديها من بضائع، لأنها كانت تحرص على المال أكثر من البضائع. وهرب معظم السكان من منطقة التواهي، وكذلك من منطقة المعلا، وانتقل أصحاب المتاجر إلى فروع مؤسساتهم في منطقة كريتر، التي كانت أكثر أمنا". وذكرت فريا ستارك أنّ السلطات البريطانية قامت بتلغيم ميناء عدن، وفي نهاية شهر يونيو 1940 ألقت القبض على ثلاث غواصات إيطالية. وشاركت هي في التحقيق مع بعض ملاحيها. وكانت فريا ستارك، عند بدء تعرض عدن للغارات الإيطالية، قد بادرت إلى اقتراح تشكيل ثلاث فرق من الشباب العرب للعمل التطوعي: حراسة الشوارع والمنازل أثناء الغارات الجوية الإيطالية. وتقول إن السلطات البريطانية، التي لم تعترض على ذلك، لم تقدم أية مساعدة، وتضيف: "بل أن الجيش المرهق والسلطات المحلية اعتبرونا إحدى المخلوقات الوهمية، إن لم نكن آخرها. لكنّا شعرنا أن ما قمنا به كان إيجابيا، على الأقل للهواة الذين يسعون إلى المشاركة في الدفاع عن أنفسهم. وحينما خططنا للتدريب في مجموعات مسلحة، أخبرنا البريق الذي يشع من عيني علي محمد لقمان إننا على صواب ". ونجد صدى لما كتبته فريا ستارك عن تلك الفرق الأمنية في الافتتاحية التي كتبها محمد علي لقمان للعدد 26 من صحيفة (فتاة الجزيرة)، الصادر بتاريخ 23 يونيو 1940. فقد جاءت تلك الافتتاحية على النحو الآتي: "الدفاع عن عدن إن دخول إيطاليا في الحرب قد قربنا من ساحات القتال، وأصبحنا عرضة لكل ما في القتال من ويلات وأهوال. ولكننا حتى الآن والحمد لله، بفضل قوة الدفاع البريطانية في هذه المنطقة، في خير وسلامة. ولم تؤثر غارات العدو على وطننا وبلادنا، بل باءت بالفشل والخسران في كل محاولة قامت بها. بيد أنه يجب علينا معشر العدنيين أن نساهم في الدفاع عن وطننا بكل ما نستطيعه طالما قد هيأت لنا حكومة سعادة والي عدن الفرصة للأخذ بنصيب وافر في هذا الدفاع. وقد تطوع حتى الآن 100 من أبناء العرب والهنود الوطنيين وانخرطوا في سلك المحافظة على الأمن في مدينة عدن. وتطوع 50 آخرون في مدينة الشيخ عثمان، كما انخرط في سلك المتطوعين عدد كبير من الوطنيين على اختلاف نحلهم وأجناسهم، والتحقوا بمراكز المحافظين ضد الغارات الجوية وسُلِّمت إليهم الأشرطة والصفارات والكمامات. وأظهر أهالي عدن على وجه العموم هدوءا وثباتا عظيمين ولم نر منهم حتى الآن إلا الطاعة لأوامر المحافظين على الأمن العام والإسراع إلى المخابئ عند الغارات الجوية. وشعر الناس بما لهذه الدولة من فضل عليهم في نشر ألوية الأمن والأمان فيما مضى من الزمن. ولم يبق أحد لم يبتهل إلى الله بأن ينصرها ويؤيدها في الدفاع عن حريات الشعوب. أما مراكز الدفاع فقد برهنت على يقظة واستعداد كما برهن الأسطول البريطاني على كفاءته وقوته بما قام به من صد الغارات الجوية وأسر طائرات العدو وغواصاته في هذه البحار واقتيادها إلى ميناء عدن صاغرة حيث رآها الجميع. وفي المحميات السبع تسود السكينة والرغبة الأكيدة في التعاون مع الحكومة البريطانية للوصول إلى النصر ضد أعدائها بل أعداء جميع الشعوب الضعيفة التي لا تنتظر سوى ضياع حريتها واستقلالها إذا ما انتصرت ألمانيا في هذا الحرب. أما بريطانيا العظمى رغم كل ما يقال عنها فإنها لم تعامل رعاياها يوما من الأيام إلا بروح العدل والقانون. وقد اشتهر البريطانيون دائما بعدلهم الاجتماعي العام. ولذا تتكاتف معهم جميع الشعوب العربية تقريبا والشرقية على وجه العموم لما يؤملونه على أيديهم من نيل الحقوق بعد الحرب. وإننا نؤمل ونرجو أن سعادة الوالي سيشجع التطوع في سبيل الدفاع عن هذا الوطن وسيسمح لجميع الشبان الراغبين في المحافظة على الأمن والاستقرار أن يشتركوا في هذا السبيل ولهذه الغاية، حتى تعود المياه إلى مجاريها وحتى يحق الحق ويزهق الباطل". وبعد عام ونصف من ذلك التاريخ، يعود محمد علي لقمان ويكرس افتتاحية أخرى (العدد 110 الصادر بتاريخ 8 مارس 1942) للحديث عن (الدفاع عن عدن)، يشير فيها إلى القرارات التي اتخذها والي عدن، هاثورن هال، بشأن وضع أفراد الفرق الأمنية في كنف الدولة وتحت رعايتها، وعلاج المصابين منهم، إذ أنه سنّ قانونا بإعطاء معاشات تقاعد للذين يصابون بجروح أو يفقدون أرواحهم.